کلمات مبعثرة عن الشهداء (٤)
غلام الله الهلمندي
كنت أحدثکم عن أبي حمزة، الشاب الإستشهادي البطل الذي کان یملك قدرا کبیرا من التحمس للإسلام، والشوق إلی الجنة، الذي کان قد فارق أهله ووطنه أساساً لیضحّي بحیاته ویجود بروحه ویسخو بدمائه الطاهرة دفاعا عن المستضعفین، ونصرةً
للمجاهدین. کان ینتظر فرصة مناسبة للعملیة الإستشهادیة، ینتظر وکأنه علی أحرّ من الجمر، إي والله.
بعد انتظار طویل مریر، آن للفارس أن یترجّل من ظهر الحصان، قبل أیام من شهر رمضان المبارك من سنة (١٤٣٠) بُعثت کتییة مؤلفة من ثلاث سیارات إلی منطقة «شاربُرجك» لعملیة عسکریة؛ ولکن مع الأسف بسبب مراقبة وتجسس الجواسیس، لم یظفر المجاهدون بأن یمارسوا العملیة. لأجل ذلك، عادوا بعد محاولات متضافرة بائت بالفشل، عادوا من حیث ذهبوا؛ لکن العودة لم تکن علی غرار الذهاب، فإن الکتیبة عند الإیاب کانت مؤلفة من سیارتین فحسب، وأما السیارة الثالثة فتعرضت في طریق العودة لغارة جویة شنتها مقاتلة من طراز “F-16” فاحترقت السیارة مع من فیها من الأبطال، نعم لم تعد السیارة أبدا، ولم رکّابها التسع أبدا. (أستغفر الله) بل عادوا، ولکن محمولین علی المناکب، عادوا مقتولین، عادوا متطایرةً أشلاؤهم
وجماجمهم، عادوا شهداء، (نحسبهم کذلك والله حسیبهم)، لن أقول: «عادوا أمواتا» لأن ربّنا الذي بذل هؤلاء الأبطالُ بأرواحهم، وضحّوا بحیاتهم في سبیل مرضاته، لا یسمح أن نقول لهم «أموات». إنهم أحیاء بدون ریب عند ربّهم یرزقون.
نعم، لم یعد أبو حمزة أبدا، بل رحل إلی رحاب الله، رقد للأبد تحت ثری «برافشا»، بعیدا عن أسرته وذویه، بعیدا عن مسقط رأسه آلاف الأکیال، دفن تحت التراب ودفن معه بسماته اللطیفة، والتي تدل علی نقاء القلب وسلامة الصدر، وصفاء السریرة، والتي تثیر إعجاب کل من یلتقي معه وتسترعي انتباهه وعنایته، ودفن معه شفتاه المصفرّتان الجافّتان من شدة الظمأ في أیام الصیف، وبعد العصر خاصة، ودفن معه تلك القوة الجبارة وذلك العزم العنید علی القیام بعملیة استشهادیة. هکذا انتهت تلك الحیاة الملیئة بالتعب والجهد والزهد، الحیاة الزاخرة بالحیویة والنشاط، الملیئة بالقیام والصیام.
وداعا أبا حمزة! وداعا رفیق الدرب! وداعا حبیب القلب! وداعا أیها الإنسان العظیم الذي یحتاج العالَم لأمثاله! لا تنس العهد الذي بیني وبینك، السرّ الذي لا یعلمه إلا الله، ثم نحن، أنا وأنت.
إن الیوم الذي نُعي إلینا الشهداء فیه یوم لا یمکن نسیانه علی الإطلاق، کان یوما کثر فیه البکاء، وجرت فیه الدموع بغزارة، رغم المقاومة التي لم تنفع أبدا، ولاحت آثار الحزن علی الوجوه والعیون، واعتصرت الآلامُ القلوب، آلام الفراق الأبدي، الفراق الذي أرجو أن یتحول یوم القیامة إلی لقاء أبدي، لقاء لا فراق بعده!
لا أنساه أبدا، أذکر ملامح وجهه وسمورة لونه جیدا، أذکره، وکأني أحدق حالیا في قسمات وجهه، لکن في عالَم الخیال أذکر کل ذلك کأني عاشرته أمس، کیف أنساه وهو کان رفیق دربي؟ کیف أنساه وأنا کنت أنیسه الوحید، لا أقل لعدة أیام؟ کیف أنساه وقد کان بیني وبینه میثاق غلیظ (لکني لا أذکره لکم، اعذروني). من العسیر عليّ أن أنسی شخصا ترك في حیاتي تأثیرا ایجابیا عظیما.
بعد عدة أیام من استشهاده، اتصل أحد الإخوة بأسرته هاتفیا حتی یخبرهم بما حدث، حتی یخبر أمّا حنونا عن استشهاد ابنٍ بارّ صالح عابد زاهد، عن استشهاد فلذة کبدها وقرّة عینها، عن استشهاد ابن نشأ في حضنها ورضعت من ثدیها لیشبّ یوما
ویخدمها ویقرّ عینها، حتی یخبرها بأن أبا حمزة لن تقول لك بعد الیوم: «أمّاه!» بأن أبا حمزة لیس حالیا علی قید الحیاة، بل مُزق جسدُه، واحترق بدنه، وانتثرت أشلاؤه وسالت دماؤه في دیار الغربة، بأنه دفن في أعماق التراب الأفغاني وحیدا بعیدا عن الأهل والوطن!! یا تری هل صرختْ وصاحت وناحت؟ کلا، وألف کلا، هل بکت وشقّت قمیصها، أبدا. لم یفعل ذلك أحد من أفراد تلك الأسرة المؤمنة الصابرة المحتسبة. کان الأخ الذي قد اتصل بهم عبر الهاتف یتوقع ذلك بلا شك. کان یتأکد
أنه سیکون البکاء والضجیج، ولکن علی العکس تماما، عندما علموا بأن أبا حمزة قد استشهد، کبّروا، وملأت التکبیرات جوّ المنزل، زلزلت نعرات «الله أکبر» أرجاء البیت.!!!
یا سبحان الله! لا داعي للقلق یا أبناء الأمة! لا تحزنوا، ولا تُراعوا، فإن الإسلام لا زال یربّي الخنساوات، خنساوات یربّین أبطالا یَغارون علی حمی الإسلام، یذودون عن مبادئه وقیمه، یغضبون إذا دیست کرامته، ویثورون إذا انتهکت حرمته، یفتّشون عن طریق المجد التلید، أبطالا إن لم یجدوا طریق المجد صنعوا له طریقا بدمائهم وأشلائهم وجماجمهم. کیف تموت أمة هذا شأنها؟
نعم، ترجّل الفارس، ورحل للأبد، ولکن بعدما أخذ معه مفاتیح السعادة الخالدة، رحل لیجني ثمار التضحیات، ثمار العبادات، ثمار الهجرة إلی الله وإلی المستضعفین، رحل لیتلقی أجرة عمله وتعبه وسهره، أجرة صیامه وعطشه في أیام الصیف، رحل لیتلقی تلك الأجرة في جنة عرضها السماوات والأرض، بین الأشجار والأنهار، بین الریاض والحیاض، بین ظلال وارفة، في أحضان الجمیلات اللواتي طالما انتظرنه بفارغ الصبر.
ما ألذّ الصداقة التي لا تقدّر بأي ثمن، والتي اکتسبناها داخل خنادق القتال وساحات النضال. لا یشعر بحلاوة هذه الصداقة إلا من ذاقها، إلا من عاشها في رکاب المجاهدین، إلا المجاهد في سبیل الله.
هؤلاء أصدقاء الخنادق، ورفاق الدرب، وأحبة القلب وإخوة الإیمان. هؤلاء الذین نحبهم ربما أکثر من أشقائنا الذین ولدتهم أمهاتنا. لا نعرف آباءهم وأمهاتهم، ولا نعرف حتی أسماءهم الأصلیة التي أسماهم بها آباؤهم. قد جمعنا فکر واحد، ومبدأ واحد، وضمتنا ساحة واحدة، ورأیة واحدة.
ما ألذّ الأخوة الإیمانیة وما أجملها وأروعها، الأخوة التي فرضها علینا إسلامُنا، لا، إنما منحها إیانا کهدیة نادرة لا مثیل لها: «إنما المؤمنون إخوة».