
کیف دخلتُ میدان الجهاد لأول مرة؟
غلام الله هلمندي
عشقت الجهاد منذ عهد الصبا، وعشق الصبا نقي لا یکدره شيء، شدید لا یضعفه شيء. کل مسلم یشتاق إلی الجهاد في سبیل الإیمان والعقیدة والأرض والعرض ویحب المجاهدین، بطبیعة الحال. من لم یشتق إلی الجهاد، ولم یحب المجاهدین فلیتأکد أن إیمانه بحاجة ملحة للتعمیر؛ فیجب علیه أن یقوم بعملیة التعمیر بأسرع ما یمکن. إذن فحب الجهاد في سبیل الله من ضروریات الإسلام، والدفاع عن المستضعفین من مقتضیات الإیمان. ولکن من أین فکرت أنا لأول مرة في الإلتحاق بصفوف المجاهدین، ومن أین دخلت قلبي هذه الفکرة أصلا.
نشأت في عائلة تؤمن بالجهاد في سبیل الله عامة وبالجهاد المعاصر في أرض الأفغان خاصة، وتحب کل من یسمي نفسه مجاهدا، ولا تفرق بین مجاهد ومجاهد. أتذکر أني کنت أستمع قصصا عن غزوات رسول الله وصحابته، یقصها علینا والدي من کتاب حینا، وعن ظهر قلبه حینا، وکذلك یقص علینا بعض القصص من الجهاد الأفغاني ضد الشیوعیین. وکذلك کنت أسمع عن طالبان وخاصة عن أمیر المؤمنین الملا محمد عمر -رحمه الله- أنهم یقاتلون ضد الخونة، دفاعا عن المستضعفین ولأجل حاکمیة القرآن، ولأجل استئصال الفتنة، ولکن لم أکن أعرف معاني هذه المصطلحات جیدا آنذاك، «الفتنة»، «حاکمیة القرآن»، «الرایة البیضاء»، «الخیانة» ما هذه الکلمات؟ یا إلهي! ولکني أدرکت من خلال هذه الکلمات المکررة والأنباء التي تنشر یومیا أن الذي یجب علینا نحن هو أن نحب طالبان المدافعین عن الحق والمقاتلین لأجل القرآن الذي أقرأه أنا وأحفظه في دار التحفیظ. هکذا تولدت بذرة حب الجهاد في القلب وصلب عودها في أعماق القلب، شیئا فشیئا. حتی احتلت القوات الأمریکیة – لعنهم الله وطردهم- أرض الأفغان الحبیبة العزیزة الأبیة، بل أرض الإیمان والشهادة، أرض العزة والفداء، هنا أدرکت عمق المأساة التي أصیب بها المسلمون، وعمق المرارة التي تجرعها المستضعفون. أدرکت ذلك بسبب الحزن الذي ساد في المنزل، وبسبب الوجع الذي خیم علی القلوب.
أتذکر جیدا حین استشهد بطل الإسلام الشهید بإذن الله الملا داد الله، تألم أبي وحزن علیه حزنا لا یوصف. کنت أقرأ جیدا آیات الحزن والألم في وجهه. لم أکن أعرف حینئذ من الرجل، وماذا خسر المجاهدون بشهادته، ولکني کنت أری الألم یسیل دمعا من عین أبي. هذا الذي زادني حبا وغراما، ولا أنسی أني استأذنت أبي بعد هذه الحادثة أن أقاتل في أفغانستان دفاعا عن المستضعفین، وکنت مازلت صبیا بعد، فقال حسنا؛ ولکن بعد أن صرت رجلا وقویت علی حمل السلاح والرمایة. ومات أبي -رحمه الله- بعد هذه الحادثة المؤلمة وهذا الإذن المشروط، بعدة أشهر تقريبا، ولم یبق حیا یساعدني في استعدادت السفر ویواسي أمي بعد ذهابي.
جاء یوم حدثت فیه نفسي عن الإلتحاق بصفوف المجاهدین؛ ولکن کان هذا مجرد أمنیة، لأجل أني کنت صبیا بعد، لا أقدر علی حمل السلاح والرمایة. وکنت أعرف أنهم لا یستعملون الصبیان أبدا.
المهم أن بذرة الشوق دخلت القلب ونشأت تدریجیا وقویت حتی جاء بعده العزم علی الجهاد وقوي کذلك تدریجیا، ثم فکرت في الحیلة، حیلة الوصول إلی أرض الأفغان بأي شکل ممکن.
قصة هذا الشوق طویلة، لما دخل الشوق القلب سلبني النوم لیلا والراحة نهارا. یعرف المجاهدون جلهم ربما کلهم ماذا أقول. الشوق إذا دخل القلب لا یسمح لصاحب القلب أن یرتاح ولا یترکه أن ینام، کأنه یدفع صاحبه إلی الهدف دفعا، ولا یملك من أمره شیئا، وهو یری کل شيء في الدنیا دون هدفه، ولا یفکر في غیر هدفه مطلقا، فهو یتألم دائما ویتوجع لیل نهار ولا یستطیع أي مانع أن یعوقه عن هدفه، فإن الحب إکسیر یذوب فیه کل شيء.
کم تألمت لأجل الذهاب إلى تلك الأرض الطاهرة – إذا جاز التعبیر- وکم توجعت في تحقیق هذا الأمل الحلو! وکم انتظرت دون جدوی! وکم طرقت أبوابا مغلقة!
وهذه الأرض لأنها رویت بدماء الشهداء الطاهرة الزکیة، علی مدار الزمن، تملك جاذبیة خاصة. کیف لا وهي أرض وطئتها أقدام الصادقین، أرض نفذت علی ظهرها أحکام الله وحدوده من وقت قریب، فإنها قریبة العهد بأحکام الله في عصر عطلت فیه الحدود منذ قرن تقریبا. إنها أرض یتجدد فیها الإیمان. لقد رأیت لأول مرة منذ ولدتني أمي في هذه الأرض شبابا یؤمن بالإسلام والتوحید والجهاد والمقاومة إیمانا أصلب من الفولاذ، شبابا یحب الموت في الله أکثر من أي شيء في الدنیا.
أخیرا، تهیأت الأرضیة ومهدت السبل فسلکت طریقي إلی «برافشا» بعد انتظار طویل مریر، وفي أثناء الطریق کنت مبتهجا جدا ولکن في ذات الوقت حینا بعد حین یوسوس لي الشیطان اللعین: ربما لا أعود من هذه الطریق أبدا.
لا أستطیع أن أعبر عن السرور الذي غمر قلبي عندما عرفت أني حالیا في أرض الشوق، أرض أنتظرها وأراها في منامي، منذ سنوات بعیدة. لا أقدر أبدا أن أصف هذه الفرحة منقطعة النظیر، الفرحة التي لا تشبه أبدا فرحات الصبیان عند الإحتفالات والولائم والأعیاد في أوان الصبا. لا أقدر على وصفها مهما سوّدت عشرات الصفحات.
هذه أول نقطة تفتیش على مدی عمري توقف سیارتنا وتفتش أبداننا؛ وأنا لا أکره أصحابها ولا أبغضهم، بل أحبهم حبا جما، بحیث لا أستطیع أن أخفي بسماتي من شدة الفرح، ولم یکن في نقطة التفتیش إلا شابان متقنعان صغیرا السن، عرفت ذلك من أصواتهما.
لم یکن وضع نقاط تفتیش علی مداخل «برافشا» قانونا متبعا، إنما یتم وضع نقاط تفتیش عند الطوارئ، هذه خطة عسکریة ممتازة کان ینفذها المجاهدون في ذلك الیوم عندما تحلق الطائرات في سماء «برافشا» ترید قصف مواقع للمجاهدین، وذلك لأن المقاتلات لا تستطیع في الأغلب أن تصوب جیدا وتصیب الهدف بالدقة دون إشارات دقیقة من جانب الجواسیس، وبالطبع وضع نقاط تفتیش علی جمیع مداخل المدینة تمنع إلی حد کبیر من دخول الجواسیس في المدینة والحصول علی معلومات عسکریة وتمنع رصد تحرکات وتصرفات المجاهدین، بناء علی ذلك، إن قصفت المقاتلات دون إشارات من الجواسیس، قصفت عشوائیا تماما، ومعلوم أن القصف العشوائي لا یضر بالمجاهدین، من حسن الحظ، إلا نادرا.
أخیرا، أنا في أرض الجهاد، لا أدري ما هو السر في تراب أفغانستان، بمجرد أن تطأه قدمك، تشعر براحة غریبة وطمأنینة عجیبة وتشعر بسعادة ما فوقها سعادة. کأنك کنت معتقلا وأطلق سراحك من الفور. کلما دخلت أفغانستان، شعرت بالحریة، بكل ما في الکلمة من معنی، مهما کنت تحت قصف کثیف.
قبل المغرب بقلیل وصلت إلی مرکز للمجاهدین. وکنت أنظر إلی کل شيء حولي بدهشة وحیرة وإعجاب، کأني دخلت عالما غیر العالم الذي أعهده وأعرفه. لم أکن أعرف من المجاهدین أحدا، الأمر الذي زادني دهشة. غربت الشمس وبدت اللیلة مظلمة حالکة، وساد الظلام في الآفاق؛ لأن اللیلة کانت من لیالي العشر الأخیرة، ومعلوم أن القمر لا یطلع في هذه الیالي إلا مؤخرا جدا، وساد صمت مرعب في المدینة. قام أحد المجاهدین بتقسیم ساعات الحراسة – لا داعي لذکر اسمه – لم أکن أتوقع بتاتا أنه سوف یستعملني في الحراسة، یستعمل شخصا لم یمسك ولم یلمس البندقیة ولو مرة، طوال حیاته.
فاعترضت علی ذلك دون تریث؛ ولکن في نفس الوقت لم أکن أرید أن أتخلف عن الحراسة التي هي أول تجربتي منذ ولدتني أمي، في الحقیقة کنت أرید أن یعلمني أحد کیف أستعملها وکیف أرمي بها عند الحاجة. فأعطاني الرجل کلاشنکوفا وعلمني شیئا بسیطا عن استعمال السلاح في غرفة مظلمة وفي یده ضوایة ضئیلة جدا، أو علی الأصح فقط أراني الزناد وکیف أضغطه عند الحاجة وقید الأمان وکیف أفتحه عند الحاجة وما إلی ذلك من المعلومات البسیطة، ولم ینسَ أن یخوفني جدا من شن غارات العدو المفاجئة، فأوصاني: خذ حذرك حسنا، لا یفوتك وعیك أبدا، یجب أن تراقب أمامك وخلفك، ولا تغفلن عن یمینك وشمالك حتی لا یهجم علينا العدو وأنت نائم أو غافل أو لاعب. صدقوني لم یکن الأمر جادا إلی هذا الحد ولکن لم أکن أعلم هذا حینئذ.
کنت أحدث نفسي: ها أنذا، أحرس المجاهدین لأول مرة في حیاتي وهم نائمون، وأشعر بثقل الواجب علی عاتقي، ترتعد فرائصي -وربما کل بدني- من الخوف الذي أدخله الرجل في قلبي إدخالا، کنت أشعر أني وجمیع أصحابي النائمین داخل المرکز علی مرأی ومسمع من قناصات العدو في أي لحظة. صدقوني یا سادة! قضیت کل وقت حراستي والکلاشنکوف في یدي وسبابتي الیمنی علی الزناد، ولکن لحسن الحظ أني لم أفتح قید الأمان، مثل جندي قد اتخذ موقعه في الخندق وینتظر بدء العملیة. کنت أری فوق الجدران والسطوح أشباحا لکثرة النظر إلیها بل لشدة الخوف في القلب، أقسم بالله أن تلك اللیلة کانت من اللیالي الآمنة المطمئنة المستقرة بالنسبة لتلك الظروف القاسیة؛ ولکني لم أکن أفهم هذا عندئذ، جراء خوف شدید أدخله الرجل في القلب. یمکن أن عددا غیر قلیل من المجاهدین الجدد واجهوا مثل مصیري.
یتبع بإذن الله