ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه (الحلقة الخامسة)

arhmunnas

صارم محمود

ما إن أمسك القلم بين الأصابع لأكتب عن أخ شهيد، ورفيق دربٍ وفيّ إلا ويستشهد أخ وفيّ، وبطل كميّ، ومجاهد مثاليّ آخر، ويتركنا على جمر الغضا لنتلهب، فكم من مُرّ على خالف مثلي يأتيه نعي إخوته واحدًا تلو آخر فيريد بالكتابة عنهم يخفف عن نفسه، وينفس عن كرْبه إلا ويجدد جراحه مقتل إخوته الجدد ويزيده فجعا على وجع، ويتركه في أتون الأحزان جمرا يتلظى.

في الحلقة الماضية أردنا أن نكتب عن الأخ الشهيد المولوي مقداد تقبله الله الذي كان أكيلنا وشريبنا، ورفيق دربنا أكثر من أربع سنوات إلا واجتذبتنا خواطر أخرى كانت لها صلة بالمولوي مقداد تقبله الله، فشرّقت بنا وغرّبت حتى نسينا أننا أردنا أن نكتب عنه فأردنا أن نستأنف حياته في هذه الحلقة إلا واستشهد في ١٢ محرم الحرام ١٤٤١ الأسطورة الجهادية، البطل المقدام، البهلوان الكميّ، القائد العسكري المحنّك زيد رحمه الله.

في الحقيقة هناك سجلّ من الشخصيات العملاقة الذين لعبوا دورًا مرموقا في الجهاد الجاري مع أبناء الصليب فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلًا فصاحبتهم ردحا من الزمن، وتأثرت بهم، وأخذتني فِعالهم، فرأيتهم خير نماذج لأبناء جلدتي المجاهدين الأفغان بل لمجاهدي العالم قاطبة ورأيتهم حقهم يثقل كاهلي فأقلّ شيء يمكن أن أفعله الآن في حقهم هي الكتابة عنهم، والتعريف بهم، وتقديم نماذج منهم للأجيال القادمة، والنشئ الجديد.

فمنذ زمان وأنا أثير ركام الماضي، وأفتش أنقاض الأمس الدابر لأنتش منها من هؤلاء العظماء خواطر، ومواقف، ونماذج أنقلها للإخوة القرّاء لكن طول الأمد أنساني كثيرًا من هؤلاء أسمائهم، وأنساني خواطرهم، وذكرياتهم العطِرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر جئت لأول مرةٍ وبالتحديد قبل ست سنوات إلى فراه فتعرفت على كثير من الشباب المجاهدين الغُير، والمخلصين حقا، فمنهم البطل غزنوي، ومنهم سيلاب، ومنهم الأمير ضمير ونسيت أسماء الآخرين بل نسيت ملامحهم ولا يكاد يمثل طيفهم في ذاكرتي هذا لأن أكثر هؤلاء الإخوة لم يرضوا العيش في هذه الدنيا الدنيئة، فطلّقوها ثلاثا وولّوا عليها الدبر، واختاروا الله وجنانه، وحوره وغلمانه، فرأيت بعض الإخوة مرة، وصاحبت بعض الآخر يوما وجلّهم استشهدوا ولم يبق منهم على قيد الحياة إلا بضعة لا يربى عددهم عن أصابع اليد.

فبما أني طالب علم ولا أشارك في ميادين القتال إلا في الإجازات السنوية أشاهد أمرًا عجيبا لايسعني إلا أن أنوه به وهو أني كلما تشرفت بالحضور إلى “بشترود” وتعرفت على كثير من الإخوة، وصاحبتهم في هذه المدة، وأحببتهم حبا جمّا، ورجعت إلى بيتي ومدراسي ثم بعد إتمام السنة الدراسية حالفني التوفيق بالحضور مرة أخرى رأيت أكثرهم قضوا نحبهم، فمنهم من استشهد تحت وقع القذائف، ومنهم من تمكنت رصاصة إلى صدره أو رأسه في عملية نوعية وأردته شهيدًا، ومنهم من داس لغما وتمزق شذر مذر ليلقَ الله بمزق لحومه، وبقع دمائه، ومنهم من ألقي عليه القبض ووقع أسيرا في يد العدوّ، فكل عطلة أتيت إلى “بشترود” كأني غريب جئت إلى منطقة غريبة لايكاد يعرفني أحد ولا أكاد أعرف أحدا.

فلأول مرة جئت إلى “بشترود” تعرفت على الأخ غزنوي، والأخ سيلاب، والأمير ضمير وإخوة آخرين ثم بعد وقفة طويلة استغرقت سنتين اثنتين جئنا مرة أخرى إلى “بشترود” فلم نجد من الإخوة إلا أمير ضمير حفظه الله إن كان على قيد الحياة بعد، ورحمه الله إن توفي، وتقبله في عداد شهدائه إن استشهد، فاستشهد جميعهم ولم يبق من الذين كنت أعرفهم وكان لي بهم صلة غير الأمير ضمير.

فهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على ثقافة طلب الشهادة الضاربة في أعماق مجاهدي فراه، وهيامهم الشديد لها.

فتعرفت هذه المرة على رجال لن يمكن أن أنساهم ولن يمكن أن أنسى خواطرهم، وذكرياتهم الحلوة، ومواقفهم البطولية، وقتالهم، واستماتتهم، رجال اختلط حبهم باللحم والدم، رجال سُذّج، أذلة على المؤمنين، رحماء بينهم، وأعزة على الكافرين وأشداء عليهم.

فهم الذين ذهبوا بي لأول مرة إلى العمليات وشنّ الغارات إلى ثكنات العدوّ وقواعده، وفي الحقيقة كان تعرفي بعهم نقطة عطف في حياتي حيث تغيرت عقليتي ونفسيتي الجهادية رأسا على عقب، فتعلمت منهم الشجاعة بعد ما كدت أن أفرّ من المعركة خوفا وهلعا، وتعرّفت منهم التواضع، وتعلمت منهم الأدب، والإخلاص، رجال زكّتهم الحروب، وربّاهم الجهاد، فتعلمت منهم الجهاد، نعم الجهاد بمعنى الكلمة، الجهاد الذي لايعرف الكلل ولا الملل، والجهاد الذي لايعرف الراحة ولا الاستراحة، والجهاد الذي لا يفرق بين اليل والنهار، ولا بين القرّ والصرّ، ولا بين التلاق والطلاق، ولابين ذات الشوكة وغير ذات الشوكة سبحان الله! حينما أتذكر جهودهم وتفانيهم، وحينما أتذكر سهرهم في الليالي، وجهودهم في النهار، وحينما أتذكر حنينهم للشهادة، وهيامهم بها، وسعيهم إليها، تكاد تفتح صفحات مشرقة أمامي من القرون الأولى لأقرأ قصة سعد وخالد ومثنى.
أذكر أننا ذهبنا مع الشهيد معتصم بأسلحة جي سي مع المناظير الليلية إلى ثكنة غندي فألقى الليل رواقه، وكشرت الحرب عن أنيابها، فأطلق الرصاص وابله، ومدت النيران ألسنتها، وتصاعدت أعمدة الدخان إلى السماء، واستمرت الحرب أكثر من ساعة فبعد ما ألقت الحرب أوزارها، وانطفأت أوارها، ورأيتنا أن العطش قد فعل بنا فعلته التي فعل، فجفّ ماء فمنا فلم يكد يسيل، حتى كنّا نتموه من علوفة المزرعة إلى أن وصلنا إلى قرية فشربنا وارتوينا وكان دواليك هذا حالهم.

فلن أنسى أميرنا الهمام المولوي خالد حفظه الله الذي ربّى المجاهدين تربية روحية، فكرية، عقدية، أدبية؛ تربية كنّا نلمسها في كل مجاهد من قافلته، وكل جندي من شرطته، ومن أروع ما وجدتهم عليه هو الأدب الجمّ، والتواضع، والتفاني، والإيثار.
هذه صفات وجدناهم في الشيخ خالد تقبله الله ووجدنا نفس الصفات في تلاميذه ومحبيه فحق ما قيل تعرّف المرأ بصاحبه. ومنهم كان البطل معتصم رحمه الله الذي زلزل بوحده مدينة فراه، وأجبر كبار ضباطها أن يولوا دبرهم، وينزحوا إلى محافظة هرات وإلى محافظات أخرى خوفا من قبضته الحديدية، وكان يذهب بوحده في المدينة ويغتال كبار الضباط ويأتي بسيارتهم إلى “بشترود” حتى قذف الرعب في آخر أيام حياته في قلوب الأعداء ومكّنهم فيهم إلى مدى أنهم أغلقوا أبواب المكتب الاستشاري في الولاية اعتراضا لعدم الاستقرار وبثّ الفوضى في المدينة، فذاع صيته في البلد، وكثُر التفتيش عنه، حتى قتلته الطائرة دون طيار غدرا وغيلة.

ومنهم كان البطل عمري تقبله الله الذي كان جنديا في جيش العميل فعرف الحقيقة وساق معه دبابة مع أسلحة ثقيلة وخفيفة إلى “بشترود” وجاهد كليث غضنفر واستقتل حتى قتل تحت وقع القذائف.

ومنهم سنجرمل أيقونة التضحية والتفاني، ومنهم الشهيد زيد رحمه الله الذي كتبت عن حياته الجهادية مقالا باللغة الفارسية فتمّ نشره في موقع الرسمي لإمارة أفغاستان الإسلامية وكثير من الإخوة الآخرين الذين لايسع سرد وقائعهم في هذه العجالة وسأكتب إن حالفني التوفيق- انطباعاتي عن هؤلاء ولاسيما عن الأمير الشهيد خالد وسنجر مل وعمري ومعتصم تقبلهم الله.

لقد وصلت هذه السلسلة من خواطر أبطال فراه إلى حلقتها الخامسة فما إن أريد أن أكتب عن شهيد إلا ويستشهد أخ آخر فأرى أن أكتب عن الذي استشهد أخيرا وتبقى خواطرالإخوة الشهداء السابقين فبقيت خواطر زيد ومقداد كما بقيت خواطر المولوي خالد رحمه الله ومعتصم رحمه الله سأردف في الحلقة الآتية قصص البهلوان زيد إن شاءالله وبعدها حياة مقداد رحمهما الله وخواطر بقية الإخوة وميزاتهم تترى.