ذكريات وانطباعات عن أبطال “فراه” (١١)

صارم محمود

فأجابنا الأخ الشهيد “عمر” تقبله الله كيف تغيرت حياته رأسا على عقب، وكيف تحول من جندي يخدم الاحتلال في مشاريعه الإجرامية ضد شعبه ووطنه، إلى أفضل جندي من جنود الله يخدم شعبه ويدافع عنه بكل قوة وحماسة وإيمان. يقول عن هذا التحول (تقبله الله): جاءني ابن عم لي أو صديق لي (لا أذكر بالضبط) وقال لي:

ألا تخاف من سوء خاتمتك يا أخي! بأن تُقتل في هذا الصف بأيدي المجاهدين؟ هل فكرت قليلا من هو على الحق ومن هو على الباطل؟ وأين أنت بين هذين؟ فشعرت أن هذه الكلمات أخذتني أخذا، وهزتني هزا، ودفعتني إلى التفكير، وكانت نقطة انعطاف في حياتي، ومنها بدأتُ أتغير شيئا فشيئا، ويميل قلبي وروحي إلى المجاهدين؛ لأني كنت أرى بأم عيني ما ينفرني عن هؤلاء الأراذل من تعاطي الخمر، واللواطة، والظلم، والرشوة و… وأنتظر هزة، أو إنذارا ليخرجني من الظلمات إلى النور، فجاءت الهزة في هذه الكلمات وأي مجيء كان!

كان الضابط في المقر الأمني قد اعتمد علي كثيرا قبل هروبي، وقد تعلمت قيادة السيارة حديثا، وقد أعطاني مفاتيح المقرّ ومفاتيح الدبابة أيضا. وبعد تفكير كثير اطمأنت نفسي، وقلت لا بد من الفرار! فذات صباح باكر ركبت الدبابة، آخذا معي بعضا من الأسلحة الثقيلة والخفيفة وهربت من المقر الأمني دون أن ينتبه الضابط والشرطة.

وقد أخذت رقم (زيد الشهيد) مسبقاً من ابن عمي، واتصلت به، وأخبرته بما فعلت، فسرّ أي سرور، وأتى مع ثلة من المجاهدين لاستقبالي، فرحبوا بي، وعقدوا لي حفلا، وعلقوا على عنقي أزهارا، فكنت ألمس السعادة بين جموع المجاهدين وعامة الناس من شغاف قلبي.

وبعد مدة اتصل بي الضابط وهددني، ثم توسل بعائلتي، وهي الأخرى بدأت بتهديدي، لكنني لم ألتفت إلى تهديداتهم، ولم أتنازل عن عقيدتي قيد شبر إلى أن ثبتني الله على هذا الطريق.

إن الله يأبى بأن تفسد نفوس طيبة، وتنتن أرواح طاهرة بين هذه الصفوف المنتنة. إن هذه النفوس والأرواح تتعذب بوجودها في هذه الصفوف، وتنتظر محطة لتبدأ منها التغيير. وإن مثل هذه الكلمات التي تخرج من قلب سليم، فتنفذ إلى روح طيبة لا تلبث أن تشعل في هذه الأرواح نار الحماسة والإيمان؛ فكم من جندي هُدي إلى سبيل الرشاد بمجرد نصح أو إشارة؛ فبئس من ضن بكلمة يرجو بها الخير، وبئس البخيل من بخل بنصح في كلمات إن لم يجُد بروحه ودمه في سبيل الله.

إن الأخ الشهيد “عمر” كان ذا صفات جميلة، وكان من أحسن ما يعجبني من صفاته أدبه الجم، كان يراعي الأدب كثيرا، فلا يضحك إلا قليلا، وإذا ضحك فببسمات حلوة تأسر القلب وتعشقه، وكان كثير الصمت لا يتكلم إلا فيما يعنيه، فلا أنسى توقيره إيانا، وخفضه جناحه أمامنا (جمع من الطلبة والمهاجرين) تواضعا، ولا أنسى كيف كان يخدمنا وقد سبقنا في هذه الميادين، واشترك معنا أكثر في العمليات، وقد كان يكبر بعضنا سنا، لكن الله عزوجل زكى بالجهاد نفسه فلم يعد يرى نفسه شيئا، وهكذا كان جلّ المجاهدين.

ومن صفاته البارزة شجاعته المثالية، وخفة الروح، والحيوية المتدفقة، والنشاط الدائم، فكان في أهبة كاملة في كل حين، وكان مصداق الحديث الشريف: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من خير معاش النَّاس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هَيْعَةً، أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانَّه”.

وهكذا كان دائما مستعدا، وكنت تذكرت هذا الحديث ذات ليلة، إذ فاجأنا الأخ الشهيد معتصم رحمه الله بأن الدبابات قد وصلت إلى قرية “ديك”، فوثب الأخ عمري من مكانه كأسد، وطار إلى دراجته النارية كصقر، فتمثلت هذه الكلمات النبوية الشريفة أمامي.

وكان رجلا شجاعا جدا لا يخاف الموت، ولا يهاب العدو، وقد أعطاه الله حنكة وخبرة في العلوم العسكرية، وكان مسدد الرمي، وقد اشتهر بسداد رميه، وكان الأمراء والقادة يشركونه في أدمى الملاحم لما رأوا فيه من عظيم الصفات، وحسن التدبير، والشجاعة النادرة.

تزوج الأخ الشهيد “عمر” بعدما غادر أهله وذويه، وعاش بين المجاهدين ثلاث سنوات أو أربع، وبعد أسبوعين من زواجه لبّى نداء الأجل، وطارت روحه الطاهرة إلى ربه راضية مرضية بإذن الله، واستشهد في غارة جوية مع صاحب دربه الأبي؛ الشهيد سنجرمل رحمه الله بعدما كمنوا للعدو الأمريكي كمينا قويا وأثخنوا فيهم، وأذاقوهم بئس العذاب في الدنيا قبل الآخرة. فهكذا قدّر الله بأن يستشهد “عمر” وهو يصوب فوهة بندقيته نحو نحور الأمريكان وكان قبل ذلك يخدمهم، ويشاركهم في قتل أبناء جلدته، فنعم الخاتمة خاتمة “عمر” وسلام على روح عمر الطاهرة؛ الشاب النقي، التقي، الزاهد.