قدر الله ناجز وإرادته نافذة..نظرة في السنن الاجتماعية

معتصم الكوبري

 

إن الله قد يخرق السنن الكونية ولكنه لا يخرق السنن الاجتماعية، فقد خرق الله السنن الكونية في الحياة والموت، في النار والسِّكّين،لكنّ الله لم يأذن ولن يأذن بخرق أية سنة اجتماعية: فلا نصرَ من دون إعداد وإيمان.

قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (سورة الأعراف 54).

من المشاهد المعلوم والمعقول والمنقول: أنّ الدّوَل تقوم وتزول، وأن دوامَ الحال من المحال، وأن الله إذا أراد شيئاً هيّأ له أسبابه وقدّر له أوقاته. وليست هناك مرحلة فاصلة في التاريخ إلا وكانت قدرة الله حاضرة وإرادته نافذة.
كيف لا، والله خالق كل شئ؟ كيف لا، وهو المدبّر والمصرّف لهذا الكون؟ كيف لا، وكلّهم آتيه يوم القيامة فرداً؟

هذه عقيدة لا بد من استقرارها في القلوب، والانطلاقِ في الحياة على أساسها، والاستعدادِ بها للقاء الله يوم القيامة.

ومن العقيدة أيضاً: أن الله قد يخرق السنن الكونية ولكنه لا يخرق السنن الاجتماعية، فقد خرق الله السنن الكونية في الحياة والموت، في النار والسِّكّين، في البحر والقمر، وفي غيرها.
لكنّ الله لم يأذن ولن يأذن بخرق أية سنة اجتماعية: فلا نصرَ من دون إعداد وإيمان، ولا عدل بأقوال وشعارات من دون أفعال وإنجازات، ولا استمرارَ للدول مع الظلم مهما طال الزمن.

قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال 53].

لقد أراد الله في لحظة تاريخية حاسمة، أن ينهيَ سلطان الروم البيزنطيين واحتلالَهم في الشام ومصر، والذي زاد عن قرنين من الزمان (395-641)م، وأراد أن يقضي على دولة الفرس بعد أكثر من أربعة قرون فرضت فيها الدولة الساسانية سلطانها على العراق وخراسان (226 – 634)م.

وإذا أراد الله شيئاً هيّأ له أسبابه وقدّر له أوقاته.
قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة 251]

هل توقع أحد من الناس في ذلك الزمان أن يتوحد العرب تحت راية واحدة، ويكونَ لهم شأن بين الأمم؟
أم هل توقع أحد الطريقة التي ظهر بها الرسولُ الأخير من قلب الصحراء في جزيرة العرب، ثم هاجرَ إلى أرض بعيدة عن وطنه وأقام فيها كياناً مركزياً لدعوته؟
أم هل توقع أحد أن يدخل هذا الكيان الجديد في صراعات متعددة مع جهات متعددة في جزيرة العرب، ثم يقفَ على أطراف هذه الجزيرة – متحدياً – في وجه الروم والفرس، وكل ذلك في مدة تزيد قليلاً عن عشرة أعوام؟
لا شك أن الله وحده هو الذي كان يعلم بذلك ويدبر له.

والسؤال: كيف قدّر الله للعرب أن يأخذوا مكان هاتين الدولتين العظيمتين في هذه المدة القصيرة من الزمن؟ وكيف تهيأت لهم الكفاية الفكرية والعسكرية والسياسية للتعامل مع الوضع الجديد في الكرة الأرضية؟

من المعلوم أن هناك محطاتٍ كثيرةً نستطيع أن نقف معها لنحلل هذا الموقف، ولكنّ الناس بشكل عام يميلون دائماً إلى الاستسلام السلبي لتقدير الله من دون النظر في الأسباب، أو من دون محاولة تحليل الظروف المحيطة بكل تغيير اجتماعي في تاريخ البشرية.

فمن غير المعقول أن يقف العرب في وجه أقوى دولتين في ذلك الزمان وينتصروا عليهما في آن واحد، دون قوة مادية أهلتهم لذلك!

لقد خضع العرب جميعاً (مسلمهم وغير مسلمهم) إلى دورة تدريبية شاقة جداً، تمثلت في الحرب الأهلية الطاحنة والتي اصطُلح على تسميتها (بحروب الردة)، لقد كانت هذه المعارك الضارية مؤلمة جداً ومؤسفة جداً، وسقط فيها من الضحايا ما فاق كل الحروب الداخلية السابقة بأضعاف كثيرة، حتى أنها شكّلت أخطر تهديد على المشروع الإسلامي الحضاري وكِيانه الجديد في المدينة.

لكن هذه الحروب قد ساهمت بشكل حاسم ومباشر في زيادة الكفاءة الفكرية والتربوية والسياسية والعسكرية عند العرب بشكل كبير: فظهر أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وشُرحبيل بن حسَنة وعكرمة بن أبي جهل والمثنى بن حارثة وعبد الله بن عمر والقعقاع بن عمرو وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم، ظهروا كقادة عسكريين قلّ في الناس مثيلهم وعز في التاريخ نظيرهم.

ومن ورائهم ظهر جيل عظيم من المفكرين والسياسيين كان في قيادتهم وعلى رأسهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب أعظمُ القادة على الإطلاق، ومن كان معهم من الوزراء والمستشارين.

وفي أقلَّ من خمس سنوات كانت هناك قوة جديدة في العالم، استطاعت بعد ذلك أن تؤسس الدولة العالمية المركزية، والتي استمرت لأكثر من ألف سنة مؤثرةً في كل الأحداث تقريباً.

كل ذلك كان بتقدير الله وإرادته، لكنه كان مبنياً على أسس مادية بحتة، تمثلت في الابتلاء والتمحيص والظروف القاسية التي تمخض عنها شكل جديد في هذا العالم.

بناء على ما تقدم: فإنه لا بد لنا ونحن نعيش الواقع الأليم من جديد، ونتأسفُ ونتألمُ على كل ما يحصُل من ظلم وقتل وتشريد لأبناء أمتنا، لا بد لنا والحال هذه: أن ننظر بعين السنن الاجتماعية إلى هذه الدورة التدريبية الفكرية التربوية السياسية العسكرية، والتي تتعرض لها الأمة في أخطر وأدق مرحلة من تاريخها.

ولا بد لنا أيضاً أن نرجع إلى التاريخ ونلاحظَ كيف كانت الزعامات العربية وغير العربية تتمتع بالاستبداد بالأمر والاستعباد للبشر، وكانت تعتقد جازمة بأنها دائمةٌ خالدة، فأذن الله لِيد التغيير والإصلاح أن تستأصل شأفة المستبدين على حين غفلة منهم.

قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8)} [سورة القصص].

والله غالب على أمره، ولا راد لحكمه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.