من أخلاق المجاهد: الإخلاص منجاة للمجاهد

إعداد: أبو صلاح

 

لقد شجّع الإسلام المسلمين أن يراعوا الإخلاص في أمورهم، حتى لا يبطلها الرياء والسمعة.

والإخلاص معناه: تصفية العمل من شوائب الشرك كبيره وصغيره. وهو مطلوب من المسلم في كل أعماله، كما قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) [البينة: 5]. وقال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) [الكهف: 110].

وقال تعالى في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) [مسلم (4/2289) من حديث أبي هريرة].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيّة ولكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) [البخاري رقم 53، فتح الباري (1/135)، ومسلم (3/1515)].

وقال الفُضَيل بن عياض في قوله تعالى: (ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً) أخلصه وأصوبه، قيل: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: أنّ العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما ابتغى به وجه الله، والصواب ما كان موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [الفتاوى لابن تيمية (10/173). والآية في هود: 7، والملك: 2 ].

والنصوص في هذا المعنى كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف الصالح. وهي عامّة في كل عمل يتقرب به الإنسان إلى ربه تعالى.

وقد خصّت فريضة الجهاد بالتأكيد على الحرص على إخلاص المجاهد نيته لله تعالى، لأن تسرب الرياء إلى المجاهد أسرع منه إلى غيره، ولهذا عنيت النصوص بذلك غاية العناية.

فالجهاد نفسه يرد في كتاب الله وسنّة رسوله مقيّداً بهذا القيد: (في سبيل الله).

ويكفي أن يُساق هنا ما كان يوصي به النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه وجيوشه إذا جهزهم للجهاد في سبيل الله.

ففي حديث بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية [الجيش هو الجمع العظيم الذي يجيش بعضهم في بعض، والسرية عدد قليل يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار. إهـ من المبسوط (10/4)]. أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً)، ثم قال: (اغزوا باسم الله …) [رواه مسلم (3/1356) وانظر جامع الأصول (2/589)] فالغزو ابتداءً يُراد به وجه الله تعالى، لأنه يغزو باسمه لا باسم غيره.

وكذلك جوابه صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء: أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا: فهو في سبيل الله) [البخاري رقم الحديث 2910، فتح الباري (6/27) ومسلم (3/1512)، (2/589)]. من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

لذلك يجب على المجاهدين في سبيل الله أن يتذكروا هذا الأمر العظيم عند خروجهم حتى تكون جميع أعمالهم وحركاتهم في سبيل الله، كما قال تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حَوْلهم من الأعراب أن يتخلَّفوا عن رسول الله ولا يَرْغبون بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نَصَب ولا مَخْمصة في سبيل الله، ولا يطئون مَوْطئاً يَغِيض الكفار، ولا ينالون من عدو نَيْلاً إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجرَ المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبير ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم، ليجزيَهم الله أحسن ما كانوا يعملون) [التوبة: 120، 121، وانظر المبسوط للسرخسي (10/5)].

 

ولنا في السابقين الأولين أنموذجاً صالحاً، نذكر أحدها، لكي نقتفي أثر هؤلاء الأوفياء الأتقياء.

حين قامت الجيوش الإسلامية في العهد الأموي بمحاصرة القسطنطينية بقيادة البطل الماجد (مسلمة بن عبد الملك)، وخلاصة أمره: أنّ المسلمين حاصروا حصناً منيعاً اجتهدوا في الاستيلاء عليه فلم يوفقوا، واستعصى فتح الحصن على الجنود، فوقف مسلمة يخطب بينهم ويقول لهم ما معناه: أما فيكم أحد يقدم فيُحدث لنا نقباً في هذا الحصن؟

وبعد قليل تقدم جندي ملثم، وألقى بنفسه على الحصن، واحتمل ما احتمل من أخطار وآلام، حتى أحدث في الحصن نقباً، كان سبباً في فتح المسلمين له، وعقب ذلك نادى مسلمة في جنوده قائلاً: أين صاحب النقب؟

فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: عزمت على صاحب النقب أن يأتي للقائي، وقد أمرت الآذن بإدخاله علي ساعة مجيئه. وبعد حين أقبل نحو الآذن شخص ملثم، وقال له: استأذن لي على الأمير، فقال له: أأنت صاحب النقب؟

فأجاب: أنا أخبركم عنه، وأدلكم عليه، فأدخله الآذن على مسلمة، فقال الجندي الملثم للقائد: إن صاحب النقب يشترط عليكم أموراً ثلاثة: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تأمروا له بشيء جزاء ما صنع، وألا تسألوه من هو؟. فقال مسلمة: له ذلك، فأين هو؟ فأجاب الجندي في تواضع واستحياء أنا صاحب النقب أيها الأمير، ثم سارع بالخروج. فوقف مسلمه والدموع تخوض في عينيه وهو يقرأ: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا) – الأحزاب 23

 

إنْ لم يكن للهِ فعلُك خالصًا ..

فكلّ بنـاءٍ قد بنيْتَ .. خـرابُ!

 

فكان مسلمة بعد ذلك يقول في سجوده: اللهم احشرني مع صاحب النقب، اللهم احشرني مع صاحب النقب.

وعلّق الأستاذ أحمد أمين المصري -رحمه الله- على هذا النبأ الرائع فقال: لو حلّلنا نفسية هذا الرجل العظيم، والباعث على سلوكه، لكان أحد أمرين: إمّا أنه أراد أن يحتسب عمله لربه من غير أن يضعف قيمته بجاهٍ دنيوي، أو مكافأة مالية، وإمّا أن تكون فكرة الخير قد سمت عنده، وملكت عليه نفسه، فهو يعمل الواجبَ للواجب، من غير أن يدنّسه بنظرةٍ إلى ثوابٍ ما، وكلا الباعثين عظيم، تضعف بجانبه البواعث الأخرى.