وأذن في الناس بالحج!

صلاح الدين مومند

 

أمر الله باني البيت ابراهيم عليه السلام إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يأذن في الناس بالحج ; وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيتقاطرون على البيت من كل فج، رجالا يسعون على أقدامهم، وركوبا (على كل ضامر) جهده السير فضمر من الجهد والجوع وما يزال وعد الله يتحقق منذعهد إبراهيم – عليه السلام – إلى اليوم والغد وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام وترف إلى رؤيته والطواف به، الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله ; والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم – عليه السلام – منذ آلاف الأعوام..

يقول العلماء إن الحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل ويجدون محورهم الذي يشدهم جميعا إليه :هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعا ويلتقون عليها جميعا ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينا، قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين. الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد راية العقيدة والتوحيد.

كما أن الحج مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى ضد الكفرة والمجرمين ، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب. وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام في ظل الله بالقرب من بيت الله وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة في أشرف مكان، وأنسب جو، وأفضل زمان. (ليشهدوا منافع لهم).. كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته وذلك بعض ما أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين، وأمر إبراهيم – عليه السلام – أن يؤذن به في الناس والمنافع التي يشهدها الحجيج كثير، فالحج موسم ومؤتمر، الحج موسم تجارة وموسم عبادة والحج مؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة، وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، وهي ترف حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد، ها هم حجاج بيت الله يلهجون بالذكر في البلد الأمين ويكبرون عند البيت العتيق ويسكبون دموع الفرحة بلذة القرب فنعم هذا القرب ونعم المقربون.

وها هو الرسول الأعظم يقوم بأداء نسك الحج ويسمونه الناس حجة الوداع لعل احد اسباب تسمية حجة رسول الله بحجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد هذه الحجة واحد وثمانين يوما فقط حسبما تفيده اكثر الروايات كما أن الايحاءات المستفادة من خطابه التاريخي يوم عرفة من تلك الحجة كانت تعطي نفس السبب.

حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب خطبته التاريخية العظيمة الحافلة التي قرر فيها قواعد الاسلام واحكام الدين وأتى على قواعد الشرك وبقايا الجاهلية ودعا الى تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وأوصى بالنساء خيرا وذكر ما لهن وما عليهن من حقوق. وتأتي هذه الحجة بعد انتهاء العهود مع المشركين وبعد أن أمر الله نبيه بتطهير بيته من رجسهم وابعادهم عنه ومنعهم من دخوله منعا باتا أبديا.{انما المشركون نجس فلايقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}. فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة عرف الله مكانه لإبراهيم – عليه السلام – وملكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: {ألا تشرك بي شيئا }فهو بيت الله وحده دون سواه، وليطهّره للحجيج، والقائمين فيه للصلاة فهؤلاء هم الذين أنشئ البيت لهم، لا لمن يشركون بالله، ويتوجهون بالعبادة إلى سواه.

ها هو شهر ذيحجة الحرام وتمرّبنا ذكريات حجة الوداع المباركة ومعانيها العطرة واطيافها الخالدة كما تمّر بالأمة الاسلامية وتزهق ارواح أبنائها الأبرياء في كل مكان بغير حق وتمرّ بنا هذه الذكريات المقدسة وبلادنا تئن تحت وطأة الاحتلال منذ عشرات الأعوام ومست أبناء شعبنا الأبي البأساء والضراء فزلزلوا لكنهم في انتظار لطف الله ومساندة اخوانهم المؤمنين انهم ينادون الأمة الاسلامية لاسيما الذين شاركوا في موسم الحج نداء عبد الله بن مبارك لما كتب الى قاضي عياض رحمهما الله وقال :

 

يا عابد الحرمين لوابصرتنا لعلمت انك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

 

إن ابناء شعبنا المناضلين ينادون الأمة الاسلامية ويذكّرونها مظالم الاحتلال الصليبي التي ارتكبها ويرتكبها صباح مساء انه يشن حربا عارمة همجية ضد شعبنا الأصيل وكانت نتائج هذه الحرب الجائرة مئات الآلاف من الضحايا المدنيين العزل وآلام ومصائب وجروح لاتعد ولاتحصى، هؤلاء الطغاة الهادمون لمعاقل الحرية والايمان ارتكبوا ابشع الجرائم اطلاقا وتحمل هذا الشعب افظع انواع التعذيب وابشع امثال القتل والدمار رأوا المجازر الجماعية والابادة الكاملة لان أعداء الله لايعرفون معنى الرحمة ولايرعوون من وازع دين اوضمير لكن للأسف : هان على النظارة ما يمرّ بظهر المجلود ! وهذا امر لايقرّه الاسلام فان الاسلام يحرص ويِؤكد على ضرورة الشعور بالأخوة الاسلامية والناظر في كثير من شعائر الاسلام يجدها رباطا قويا ووشاجا متينا يدعم اخوة الاسلام وابرز واوضح مايكون هذا في موسم الحج فالمسلمون يجتمعون في وقت واحد على عمل واحد ويتم التعارف بينهم ويرتبط اقصى المسلمين بادناهم فيكون وسيلة في تحقيق الوحدة الدينية وإن من ابرز الحقوق التي اوجبها الله تعالى على اتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعضهم على بعض هو التعاون في الشدائد والملمات وحوادث الزمن وعوادي الدهر ومظالم الكفرة وعدوان المجرمين وهذه المظاهر الأخوية هي روح الايمان بها تتألف القلوب وتتعارف الأرواح وبها يجتمع الشمل وبها يصير المسلمون على اختلاف الأزمان وتباعد الأماكن أمة واحدة وقوة راسخة تصدّ كل عدوان وترد كل بغي وتقف في وجه كل ظالم وطاغي متغطرس.