شهداءنا الأبطال (82)

الشیخ الحافظ، الشهید أحمد الكردي رحمه الله
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً.. ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلاً وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللاً.. وكمل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أصدقُ العباد قصداً، وأعظمُهم لربه ذكراً وخشية وتقوى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأتقياء وأصحابه الأصفياء.
أما بعد:
قبل أن ألج في صلب الموضوع یحلو لي أن استعرض قولاً من أحد المفكرین الإسلاميین الذي قال: ما أجمل وأروع الشاب یستثمر قوّته، ویُفتّق طاقته، ویعیش شبابه حیویة وتوقداً، قوّة في عمل، وانطلاقاً في ثبات (یعجبني الشباب إذا هو استقام واستطال، ثم انفتل، عضل مشدود یستطیع أن یرتخی، وذراع ممدودة تستطیع أن تنطوی، ورأس مرفوع، وصدر مفتوح، یستقبل الریح باردة، ویستقبلها لافحة، وظهر عریض یحمل الأثقال ابتساماً، وقدم ككرة المطاط لا تمس الأرض حتى ترتد عنها، ومفاصل كمفاصل الفولاذ أغرقت في الزیت، وجسم صحیح سلیم كالدینار، إذا ضربته علی الرخام رنّ، له متانة الحدید ولیس به مسه، نشأه أبواه فأحسنا تنشئته، وروضته الریاضة فأحسنت ترویضه.
یعجبني الشباب إذا هو تأنق وترقق في غیر أنوثة أو خنوثة، ومع هذا فهو عند العمل یخلع التأنق، وینبو عن الترقق، فإن كان العمل فحماً وزیتاً انغمس في الفحم والزیت، وإن كان انبطاحاً علی الأرض تمرغ في تراب الأرض، وإن كان بخاراً وعفاراً، نشق الأبخرة، ولم یشح بوجهه عن الأعفرة.
فإذا انتهی النهار دخل الحمام، وخرج منه فعاد إلی التأنق علی الصحة التي أكسبها العمل، وإلی الترقق علی القوة التي اكسبها مران العضل.
 فمن هذا المنطلق فقهنا بأنّ عمر الإنسان رأس ماله الحقیقي فعلیه أن یستثمره في طاعة الله – عزوجل- حتى یربح یوم القیامة.
والرسول – صلی الله علیه وسلم – بیّن أن كل إنسان منا سوف یُسأل یوم القیامة عن أربعة أشیاء، فیسأل عن عمره فیم أفناه، ویسأل عن شبابه، وعن علمه، وعن ماله.
كما أخرج الإمام الترمذي – رحمه الله – في سننه عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلی الله علیه وسلم : ” لاتزول قدما عبد یوم القیامة حتى یسأل عن عمره فیم أفناه؟ وعن علمه فیم فعل؟ وعن ماله من أین اكتسبه وفیم أنفقه؟ وعن جسمه فیم أبلاه؟” وقال الترمذي حدیث حسن صحیح.
فالله سبحانه وتعالی جعل في الشباب قوّة ذاخرة لحمل أثقال الدین والذود عن حیاضه، ویصدق فيهم قول الباري – عز وجل- :« إنهم فتیة آمنوا بربهم وزدناهم هدیً».
والشهید أحمد الكردي رحمه الله تعالی أحد هؤلاء الفتیة الذي كان له حظٌّ هائل في هذا المضمار، وإن حياته مفعمة بالذكریات الجمیلة التي حفزتني أن أذكر شیئاً بسیطاً منها عمّا في بضاعتي المزجاة.
نعم؛ قد كان – رحمه الله – یتراوح عمره بین الثالث والعشرین إلی الخامس والعشرین، وفي البدایة دخل المدارس الحكومیة وقضی فترة لابأس به هنالك، ثم أخذ یتعلم العلوم الشرعیة حتى غسل ید الفراغ عنها وصار مفعماً بالعلم والعمل، ویحظو بعقیدة نقیة خالصة في التوحید.
وعندما التحق بركب الجهاد عیّنوه كأستاذ للعقیدة، یدرّس المجاهدین الجدد العقیدة السمحة الصحیحة، حتى طفح كیله غراماً وهیاماً لأرض الجهاد وللنضال مع أعداء الملة والدین وجهاً لوجه علی ثری الأفغان، فاستاذن من أمیره حتى یقضي ما یحنو، ویعشق، ویحب…
فلم یخیّب رجائه مع أنه كان بین اللهفة والرجاء، فأرسله مع أربع أنفار آخرین، وعیّنه كأمیر لهذه الثلة المباركة في هذا السفر، مع أنه كان في هذه الجماعة من هو أكبر سنّا منه، نظراً إلی خلوصه وتقاه ومواهبه الذاخرة.
وعندما كانوا في “زرنج” أرادوا أن یذهبوا من هناك إلی “تاغز” ومن “تاغز” إلی “برافشة”- هلمند.
لكن مع الأسف البالغ تجسّس لهم الجواسیس والحواسیس بأنّ مجموعة من المجاهدین قاصدون هلمند للجهاد والقتال علیهم، فیترصدون لهم عبر الطریق الذي هم كانوا یأتون منه، فبعدما أوقفوهم أرسفوهم بالأغلال وضربوهم ضرباً شدیداً حتى شجوا أحداً منهم، ثم نقلوهم بالطائرة الخاصة إلی كابول، فرحین بأنهم قبضوا علی مجموعة إرهابیة حد زعمهم.
وعندما كنّا في الریاسة الرقم السابع عشر سمعنا بأن مجموعة من الأكراد أتوا بهم إلی هذا المحتجز.
وكانوا یبدلّون الأسری بعد بضع أیّام إلی الغرفات الأخرى، یعني ما كانوا یتركون أسیراً أن یمكث في غرفة طوال بقائه في المحتجز؛ بل یبدلون مكانه بعد خمسة إلی عشرة أیام، حتى لا یستأنس ویبقی حائراً مضطرباً مندهشاً.
ففي یوم من الأیام بدّلوا غرفتي، فعندما دخلت الغرفة الجدیدة لاقیت شاباً باسلاً من حظي في تلك الغرفة الجدیدة، وحتى ذاك الحین لم أكن أعرفه من قبل ولا عن مدی شخصیته؛ لأني ما كنت لأتكلم معه قبل ذلك، وقدیماً قالوا: تكلموا تعرفوا.
وإنّ كثیراً من الناس نأخذ عنهم انطباعاً أولیّاً إلی أن یتحدثوا، فحینئذٍ إمّا أن یترسخ ذلك الانطباع، وإمّا أن نلوم أنفسنا علیه!
وعندما تكلم كشف عن معدنه، فأحببته في الله ثم سئلته ما جریمتك ولم قبضوا علیك؟
فضحك وأخفی أمره عنّي بدء الأمر، وقال یا أخي لاتسئلني!
قلت: لم؟
وأنا كنت مستیقناً بأنه مجاهد وإن كان هو في ذاك الوقت یحلق لحیته؛ لأنّ عقیدته الصحیحة و… دفعتني بأن أظن به خیرا، فأسردت له أسماء قائمة من إخوانه المجاهدین، فنظر إلي ثم قال إني مجاهد أیضاً، فكان یتكلم معي ویبحث ویستشهد بالآیات والأحادیث، فكنت أتعجب من علمه وأسئله عن أي مشكل علمي وهو یشفي غلیلي ویبرد علیلي.
والشيء العجیب ههنا الذي أثار إعجابي هو أنهم كانوا في قمّة الأخذ بالاحتياطات والأمنیّات، وكانوا یحلقون لحاهم، حتى لایعثر منافق جاسوس علی أنهم من الإخوة المجاهدین، وهكذا أنجاهم الله سبحانه وتعالی في المحكمة، حیث قضی القاضي علیهم بسنة وشهر عندما لم یعثروا علی اعتراف منهم.
وكان مشهور بین السجناء بأنّهم أتوا للتجارة فقبضوا علیهم، فكنت أمزح معه وأقول أتیت للتجارة؟
قال: إي والله.. إني قد كنت أتیت للتجارة ولكن مع ربي { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) سورة الصف
 ونقلونا إلی السجن الكبیر المشوه “بولي تشرخي” بعد ثلاثة شهور، فكان هو مع مجموعته معنا.
ولا ینسی بأنّ الأخ حفظ سورتَي “التوبة” و”الأنفال” في هذا المحتجز أي محتجز رقم (17).
ولمّا أدخلونا السجن ذهبت في الیوم الثاني إلی عنبر الذي كان فیه مدرسة السجن، فسجّلت اسمي في “دار التحفیظ” لحفظ القرآن الكریم، وقلت لحبّي وأستاذي الحنون الشیخ ممتاز أحمد – فك الله أسره – أرید أن أحفظ القرآن الكریم؟
فقال: لا بأس، وسجّل اسمي.
فلمّا بدأت حفظ المصحف الشریف كنت أدعو أخي أحمد الكردي – رحمه الله – وأقول له: یا أخي قد منحك الله سبحانه وتعالی ذهناً ثاقباً فعلیك بحفظ القرآن الكریم.
لكنّه لم یجئ نحو شهر أو أكثر حتى وفقه الله سبحانه وتعالی بأن یدخل في “دار التحفیظ” لحفظ القرآن الكریم.
فبادر بالتنافس معي والشيء العجیب أنه لم یكن لیفارقني، فكنا ننزل للتشمیس معاً ونتجوّل وكان یقول لي: والله إني أحبّك في الله.
فكنت أقول له: أحبّك الذي أحببتني فیه.
وكان رحمه الله تعالی یرشدني ویشحذنا للتزكیة والسلوك،، وكلما أراد أن یتكلم أو ینصح أخاً یستشهد بالآیات والأحادیث الكثیرة؛ لأنه كان یحفظ أحادیث كثیرة، وكثیر ما یذكر مصدر
 الحدیث ویقول كذا في روایة البخاري، ومسلم، والترمذي و…
وقد وجدته یقظ الفؤاد، ففي یوم من الأیام جعل بیني وبینه المنافسة حتى نستبق في حفظ الآیات، فكنت قد حفظت خمسة صفحة تقریباً في ساعتین، فلما استمعت إلیه وجدته أنه قد حفظ نحو ثمانیة إلی عشرة صفحات.
وكان رحمه الله تعالی خدوماً لإخوانه ویطبخ لهم الطعام كل لیلة، حتى لا یحس إخوانه الآخرون بالملل ولا بالعناء ولا بالتعب، وكان ینصحهم ویدیر لهم دروساً في العقیدة، والصبر والمصابرة والتوكل، وینفخ فیهم النشاط والحیویة، ویزیل عنهم الكروب والهموم.
وكان رحمه الله یحفظ القرآن الكریم حتى وفقه الله سبحانه وتعالی أن یكمل حفظه للقرآن الكریم في یوم الخمیس 7 من شوال عام 1431هـ.ق، وذلك عندما تمّت الدروس قال أستاذنا الحبیب ممتاز أحمد البرواني – فك الله أسره -: إنّ أخاكم أحمد الكردي أتمّ حفظه للقرآن الكریم فادعوا له بالخیر، ثم رفع أكفّ الضراعة ودعی بدعوة طویلة ثمّ دعی لإخلاص الأخ.
حتى فك سراحه فكابدني حزنٌ شدیدٌ، وفتحت كراسة ذكریات السجن إذ واجهت بهذه الكلمات:
{ في هذه العجالة عزمت كي أنثر شیئاً بسیطاً من أحزاني وأتراحي من افتراقي لأخي أحمد الكردي حفظه الله ورعاه الذي جاء عند الظهیرة لوداعي وأخبرني بأنّ ورقة خروجهم من السجن قد وصلت إلیهم، فجعلني خبره بین الحزن والفرح والسرور والترح.
أما الحزن فلأجل افتراقي منه بعد مدّة قضیتها معه وأحببته وأحببني في الله، وأمّا السرور فإنّ خروج أخ مسلم من أیدي الطواغیت ورجوعه إلی عرینه ومسقط رأسه من أحلی الأماني لأسیر یقضي أصعب أیامه خلف قضبان الألم…..
وما في الأرض أشقی من محب  * وإن وجد الهوی حلو المذاق
تراه باكیاً كل حیــــــــــــــــــن  *   مخافة فرقة أو لاشتیــــــاق
فیبكي إن ناوا شوقاً إلیــــــــهم*     ویبكي إن دنو خوف الفراق
فتسخن عینــــــــه عند التنائي * وتسخن عینه عند التلاقـــي
وقلّبت صفحة أخری فإذا بكلمات أعجبتني:
نتیجة الاستغفار
كنت جالساً حول المائدة ( لیلة الخمیس 2/9/1389هـ.ش) وأتعشی بالفاصولیا والحلیب الحامض إذ رنّ الجوال باتصال الأخ الفاضل أحمد الكردي حفظه الله وتقبله في الشهداء الصالحین {وقد دعوت له هان ذاك بهذه الجمل لأنه كان دائماً یوصیني بأن أدعو له أن یرزقه الله الشهادة} فذهبت نحو الصالون خارج العنبر وتجاذبت معه أطراف الحدیث، فأوصاني وقال:« أوصیك بتقوی الله – عز وجل – وحذار ثم حذار من التلفاز وبرامجه الضارة التي تضر المرء في دینه ودنیاه».
وأسرد قائلاً:« یا أخي علیك بكثرة الاستغفار في كلّ ملمة أو قادحة إذا واجتها، فإنه خیر المخرج منها، وأری خروجي من السجن وخروج إخواني من كثرة قولنا للاستغفار، فإني كنت آمر أحبابي وأكلفهم أن یكثروا بالقول للاستغفار ولا أقل من ألف في الیوم….»!
ثم بعد أیام فك سراحنا أیضاً…. ولمّا فك سراح أخي رجع إلی بیته عند عائلته، فلم یمكث هنالك إلا شهر واحد حتى اتصل بي وفاجئني بقوله إذ قال لي: أخرج من بیتك!
فلمّا خرجت وجدته والأخ الآخر الذي كان اسمه مسلم وكان زمیله في السجن، وشخص ثالث… فعانقته وضحكنا كثیراً للزیارة مرّة أخری.
فقال لي: یا أخي عجل بالسرعة أرسلنا حتى لا یقبضوا علینا ثانیاً، وكان یدعو الله بالعجز ویقول: یا الله أدعوك بأسمائك الحسنی وصفاتك العلی بأن لا تختبرنا بالقبض والأسر مرّة أخری حتى تطأ أقدامنا أرض الجهاد.
فاتصلت بالأخ الرابط والمنسّق وقضینا ذلك الیوم بالمزاح والأناشید والفرح والسرور ربما أحس بحلوه علی مذاقي حتى الآن.
وقال لي أنت حدیث العهد بالزواج لا أقول لك تعال معنا الآن، ولكن سأنتظرك.. قلت لا بأس سأجيء إن شاء الله لاحقاً.
وبعد شهر ذهبت إلی “برافشة”، وإذا بالمجاهدین كلهم یعرفون أحمد الكردي ویذاكرون شیمه النبیلة، وسماته المثالیة، حتى ذكروني بالسجن، فإنّ هنالك لم یكن أحدٌ لكي لا یعرف أحمد الكردي.
وقالوا إنه يسأل یومیاً لم لا یأتي سعد الله؟
فلما سمع بمجیئي فرح كثیراً وهلل وكبّر…. وقال لي یوماً: یا أخي لا أدري إنّ حبّي لك یزداد یوماً فیوماً، فمزحت معه وقلت له: كثیر من الإخوة حببوني وقالوا لي نحبك ثم استشهدوا حتى لم یبق من جسدهم قطعة لحم، مثل الشهید غلام الله والشهید حنظلة و… فقال: أنا أیضاً أرید وأبغي الشهادة.
فكان رحمه الله أمیراً لمجوعة من المجاهدین قرب جبل “تشوتو” حفاظاً علی الإخوة الذین في مدیریة ” برافشة – هلمند، ومن هنالك كان یقضي عشرین كیلومترات أو أكثر لتدریس بعض الإخوة الآخرین الحدیث والعقیدة، فكنت اغتبط به ولهمّته، حیث لم یكن له إلا دراجة ناریة مندرسة، ولكن مع ذلك یحب أن یبلغ ما أوصی به الرسول صلی الله علیه وسلم عندما قال: بلّغوا عنّي ولو آیة.
وكان رجلاً متحمّساً جداً، ففي إحدى أیام الربیع الأول أم كان الربیع الثاني – قبیل استشهاده – عام 1432 هـ، أتت دبابات الأمریكان نحوهم، فسمعته یتكلم مع الأمیر ویقول: أبشر یا أمیر لو اقتربوا إلی مجموعتي أبدأ العملیة….. وكنّا نصلي صلاة العصر إذ سمعت صوت تكبیره عبر اللاسلكي یهلل ویكبّر… الله أكبر الله أكبر.. صادمت دبابة الأمریكان باللغم ودمّرت.. فخرّ الإخوة ساجدین لله ویهللون ویكبرون، فلم یجترئ العدو بأن یتقدم إلا أنه رجع ودخل من مكان آخر وقد كتبت حول تلك العملیة شیئاً بسیطاً في العدد التاسع والخمسین (59) من هذه المجلة….
وكان الأخ في ذلك المكان حتى علیهم قصف شدید في آخر أیام الربیع الثاني عام 1432هـ.ق، فلم یبق من جسده الطاهر قطعة لحم، ومات كما كان یتمنی.
فإنا لله وإنا إلیه راجعون، ورحم الله أخانا أحمد الكردي رحمه الله، فقد كان محبباً للنفوس في حیاته وبعد استشهاده….
(لئن حزنت قلوبنا وذرفت عيوننا على فراقك يا یا أحمد الكردي فإنا والله قد فرحنا لك أن رزقك تلك الخاتمة، وإنا لنحمد الله أن شرفك بتلك القتلة ونرغب إلى الله ونسأله سؤال الملحين أن يتقبلك في الشهداء، وأن يبلغك أعلى منازلهم وأن يجمعنا بك في الفردوس الأعلى..
لئن نسي الناس موتاهم، فما نحن – يا أحمد الكردي – لك من الناسين، كيف ونحن نقرأ قول ربنا الكريم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) آل عمران}.
ولئن نام المتخاذلون ملء أعينهم، فلسنا ننسى سهركم الليالي
 الطوال تحت قصف المدافع والطائرات تحرسون في سبيل الله..
 ولئن أكل الناس ألوان الطعام فلسنا ننسى جوعكم الأيام المتواصلة..
ولئن علّق اللئام أوسمة الذل والهوان على أكتافهم وصدورهم
 فلسنا ننسى أوسمة العز والكرامة والرفعة التي سطرتها دماؤك على صدرك..
ولئن تنعم القاعدون بالدفء تحت الفرش الوثيرة وصحبة الزوجات الحسان فلسنا ننسى مبيتكم على الجليد والعراء تكابدون البرد القارص بلا مأوى ولا فراش أو غطاء ؟!!
ولئن طرب العابثون وتغنى البطالون فلسنا ننسى تغنيك بكتاب ربك تتلوه آنا الليل وأطراف النهار متعلماً ومعلماً حتى وأنت في جبهات القتال لم تترك تعليم كتاب الله (جعله الله شفيعاً لك) وأحادیث نبیّك صلی الله علیه وسلم..
 ولئن طُلّت دماء بعض الرجال هدراً فما كان لدماء إخواننا وأبطالنا أن تذهب هدراً…
اللهم إنا نسألك ونتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تتقبل عبدك ( أحمد الكردي رحمه الله ) وترفع درجته..
اللهم إنه كان محباً لأوليائك مبغضاً لأعدائك فتقبله في الصالحين وبلغه أعلى منازل الشهداء واجعل استشهاده تكفيراً لسيئاته ورفعةً في درجاته، واجمعنا به وأحبابنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


البطل الشهيد المولوي الحاج عبدالرب اخندزاده رحمه الله
وفقا لمثل أفغاني (الحرب لا تقسم فيها الحلوى) بل تتطاير فيها الأشلاء، وتهراق فيها الدماء، وتقطع فيها الرؤوس، وتزهق فيها النفوس، وتصرع فيها الأبطال، وتتبادل فيها إطلاق النيران.
نعم هذه هي سجية الحرب أن تقع فيها قتلى بين الصفين.
نعم! لا بد وأن نتألم كما يألمون.
لكن لا سواء: نرجوا من الله ما لا يرجون
لا سواء: فقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.
لا سواء: للنار يمضي من تنوش سيوفنا
وإلى الجنان نزين الشهداء
شتان بين من يقاتل في سبيل الله وبين من يقاتل في سبيل الطاغوت، شتان بين قتيل مسلم وقتيل كافر، شتان بين حامل القرآن وحامل الصليب.
شتان بين جثة الشهيد العطرة وجيفة الكافر النتنة والنجسة.
آليت أن لا أدفن قتلاكم
فدخنوا المرء وسرباله
شتان بين من سجل صفحات تاريخ مشرق ويبقى على مر الدهور وكر العصور في ذاكرة أمته يُذكر ويُمدح ويُثنى عليه، وهو يحرض بذكرياته المؤمنين على القتال، وبين من يُهجَر ويُنسى ولا يذكر.
و إليكم في هذا اللقاء سيرة بطلين من أبطال الإسلام وهما الحاج المولوي عبد الرب والمولوي محمد صديق(طارق) رحمه الله.
الشهيد المولوي الحاج عبدالرب اخندزاده رحمه الله
ذو خُلق وخلق حسن، حريص على العلم، مدبر خطط العمليات ومنفذها، نشأ في عبادة الله، وحاز فضيلة الجهاد والإنفاق في سبيل الله معا، واستمر على درب الجهاد إلى أن صدق ما عاهد الله عليه،المولوي عبد الرب آخندزاده رحمه الله نحسبه كذلك والله حسيبه
لقد ولد المولوي عبد الرب اخندزاده ابن القاضي محمد زبير رحمه الله ابن أستاد العلماء المولوي دين محمد آخنذاده رحمه الله عام 1385 الهجري القمري الموافق لعام 1965 الميلادي في منطقة شملزو بقرية سهاك مديرية زرمت ولاية باكتيا، تعلم الدروس العصرية الابتدائية في كابول ثم شد الرحال إلى دار الهجرة بيشاور، وبدء يتلقى الدروس الشرعية في مختلف مدارسها، وتتلمذ في العالية على الشيخ محمد نعيم أخندزاده رحمه الله وأكمل دراسته وحصل على شهادة العالمية وتخرج من دار العلوم الحقانية بأكوره ختك.
جهاده وخدماته الجهادية وتوليته المناصب في الإمارة الإسلامية
لما أُسست حركةُ طالبان تحت إمرة سماحة أمير المؤمنين (حفظه الله ورعاه وحقق ما تمناه) عام 1373 الهجري الشمسي لقيام الحكم الإسلامي وقطع جذور الشر والفساد، رافقها الشهيد المولوي عبد الرب وبذل جهودا ضخمة في إقامة الإمارة الإسلامية وقدم خدمات جليلة لها وتولى عدة مناصب فيها.
كان الشهيد رحمه الله من بطانة القائد الشهيد المولوي إحسان الله إحسان وخاصته، مصاحبا له في كثير من الثغور، يدير الأمور عند غيابه.
وقد كان تحت راية النائب الحاج الملا محمد رباني رحمه الله في جبهة تشار آسياب، وقاد رُفقة له في فتح كابول وجلال آباد، ولما فتح الله تبارك وتعالى لمجاهدي الإمارة الإسلامية كابل كاملا، عُين الشهيد المولوي إحسان الله إحسان رئيسا للبنك المركزي الافغاني وإماما لمسجد بول خشتي وعُين الشهيد المولوي عبد الرب كنائب له في كلتا المهمتين، وقد أدى أخونا الشهيد دورا بارزا في تشييد بناء مسجد بول خشتي.
ثم تولى مسؤولية محل قندهار التجاري، وبعد فتح شمال البلاد عين مسؤولا لبنوك منطقة الشمال، وبقي هناك وقدم خدمات جليلة في مختلف المجالات إلى أن شنت أمريكا هجمة شرسة صليبية على بلادنا.
وبعد الانسحاب التكتيكي لمجاهدي الإمارة الإسلامية عاد الشهيد أخند زاده إلى جبهات الجهاد مرة أخرى، أخذ يستعد لمقارعة الصليبيين وأذنابهم، فجعل يدعوا الناس إلى الوقوف بجانب إخوانهم المجاهدين ويحرضهم على الجهاد في سبيل الله، ويجمع التبرعات لسد حاجيات إخوانه المجاهدين.
وكما كان أخونا داعيا إلى الخير كان فاعلا الخير أيضا فقد كان من المنفقين كرائم ماله في سبيل الله إلى أن إنخلع من عقاره فباعه وأنفق ثمنه على إخوته المجاهدين في سبيل الله، وتكفل عددا من عائلات الأسرى، واليتامى والثكالى.
((و عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الغزو غزوان فأما من ابتغى من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف.))
وقد بدء الشهيد نشاطاته الجهادية من ولاية بكتيكا، وكلف من قبل القيادة بتحمل مسؤولية خمسة مديريات للولاية المذكورة (غومل، سروبي، تشارباران، سرحوضه وومنه)
استعداده العلمي وديانته:
لقد كان الشهيد رحمه الله عالما جيدا، وقد قام بكتابة وطبع كتيب باسم (تنبيه الورى عن الشريعة الغراء في أحكام اللحى) والذي استُقبِل استقبالا حارا في حلقات العلم.
و كما يعلم كل أحد أن العلم الشرعي يحرض حامله على رفع السلاح ضد أعداء الله وإنفاق ماله في سبيل الله، ويمنعه من الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض، وهكذا كان أخونا عالما، عاملا، تقيا، سخيا، مجاهدا بنفسه وماله في سبيل الله.
استشهاده:
لقد أصيب رحمه الله في سبيل الله بإصابات مرتين، مرة في
منطقة غومل، ومرة في منطقة رباط، ولكن لما من الله عليه بالصحة رجع إلى جبهات القتال مع ما به من جراح شديدة، وآلام مبرحة، وزأر في وجوه أعداء الله ونازلهم فما دام سيفه مفلولا من قراعهم.
و ذات مرة كمن لأعداء الله الصليبيين في مركز مديرية سرحوضي وقاتلهم قتالا شديدا، فاستعان الصليب بطائراته، فقُتل أخونا مع ستة عشر من الإخوة المجاهدين في قصف أمريكي بتاريخ 8 من رجب عام 1431 الهجري إنا لله وإنا اليه راجعون.
وقد أُرسل جسد الشهيد إلى منشأه ومنطقته بولاية بكتيا
 وشيع جنازته مئات من المسلمين بأعين مترقرقة من الدموع، وقد دُفن بجنب أجداده وشقيقه الكبير الشهيد القاضي عبد الله كل رحمه الله.
فرحمك الله يا آخندزاده وتقبلك في الشهداء، وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة.


البطل المغوار الشهيد المولوي محمد صديق (طارق) رحمه الله
ولد الشهيد المولوي محمد صديق (طارق) ابن خان زمان ابن عبد الرحمن عام 1357 الهجري الشمسي في قرية هماي بولاية لوكر مديرية تشرخ وينتمي إلى أسرة متدينة من قبيلة كدا خيل.
تلقى العلوم الإبتدائية الشرعية في المدرسة النعمانية بدار الهجرة في منطقة هنجو، وتتلمذ في العالية على فضيلة الشيخ شيخ الحديث سميع الله (راشد) وفي العالمية على شيخ الحديث أمان الله وحصل على شهادة العالمية بتقدير ممتاز، وتخرج من مدرسة سراج الإسلام في منطقة كاهي.
وبعد التخرج قام بأداء وظيفة التدريس في المدارس المختلفة من ولاية لوجر.
كان رحمه الله ربعا قامة، أديما لونا، أحسن صورة وأتم خَلقاً.
وكان رحمه الله ذا أخلاق حسنة، خطيبا مفوها، شاعرا بليغا، مدرسا ماهرا، شجاعا مقداما، شابا قويا، قائدا محنكا، حِبا لإخوانه المجاهدين، خافضا جناح الذل لأبويه، صابرا محتسبا في ثغور الجهاد في سبيل الله.
وقد قدم أخونا خدمات جليلة في الإمارة الإسلامية وكان إبان حكمها مديرا للعشر والزكاة في ولاية لوجر بمديرية تشرخ، وقبيل الهجمة الصليبية الوحشية أُرسِل لولاية كونر وتولى نيابة مسؤول إحدى المديريات.
 وبعد الإحتلال الصليبي الغاشم رجع لمنشأه وبدأ كفاحا مسلحا وصار يطارد إخوان القردة والخنازير ويشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون، وذات يوم قعد في كمين للصليبيين المحتلين في مديرية بركي برك إذ وقع أسيرا في أيدي العملاء، وبعد مقاساة الشدائد وتحمل المظالم نقلوه إلى معتقل بل تشرخي، وكما يعلم كل أحد أن المجاهدين حولوا سجون الإحتلال إلى مدارس دراسية يتدارسون فيها ويدرسون وهكذا كان أخونا عند التحاقه بالمدرسة اليوسفية تربع لحفظ كتاب الله وصار إماما ومدرسا لسجناء زنزانته يؤمهم ويعلمهم ويدعوهم إلى الخير، وبعد أن مكث 22 شهرا في السجن من الله عليه بالفرج فعاد إلى ساحات الوغى وشكل مجموعة مسلحة من الإخوة المجاهدين، وفي عام 1389 الهجري الشمسي عين رئيسا لجنة مديرية تشرخ العسكرية.
وفي عام 1390 الهجري الشمسي فاجئت قوات الإحتلال والعملاء قرية هماي بالمداهمة لإلقاء القبض على المجاهدين فآثر المجاهدون القتال بالإستئسار، وقاتلوهم قتالا شديدا وقتل جراء هذا النضال ثلثة من المجاهدين فيهم المولوي جل محمد الحقاني، وقد ألغم الصليبييون أجساد هؤلاء الشهداء فعند إنتقالهم إنفجر اللغم الذي زرعه وحوش الصليب في أجساد الشهداء وأصيب أخونا محمد صديق بإصابات بالغة في يديه ورجليه وانكسرت رجلاه وإحدى يديه.
وقد كان رحمه الله في رأس قائمة المطلوبين للأمريكان في المنطقة، وكانوا على تجسس عليه، وذات مرة في 1391 الهجري الشمسي اشتبك المجاهدون مع اعداء الإسلام الصليبيين واستمر القراع معهم إلى تسع ساعات وقتل وأصيب في هذه المعركة العشرات من الأمريكان، ولبى أخونا فيها داعي الموت وقتل شهيدا، نحسبه كذلك والله حسيبه.
 فرحمكم الله أيها الأبطال وأسكنكم الفردوس الأعلى من الجنة، فقد صدقتم ما عاهدتم الله عليه، وقدمتم لبنيان النظام الإسلامي لبنات من الجماجم نسئل الله أن يحرر ويطهر بلاد المسلمين كلها من رجس الكفار وأذنابهم، وما ذلك على الله بعزيز.

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

شهداءنا الأبطال

إعداد: سعد الله البلوشي

الشیخ الحافظ، الشهید أحمد الكردي رحمه الله

الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً.. ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلاً وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللاً.. وكمل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أصدقُ العباد قصداً، وأعظمُهم لربه ذكراً وخشية وتقوى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأتقياء وأصحابه الأصفياء.

أما بعد:

قبل أن ألج في صلب الموضوع یحلو لي أن استعرض قولاً من أحد المفكرین الإسلاميین الذي قال: ما أجمل وأروع الشاب یستثمر قوّته، ویُفتّق طاقته، ویعیش شبابه حیویة وتوقداً، قوّة في عمل، وانطلاقاً في ثبات (یعجبني الشباب إذا هو استقام واستطال، ثم انفتل، عضل مشدود یستطیع أن یرتخی، وذراع ممدودة تستطیع أن تنطوی، ورأس مرفوع، وصدر مفتوح، یستقبل الریح باردة، ویستقبلها لافحة، وظهر عریض یحمل الأثقال ابتساماً، وقدم ككرة المطاط لا تمس الأرض حتى ترتد عنها، ومفاصل كمفاصل الفولاذ أغرقت في الزیت، وجسم صحیح سلیم كالدینار، إذا ضربته علی الرخام رنّ، له متانة الحدید ولیس به مسه، نشأه أبواه فأحسنا تنشئته، وروضته الریاضة فأحسنت ترویضه.

یعجبني الشباب إذا هو تأنق وترقق في غیر أنوثة أو خنوثة، ومع هذا فهو عند العمل یخلع التأنق، وینبو عن الترقق، فإن كان العمل فحماً وزیتاً انغمس في الفحم والزیت، وإن كان انبطاحاً علی الأرض تمرغ في تراب الأرض، وإن كان بخاراً وعفاراً، نشق الأبخرة، ولم یشح بوجهه عن الأعفرة.

فإذا انتهی النهار دخل الحمام، وخرج منه فعاد إلی التأنق علی الصحة التي أكسبها العمل، وإلی الترقق علی القوة التي اكسبها مران العضل.

 فمن هذا المنطلق فقهنا بأنّ عمر الإنسان رأس ماله الحقیقي فعلیه أن یستثمره في طاعة الله – عزوجل- حتى یربح یوم القیامة.

والرسول – صلی الله علیه وسلم – بیّن أن كل إنسان منا سوف یُسأل یوم القیامة عن أربعة أشیاء، فیسأل عن عمره فیم أفناه، ویسأل عن شبابه، وعن علمه، وعن ماله.

كما أخرج الإمام الترمذي – رحمه الله – في سننه عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلی الله علیه وسلم : ” لاتزول قدما عبد یوم القیامة حتى یسأل عن عمره فیم أفناه؟ وعن علمه فیم فعل؟ وعن ماله من أین اكتسبه وفیم أنفقه؟ وعن جسمه فیم أبلاه؟” وقال الترمذي حدیث حسن صحیح.

فالله سبحانه وتعالی جعل في الشباب قوّة ذاخرة لحمل أثقال الدین والذود عن حیاضه، ویصدق فيهم قول الباري – عز وجل- :« إنهم فتیة آمنوا بربهم وزدناهم هدیً».

والشهید أحمد الكردي رحمه الله تعالی أحد هؤلاء الفتیة الذي كان له حظٌّ هائل في هذا المضمار، وإن حياته مفعمة بالذكریات الجمیلة التي حفزتني أن أذكر شیئاً بسیطاً منها عمّا في بضاعتي المزجاة.

نعم؛ قد كان – رحمه الله – یتراوح عمره بین الثالث والعشرین إلی الخامس والعشرین، وفي البدایة دخل المدارس الحكومیة وقضی فترة لابأس به هنالك، ثم أخذ یتعلم العلوم الشرعیة حتى غسل ید الفراغ عنها وصار مفعماً بالعلم والعمل، ویحظو بعقیدة نقیة خالصة في التوحید.

وعندما التحق بركب الجهاد عیّنوه كأستاذ للعقیدة، یدرّس المجاهدین الجدد العقیدة السمحة الصحیحة، حتى طفح كیله غراماً وهیاماً لأرض الجهاد وللنضال مع أعداء الملة والدین وجهاً لوجه علی ثری الأفغان، فاستاذن من أمیره حتى یقضي ما یحنو، ویعشق، ویحب…

فلم یخیّب رجائه مع أنه كان بین اللهفة والرجاء، فأرسله مع أربع أنفار آخرین، وعیّنه كأمیر لهذه الثلة المباركة في هذا السفر، مع أنه كان في هذه الجماعة من هو أكبر سنّا منه، نظراً إلی خلوصه وتقاه ومواهبه الذاخرة.

وعندما كانوا في “زرنج” أرادوا أن یذهبوا من هناك إلی “تاغز” ومن “تاغز” إلی “برافشة”- هلمند.

لكن مع الأسف البالغ تجسّس لهم الجواسیس والحواسیس بأنّ مجموعة من المجاهدین قاصدون هلمند للجهاد والقتال علیهم، فیترصدون لهم عبر الطریق الذي هم كانوا یأتون منه، فبعدما أوقفوهم أرسفوهم بالأغلال وضربوهم ضرباً شدیداً حتى شجوا أحداً منهم، ثم نقلوهم بالطائرة الخاصة إلی كابول، فرحین بأنهم قبضوا علی مجموعة إرهابیة حد زعمهم.

وعندما كنّا في الریاسة الرقم السابع عشر سمعنا بأن مجموعة من الأكراد أتوا بهم إلی هذا المحتجز.

وكانوا یبدلّون الأسری بعد بضع أیّام إلی الغرفات الأخرى، یعني ما كانوا یتركون أسیراً أن یمكث في غرفة طوال بقائه في المحتجز؛ بل یبدلون مكانه بعد خمسة إلی عشرة أیام، حتى لا یستأنس ویبقی حائراً مضطرباً مندهشاً.

ففي یوم من الأیام بدّلوا غرفتي، فعندما دخلت الغرفة الجدیدة لاقیت شاباً باسلاً من حظي في تلك الغرفة الجدیدة، وحتى ذاك الحین لم أكن أعرفه من قبل ولا عن مدی شخصیته؛ لأني ما كنت لأتكلم معه قبل ذلك، وقدیماً قالوا: تكلموا تعرفوا.

وإنّ كثیراً من الناس نأخذ عنهم انطباعاً أولیّاً إلی أن یتحدثوا، فحینئذٍ إمّا أن یترسخ ذلك الانطباع، وإمّا أن نلوم أنفسنا علیه!

وعندما تكلم كشف عن معدنه، فأحببته في الله ثم سئلته ما جریمتك ولم قبضوا علیك؟

فضحك وأخفی أمره عنّي بدء الأمر، وقال یا أخي لاتسئلني!

قلت: لم؟

وأنا كنت مستیقناً بأنه مجاهد وإن كان هو في ذاك الوقت یحلق لحیته؛ لأنّ عقیدته الصحیحة و… دفعتني بأن أظن به خیرا، فأسردت له أسماء قائمة من إخوانه المجاهدین، فنظر إلي ثم قال إني مجاهد أیضاً، فكان یتكلم معي ویبحث ویستشهد بالآیات والأحادیث، فكنت أتعجب من علمه وأسئله عن أي مشكل علمي وهو یشفي غلیلي ویبرد علیلي.

والشيء العجیب ههنا الذي أثار إعجابي هو أنهم كانوا في قمّة الأخذ بالاحتياطات والأمنیّات، وكانوا یحلقون لحاهم، حتى لایعثر منافق جاسوس علی أنهم من الإخوة المجاهدین، وهكذا أنجاهم الله سبحانه وتعالی في المحكمة، حیث قضی القاضي علیهم بسنة وشهر عندما لم یعثروا علی اعتراف منهم.

وكان مشهور بین السجناء بأنّهم أتوا للتجارة فقبضوا علیهم، فكنت أمزح معه وأقول أتیت للتجارة؟

قال: إي والله.. إني قد كنت أتیت للتجارة ولكن مع ربي { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) سورة الصف

 ونقلونا إلی السجن الكبیر المشوه “بولي تشرخي” بعد ثلاثة شهور، فكان هو مع مجموعته معنا.

ولا ینسی بأنّ الأخ حفظ سورتَي “التوبة” و”الأنفال” في هذا المحتجز أي محتجز رقم (17).

ولمّا أدخلونا السجن ذهبت في الیوم الثاني إلی عنبر الذي كان فیه مدرسة السجن، فسجّلت اسمي في “دار التحفیظ” لحفظ القرآن الكریم، وقلت لحبّي وأستاذي الحنون الشیخ ممتاز أحمد – فك الله أسره – أرید أن أحفظ القرآن الكریم؟

فقال: لا بأس، وسجّل اسمي.

فلمّا بدأت حفظ المصحف الشریف كنت أدعو أخي أحمد الكردي – رحمه الله – وأقول له: یا أخي قد منحك الله سبحانه وتعالی ذهناً ثاقباً فعلیك بحفظ القرآن الكریم.

لكنّه لم یجئ نحو شهر أو أكثر حتى وفقه الله سبحانه وتعالی بأن یدخل في “دار التحفیظ” لحفظ القرآن الكریم.

فبادر بالتنافس معي والشيء العجیب أنه لم یكن لیفارقني، فكنا ننزل للتشمیس معاً ونتجوّل وكان یقول لي: والله إني أحبّك في الله.

فكنت أقول له: أحبّك الذي أحببتني فیه.

وكان رحمه الله تعالی یرشدني ویشحذنا للتزكیة والسلوك،، وكلما أراد أن یتكلم أو ینصح أخاً یستشهد بالآیات والأحادیث الكثیرة؛ لأنه كان یحفظ أحادیث كثیرة، وكثیر ما یذكر مصدر

 الحدیث ویقول كذا في روایة البخاري، ومسلم، والترمذي و…

وقد وجدته یقظ الفؤاد، ففي یوم من الأیام جعل بیني وبینه المنافسة حتى نستبق في حفظ الآیات، فكنت قد حفظت خمسة صفحة تقریباً في ساعتین، فلما استمعت إلیه وجدته أنه قد حفظ نحو ثمانیة إلی عشرة صفحات.

وكان رحمه الله تعالی خدوماً لإخوانه ویطبخ لهم الطعام كل لیلة، حتى لا یحس إخوانه الآخرون بالملل ولا بالعناء ولا بالتعب، وكان ینصحهم ویدیر لهم دروساً في العقیدة، والصبر والمصابرة والتوكل، وینفخ فیهم النشاط والحیویة، ویزیل عنهم الكروب والهموم.

وكان رحمه الله یحفظ القرآن الكریم حتى وفقه الله سبحانه وتعالی أن یكمل حفظه للقرآن الكریم في یوم الخمیس 7 من شوال عام 1431هـ.ق، وذلك عندما تمّت الدروس قال أستاذنا الحبیب ممتاز أحمد البرواني – فك الله أسره -: إنّ أخاكم أحمد الكردي أتمّ حفظه للقرآن الكریم فادعوا له بالخیر، ثم رفع أكفّ الضراعة ودعی بدعوة طویلة ثمّ دعی لإخلاص الأخ.

حتى فك سراحه فكابدني حزنٌ شدیدٌ، وفتحت كراسة ذكریات السجن إذ واجهت بهذه الكلمات:

{ في هذه العجالة عزمت كي أنثر شیئاً بسیطاً من أحزاني وأتراحي من افتراقي لأخي أحمد الكردي حفظه الله ورعاه الذي جاء عند الظهیرة لوداعي وأخبرني بأنّ ورقة خروجهم من السجن قد وصلت إلیهم، فجعلني خبره بین الحزن والفرح والسرور والترح.

أما الحزن فلأجل افتراقي منه بعد مدّة قضیتها معه وأحببته وأحببني في الله، وأمّا السرور فإنّ خروج أخ مسلم من أیدي الطواغیت ورجوعه إلی عرینه ومسقط رأسه من أحلی الأماني لأسیر یقضي أصعب أیامه خلف قضبان الألم…..

وما في الأرض أشقی من محب  * وإن وجد الهوی حلو المذاق

تراه باكیاً كل حیــــــــــــــــــن  *   مخافة فرقة أو لاشتیــــــاق

فیبكي إن ناوا شوقاً إلیــــــــهم*     ویبكي إن دنو خوف الفراق

فتسخن عینــــــــه عند التنائي * وتسخن عینه عند التلاقـــي

وقلّبت صفحة أخری فإذا بكلمات أعجبتني:

نتیجة الاستغفار

كنت جالساً حول المائدة ( لیلة الخمیس 2/9/1389هـ.ش) وأتعشی بالفاصولیا والحلیب الحامض إذ رنّ الجوال باتصال الأخ الفاضل أحمد الكردي حفظه الله وتقبله في الشهداء الصالحین {وقد دعوت له هان ذاك بهذه الجمل لأنه كان دائماً یوصیني بأن أدعو له أن یرزقه الله الشهادة} فذهبت نحو الصالون خارج العنبر وتجاذبت معه أطراف الحدیث، فأوصاني وقال:« أوصیك بتقوی الله – عز وجل – وحذار ثم حذار من التلفاز وبرامجه الضارة التي تضر المرء في دینه ودنیاه».

وأسرد قائلاً:« یا أخي علیك بكثرة الاستغفار في كلّ ملمة أو قادحة إذا واجتها، فإنه خیر المخرج منها، وأری خروجي من السجن وخروج إخواني من كثرة قولنا للاستغفار، فإني كنت آمر أحبابي وأكلفهم أن یكثروا بالقول للاستغفار ولا أقل من ألف في الیوم….»!

ثم بعد أیام فك سراحنا أیضاً…. ولمّا فك سراح أخي رجع إلی بیته عند عائلته، فلم یمكث هنالك إلا شهر واحد حتى اتصل بي وفاجئني بقوله إذ قال لي: أخرج من بیتك!

فلمّا خرجت وجدته والأخ الآخر الذي كان اسمه مسلم وكان زمیله في السجن، وشخص ثالث… فعانقته وضحكنا كثیراً للزیارة مرّة أخری.

فقال لي: یا أخي عجل بالسرعة أرسلنا حتى لا یقبضوا علینا ثانیاً، وكان یدعو الله بالعجز ویقول: یا الله أدعوك بأسمائك الحسنی وصفاتك العلی بأن لا تختبرنا بالقبض والأسر مرّة أخری حتى تطأ أقدامنا أرض الجهاد.

فاتصلت بالأخ الرابط والمنسّق وقضینا ذلك الیوم بالمزاح والأناشید والفرح والسرور ربما أحس بحلوه علی مذاقي حتى الآن.

وقال لي أنت حدیث العهد بالزواج لا أقول لك تعال معنا الآن، ولكن سأنتظرك.. قلت لا بأس سأجيء إن شاء الله لاحقاً.

وبعد شهر ذهبت إلی “برافشة”، وإذا بالمجاهدین كلهم یعرفون أحمد الكردي ویذاكرون شیمه النبیلة، وسماته المثالیة، حتى ذكروني بالسجن، فإنّ هنالك لم یكن أحدٌ لكي لا یعرف أحمد الكردي.

وقالوا إنه يسأل یومیاً لم لا یأتي سعد الله؟

فلما سمع بمجیئي فرح كثیراً وهلل وكبّر…. وقال لي یوماً: یا أخي لا أدري إنّ حبّي لك یزداد یوماً فیوماً، فمزحت معه وقلت له: كثیر من الإخوة حببوني وقالوا لي نحبك ثم استشهدوا حتى لم یبق من جسدهم قطعة لحم، مثل الشهید غلام الله والشهید حنظلة و… فقال: أنا أیضاً أرید وأبغي الشهادة.

فكان رحمه الله أمیراً لمجوعة من المجاهدین قرب جبل “تشوتو” حفاظاً علی الإخوة الذین في مدیریة ” برافشة – هلمند، ومن هنالك كان یقضي عشرین كیلومترات أو أكثر لتدریس بعض الإخوة الآخرین الحدیث والعقیدة، فكنت اغتبط به ولهمّته، حیث لم یكن له إلا دراجة ناریة مندرسة، ولكن مع ذلك یحب أن یبلغ ما أوصی به الرسول صلی الله علیه وسلم عندما قال: بلّغوا عنّي ولو آیة.

وكان رجلاً متحمّساً جداً، ففي إحدى أیام الربیع الأول أم كان الربیع الثاني – قبیل استشهاده – عام 1432 هـ، أتت دبابات الأمریكان نحوهم، فسمعته یتكلم مع الأمیر ویقول: أبشر یا أمیر لو اقتربوا إلی مجموعتي أبدأ العملیة….. وكنّا نصلي صلاة العصر إذ سمعت صوت تكبیره عبر اللاسلكي یهلل ویكبّر… الله أكبر الله أكبر.. صادمت دبابة الأمریكان باللغم ودمّرت.. فخرّ الإخوة ساجدین لله ویهللون ویكبرون، فلم یجترئ العدو بأن یتقدم إلا أنه رجع ودخل من مكان آخر وقد كتبت حول تلك العملیة شیئاً بسیطاً في العدد التاسع والخمسین (59) من هذه المجلة….

وكان الأخ في ذلك المكان حتى علیهم قصف شدید في آخر أیام الربیع الثاني عام 1432هـ.ق، فلم یبق من جسده الطاهر قطعة لحم، ومات كما كان یتمنی.

فإنا لله وإنا إلیه راجعون، ورحم الله أخانا أحمد الكردي رحمه الله، فقد كان محبباً للنفوس في حیاته وبعد استشهاده….

(لئن حزنت قلوبنا وذرفت عيوننا على فراقك يا یا أحمد الكردي فإنا والله قد فرحنا لك أن رزقك تلك الخاتمة، وإنا لنحمد الله أن شرفك بتلك القتلة ونرغب إلى الله ونسأله سؤال الملحين أن يتقبلك في الشهداء، وأن يبلغك أعلى منازلهم وأن يجمعنا بك في الفردوس الأعلى..

لئن نسي الناس موتاهم، فما نحن – يا أحمد الكردي – لك من الناسين، كيف ونحن نقرأ قول ربنا الكريم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) آل عمران}.

ولئن نام المتخاذلون ملء أعينهم، فلسنا ننسى سهركم الليالي

 الطوال تحت قصف المدافع والطائرات تحرسون في سبيل الله..

 ولئن أكل الناس ألوان الطعام فلسنا ننسى جوعكم الأيام المتواصلة..

ولئن علّق اللئام أوسمة الذل والهوان على أكتافهم وصدورهم

 فلسنا ننسى أوسمة العز والكرامة والرفعة التي سطرتها دماؤك على صدرك..

ولئن تنعم القاعدون بالدفء تحت الفرش الوثيرة وصحبة الزوجات الحسان فلسنا ننسى مبيتكم على الجليد والعراء تكابدون البرد القارص بلا مأوى ولا فراش أو غطاء ؟!!

ولئن طرب العابثون وتغنى البطالون فلسنا ننسى تغنيك بكتاب ربك تتلوه آنا الليل وأطراف النهار متعلماً ومعلماً حتى وأنت في جبهات القتال لم تترك تعليم كتاب الله (جعله الله شفيعاً لك) وأحادیث نبیّك صلی الله علیه وسلم..

 ولئن طُلّت دماء بعض الرجال هدراً فما كان لدماء إخواننا وأبطالنا أن تذهب هدراً…

اللهم إنا نسألك ونتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تتقبل عبدك ( أحمد الكردي رحمه الله ) وترفع درجته..

اللهم إنه كان محباً لأوليائك مبغضاً لأعدائك فتقبله في الصالحين وبلغه أعلى منازل الشهداء واجعل استشهاده تكفيراً لسيئاته ورفعةً في درجاته، واجمعنا به وأحبابنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

البطل الشهيد المولوي الحاج عبدالرب اخندزاده رحمه الله

وفقا لمثل أفغاني (الحرب لا تقسم فيها الحلوى) بل تتطاير فيها الأشلاء، وتهراق فيها الدماء، وتقطع فيها الرؤوس، وتزهق فيها النفوس، وتصرع فيها الأبطال، وتتبادل فيها إطلاق النيران.

نعم هذه هي سجية الحرب أن تقع فيها قتلى بين الصفين.

نعم! لا بد وأن نتألم كما يألمون.

لكن لا سواء: نرجوا من الله ما لا يرجون

لا سواء: فقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.

لا سواء: للنار يمضي من تنوش سيوفنا

وإلى الجنان نزين الشهداء

شتان بين من يقاتل في سبيل الله وبين من يقاتل في سبيل الطاغوت، شتان بين قتيل مسلم وقتيل كافر، شتان بين حامل القرآن وحامل الصليب.

شتان بين جثة الشهيد العطرة وجيفة الكافر النتنة والنجسة.

آليت أن لا أدفن قتلاكم

فدخنوا المرء وسرباله

شتان بين من سجل صفحات تاريخ مشرق ويبقى على مر الدهور وكر العصور في ذاكرة أمته يُذكر ويُمدح ويُثنى عليه، وهو يحرض بذكرياته المؤمنين على القتال، وبين من يُهجَر ويُنسى ولا يذكر.

و إليكم في هذا اللقاء سيرة بطلين من أبطال الإسلام وهما الحاج المولوي عبد الرب والمولوي محمد صديق(طارق) رحمه الله.

الشهيد المولوي الحاج عبدالرب اخندزاده رحمه الله

ذو خُلق وخلق حسن، حريص على العلم، مدبر خطط العمليات ومنفذها، نشأ في عبادة الله، وحاز فضيلة الجهاد والإنفاق في سبيل الله معا، واستمر على درب الجهاد إلى أن صدق ما عاهد الله عليه،المولوي عبد الرب آخندزاده رحمه الله نحسبه كذلك والله حسيبه

لقد ولد المولوي عبد الرب اخندزاده ابن القاضي محمد زبير رحمه الله ابن أستاد العلماء المولوي دين محمد آخنذاده رحمه الله عام 1385 الهجري القمري الموافق لعام 1965 الميلادي في منطقة شملزو بقرية سهاك مديرية زرمت ولاية باكتيا، تعلم الدروس العصرية الابتدائية في كابول ثم شد الرحال إلى دار الهجرة بيشاور، وبدء يتلقى الدروس الشرعية في مختلف مدارسها، وتتلمذ في العالية على الشيخ محمد نعيم أخندزاده رحمه الله وأكمل دراسته وحصل على شهادة العالمية وتخرج من دار العلوم الحقانية بأكوره ختك.

جهاده وخدماته الجهادية وتوليته المناصب في الإمارة الإسلامية

لما أُسست حركةُ طالبان تحت إمرة سماحة أمير المؤمنين (حفظه الله ورعاه وحقق ما تمناه) عام 1373 الهجري الشمسي لقيام الحكم الإسلامي وقطع جذور الشر والفساد، رافقها الشهيد المولوي عبد الرب وبذل جهودا ضخمة في إقامة الإمارة الإسلامية وقدم خدمات جليلة لها وتولى عدة مناصب فيها.

كان الشهيد رحمه الله من بطانة القائد الشهيد المولوي إحسان الله إحسان وخاصته، مصاحبا له في كثير من الثغور، يدير الأمور عند غيابه.

وقد كان تحت راية النائب الحاج الملا محمد رباني رحمه الله في جبهة تشار آسياب، وقاد رُفقة له في فتح كابول وجلال آباد، ولما فتح الله تبارك وتعالى لمجاهدي الإمارة الإسلامية كابل كاملا، عُين الشهيد المولوي إحسان الله إحسان رئيسا للبنك المركزي الافغاني وإماما لمسجد بول خشتي وعُين الشهيد المولوي عبد الرب كنائب له في كلتا المهمتين، وقد أدى أخونا الشهيد دورا بارزا في تشييد بناء مسجد بول خشتي.

ثم تولى مسؤولية محل قندهار التجاري، وبعد فتح شمال البلاد عين مسؤولا لبنوك منطقة الشمال، وبقي هناك وقدم خدمات جليلة في مختلف المجالات إلى أن شنت أمريكا هجمة شرسة صليبية على بلادنا.

وبعد الانسحاب التكتيكي لمجاهدي الإمارة الإسلامية عاد الشهيد أخند زاده إلى جبهات الجهاد مرة أخرى، أخذ يستعد لمقارعة الصليبيين وأذنابهم، فجعل يدعوا الناس إلى الوقوف بجانب إخوانهم المجاهدين ويحرضهم على الجهاد في سبيل الله، ويجمع التبرعات لسد حاجيات إخوانه المجاهدين.

وكما كان أخونا داعيا إلى الخير كان فاعلا الخير أيضا فقد كان من المنفقين كرائم ماله في سبيل الله إلى أن إنخلع من عقاره فباعه وأنفق ثمنه على إخوته المجاهدين في سبيل

 الله، وتكفل عددا من عائلات الأسرى، واليتامى والثكالى.

((و عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الغزو غزوان فأما من ابتغى من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف.))

وقد بدء الشهيد نشاطاته الجهادية من ولاية بكتيكا، وكلف من قبل القيادة بتحمل مسؤولية خمسة مديريات للولاية المذكورة (غومل، سروبي، تشارباران، سرحوضه وومنه)

استعداده العلمي وديانته:

لقد كان الشهيد رحمه الله عالما جيدا، وقد قام بكتابة وطبع كتيب باسم (تنبيه الورى عن الشريعة الغراء في أحكام اللحى) والذي استُقبِل استقبالا حارا في حلقات العلم.

و كما يعلم كل أحد أن العلم الشرعي يحرض حامله على رفع السلاح ضد أعداء الله وإنفاق ماله في سبيل الله، ويمنعه من الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض، وهكذا كان أخونا عالما، عاملا، تقيا، سخيا، مجاهدا بنفسه وماله في سبيل الله.

استشهاده:

لقد أصيب رحمه الله في سبيل الله بإصابات مرتين، مرة في

منطقة غومل، ومرة في منطقة رباط، ولكن لما من الله عليه بالصحة رجع إلى جبهات القتال مع ما به من جراح شديدة، وآلام مبرحة، وزأر في وجوه أعداء الله ونازلهم فما دام سيفه مفلولا من قراعهم.

و ذات مرة كمن لأعداء الله الصليبيين في مركز مديرية سرحوضي وقاتلهم قتالا شديدا، فاستعان الصليب بطائراته، فقُتل أخونا مع ستة عشر من الإخوة المجاهدين في قصف أمريكي بتاريخ 8 من رجب عام 1431 الهجري إنا لله وإنا اليه راجعون.

وقد أُرسل جسد الشهيد إلى منشأه ومنطقته بولاية بكتيا

 وشيع جنازته مئات من المسلمين بأعين مترقرقة من الدموع، وقد دُفن بجنب أجداده وشقيقه الكبير الشهيد القاضي عبد الله كل رحمه الله.

فرحمك الله يا آخندزاده وتقبلك في الشهداء، وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة.

البطل المغوار الشهيد المولوي محمد صديق (طارق) رحمه الله

ولد الشهيد المولوي محمد صديق (طارق) ابن خان زمان ابن عبد الرحمن عام 1357 الهجري الشمسي في قرية هماي بولاية لوكر مديرية تشرخ وينتمي إلى أسرة متدينة من قبيلة كدا خيل.

تلقى العلوم الإبتدائية الشرعية في المدرسة النعمانية بدار الهجرة في منطقة هنجو، وتتلمذ في العالية على فضيلة الشيخ شيخ الحديث سميع الله (راشد) وفي العالمية على شيخ الحديث أمان الله وحصل على شهادة العالمية بتقدير ممتاز، وتخرج من مدرسة سراج الإسلام في منطقة كاهي.

وبعد التخرج قام بأداء وظيفة التدريس في المدارس المختلفة من ولاية لوجر.

كان رحمه الله ربعا قامة، أديما لونا، أحسن صورة وأتم خَلقاً.

وكان رحمه الله ذا أخلاق حسنة، خطيبا مفوها، شاعرا بليغا، مدرسا ماهرا، شجاعا مقداما، شابا قويا، قائدا محنكا، حِبا لإخوانه المجاهدين، خافضا جناح الذل لأبويه، صابرا محتسبا في ثغور الجهاد في سبيل الله.

وقد قدم أخونا خدمات جليلة في الإمارة الإسلامية وكان إبان حكمها مديرا للعشر والزكاة في ولاية لوجر بمديرية تشرخ، وقبيل الهجمة الصليبية الوحشية أُرسِل لولاية كونر وتولى نيابة مسؤول إحدى المديريات.

 وبعد الإحتلال الصليبي الغاشم رجع لمنشأه وبدأ كفاحا مسلحا وصار يطارد إخوان القردة والخنازير ويشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون، وذات يوم قعد في كمين للصليبيين المحتلين في مديرية بركي برك إذ وقع أسيرا في أيدي العملاء، وبعد مقاساة الشدائد وتحمل المظالم نقلوه إلى معتقل بل تشرخي، وكما يعلم كل أحد أن المجاهدين حولوا سجون الإحتلال إلى مدارس دراسية يتدارسون فيها ويدرسون وهكذا كان أخونا عند التحاقه بالمدرسة اليوسفية تربع لحفظ كتاب الله وصار إماما ومدرسا لسجناء زنزانته يؤمهم ويعلمهم ويدعوهم إلى الخير، وبعد أن مكث 22 شهرا في السجن من الله عليه بالفرج فعاد إلى ساحات الوغى وشكل مجموعة مسلحة من الإخوة المجاهدين، وفي عام 1389 الهجري الشمسي عين رئيسا لجنة مديرية تشرخ العسكرية.

وفي عام 1390 الهجري الشمسي فاجئت قوات الإحتلال والعملاء قرية هماي بالمداهمة لإلقاء القبض على المجاهدين فآثر المجاهدون القتال بالإستئسار، وقاتلوهم قتالا شديدا وقتل جراء هذا النضال ثلثة من المجاهدين فيهم المولوي جل محمد الحقاني، وقد ألغم الصليبييون أجساد هؤلاء الشهداء فعند إنتقالهم إنفجر اللغم الذي زرعه وحوش الصليب في أجساد الشهداء وأصيب أخونا محمد صديق بإصابات بالغة في يديه ورجليه وانكسرت رجلاه وإحدى يديه.

وقد كان رحمه الله في رأس قائمة المطلوبين للأمريكان في المنطقة، وكانوا على تجسس عليه، وذات مرة في 1391 الهجري الشمسي اشتبك المجاهدون مع اعداء الإسلام الصليبيين واستمر القراع معهم إلى تسع ساعات وقتل وأصيب في هذه المعركة العشرات من الأمريكان، ولبى أخونا فيها داعي الموت وقتل شهيدا، نحسبه كذلك والله حسيبه.

 فرحمكم الله أيها الأبطال وأسكنكم الفردوس الأعلى من الجنة، فقد صدقتم ما عاهدتم الله عليه، وقدمتم لبنيان النظام الإسلامي لبنات من الجماجم نسئل الله أن يحرر ويطهر بلاد المسلمين كلها من رجس الكفار وأذنابهم، وما ذلك على الله بعزيز.