احترام المرأة

عن كتاب (النظرات) – مصطفى لطفي المنفلوطي

 

نعم إن الرجال قوامون على النساء كما يقول الله تعالى في كتابه العزيز، ولكن المرأة عماد الرجل، وملاك أمره، وسر حياته، من صرخة الوضع، إلى أنَّة النزع.

لا يستطيع الأب أن يحمل بين جوانحه لطفله الصغير عواطف الأم، فهي التي تحوطه بعنايتها ورعايتها، وتظلله بجناح رحمتها وشفقتها، وتسكب قلبها في قلبه حتى يستحيلا إلى قلب واحد، يخفق خفوقا واحدا ويشعر بشعور واحد، وهي التي تسهر عليه ليلها وتكلؤه نهارها، وتحتمل جميع آلام الحياة وأرزائها في سبيله، غير شاكية ولا متبرمة، بل تزداد شغفا به، وإيثارا له، وضنا بحياته بمقدار ما تبذل من الجهود في سبيل تربيته، ولو شئت أن أقول لقلت: إن سر الحياة الإنسانية، وينبوع وجودها وكوكبها الأعلى الذي تنبعث منه جميع أشعتها ينحصر في كلمة واحدة هي (قلب الأم).

ولا يستطيع الرجل أن يكون رجلا تام الرجولة حتى يجد إلى جانبه زوجة تبعث في نفسه روح الشهامة والهمة، وتغرس في قلبه كبرياء المسؤولية وعظمتها، وحسب المرء أن يعلم أنه سيد وأن له رعية كبيرة أو صغيرة تضع ثقتها فيه، وتستظل بظل حمايته ورعايته، وتعتمد في شؤون حياتها عليه، حتى يشعر بحاجته إلى استكمال جميع صفات السيد ومناياه في نفسه، فلا يزال يعالج ذلك ويأخذ نفسه به حتى يتم له ما يريد، وما نصح الرجل بالجد في عمله والاستقامة في شؤون حياته؟، وسلوك الجادة في سيره، ولا هداه إلى التدبير ومزاياه، والاقتصاد وفوائده، والسعي وثمراته، ولا دفع به في طريق المغامرة والمخاطرة؛ والدأب والمثلبرة، مثل دموع الزوجة المنهلة، ويدها الضارعة المبسوطة.

ولا يستطيع الشيخ الفاني في أخريات أيامه أن يجد في قلب ولده الفتى من الحنان والعطف، والحب والإيثار، ما يجد في قلب ابنته الفتاة، فهي التي تمنحه يدها عكازا لشيخوخته، وقلبها مستودعا لأسراره، وهواجس نفسه، وهي التي تسهر بجانب سرير مرضه ليلها كله تتسمع أنفاسه، وتصغي إلى أناته، وتحرص الحرص كله على أن تفهم من رعشات يديه، ونظرات عينيه حاجاته وأغراضه، فإذا نزل ستار الموت بينها وبينه كانت هي من دون أهله جميعا الوارثة الوحيدة التي تعد موته نكبة عظمى لا يهونها عليها، ولا يخفف من لوعتها في نفسها، أنه قد ترك من بعده ميراثا عظيما، وكثيرا ما سمع السامعون في بيت الميت قبل أن يجف تراب قبره أصوات أولاده يتجادلون، ويشتجرون في الساعة التي يجتمع فيها بناته ونساؤه في حجراتهن نائحات باكيات.

وجملة القول: إن الحياة مسرات وأحزان، أما مسراتها فنحن مدينون بها للمرأة؛ لأنها مصدرها وينبوعها الذي تتدفق منه، وأما أحزانها فالمرأة هي التي تتولى تحويلها إلى مسرات أو ترويحها عن نفوس أصحابها على الأقل، فنحن مدينون للمرأة بحياتنا كلها.

وأستطيع أن أقول وأنا على ثقة مما أقول: إن الأطفال الذين استطاعوا في هذا العالم أن يعيشوا سعداء معنيا بهم وبتربيتهم وتخريجهم على أيدي أمهاتهم الأرامل الضعيفات أضعاف الأطفال الذي نالوا هذا الحظ على أيدي آبائهم الأقوياء الأثرياء بعد فقد أمهاتهم، وللرحمة الأموية الفضل العظيم في ذلك.

فليت شعري هل شكرنا للمرأة تلك النعمة التي أسدتها إلينا وجازيناها بها خيرا؟

لا.. لا، لأننا إن منحناها شيئا من عواطف قلوبنا ومشاعر نفوسنا فإننا لا نمنحها أكثر من عواطف الحب والود، ونضن عليها كل الضن بعاطفة الاحترام والإجلال، وهي إلى نهلة واحدة من موارد الإجلال والإعظام أحوج منها إلى شؤبوب متدفق من سماء الحب والغرام.

قد نحنو عليها ونرحمها، ولكنها رحمة السيد بالعبد، لا رحمة الصديق بالصديق، وقد نصفها بالعفة والطهارة، ومعنى ذلك عندنا أنها عفة الخدر والخباء، لا عفة النفس والضمير، وقد نهتم بتعليمها وتخريجها ولكن لا باعتبار أنها إنسان كامل لها الحق في الوصول إلى ذروة الإنسانية التي تريدها، وفي التمتع بجميع صفاتها وخصائصها؛ بل لنعهد إليها بوظيفة المربية أو الخادم أو الممرضة، أو لنتخذ منها ملهاة لأنفسنا، ونديما لسمرنا ومؤنسا لوحشتنا؛ أي أننا ننظر إليها بالعين التي ننظر بها إلى حيوانتنا المنزلية المستأنسة لا نسدي إليها من النعم، ولا نخلع عليها من الحلل، إلا ما ينعكس منظره على مرآة نفوسنا فيملؤها غبطة وسرورا.

إنها لا تريد شيئا من ذلك، إنها لا تريد أن تكون سرية الرجل ولا حظيته، ولا أداة لهوه ولعبه، بل صديقته وشريكة حياته.

إنها تفهم معنى الحياة كما يفهمها الرجل، فيجب أن يكون حظها منها مثل حظه.

إنها لم تخلق من أجل الرجل، بل من أجل نفسها، فيجب أن يحترمها الرجل لذاتها لا لنفسه.

يجب أن ينقص عنها قليلا من ضائقة سجنها لتفهم أن لها كيانا مستقلا، وحياة ذاتية وأنها مسؤولة عن ذنوبها وآثامها أمام نفسها وضميرها، لا أمام الرجل، يجب أن تعيش في جو الحرية المنعشة، وتستروح رائحته المنعشة الأريجة، ليستيقظ ضميرها الذي أخمده السجن والاعتقال من رقدته ويتولى بنفسه محاسبتها على جميع أعمالها، ومراقبة حركاتها وسكناتها، فهو أعظم سلطانا، وأقوى يدا من جميع الوازعين المسيطرين.

يجب أن نحترمها لتتعود احترام نفسها، ومن احترم نفسه فهو أبعد الناس عن الزلات والسقطات.

لا يمكن أن تكون العبودية مصدرا للفضيلة، ولا مدرسة لتربية النفوس على الأخلاق الفاضلة، والصفات الكريمة، إلا إذا صح أن يكون الظلام مصدرا للنور، والموت علة في الحياة، والعدم سلما إلى الوجود.

كما لا أريد أن تتخلع المرأة وتستهتر، وتهيم على وجهها في مجتمعات الرجال وأنديتهم، وتمزق حجاب الصيانة والعفة المسبل عليها، وهو المعنى الذي يفهمه البسطاء عادة من كلمة الحرية عند إضافتها إلى المرأة. كذلك لا أحب أن تكون مستعمرة ذليلة يسلبها مستعمرها كل مادة من مواد حياتها، ويأخذ عليها كل طريق حتى طريق النظر والتفكير.

وبعد؛ فإما أن تكون المرأة مساوية للرجل في عقله وإدراكه أو أقل منه. فإن كانت الأولى فليعاشرها معاشرة الصديق للصديق، والنظير للنظير، وإن كانت الأخرى فليكن شأنه شأن المعلم مع تلميذه والوالد مع ولده، أي أنه يعلمها ويدربها، ويأخذ بيدها حتى يرفعها إلى مستواه الذي هو فيه، أو ما يقرب منه ليستطيع أن يجد منها الصديق الوفي والعشير الكريم.

و المعلم لا يستعبد تلميذه ولا يستذله، والأب لا يحتقر ابنه ولا يزدريه.