الإمارة الإسلامية ترحب بأبنائها العائدين وتخفض لهم جناحيها

صادق رحمتى

 

إن قضية التهجير وترك الأوطان، ليست أمرا جديدا في حياة الإنسان، وليس أمر يوم أو يومين، فهي وقضية الحرب أمران قد يتلبّسان بالحياة الإنسانية، ويعتبران من أهم مراحل حياة الإنسان، وفيهما منافع وخسائر، وإن کانت الخسائر أكثر، وربما لابد منهما في بعض الأحيان، وكثيرا ما تتحمل الشعوب تبعات التهجیر والحرب، رغماً عنهم وخلافاً لآمالهم. ورغم التحولات الايجابية التي سادت الكرة الأرضية من التقدم التقني وغيره؛ إلا أن هذه الأزمة استعصت على الحل، ولا توجد أسس محكمة ومعاییر واضحة تضمن حقوق المهاجرين واللاجئين في المَهاجِر، وكيفية عودتهم إلى أوطانهم، والحقوق الإنسانية الأخرى. فالمهاجرون رغم الإقامة والحصول على بطاقات الهوية في بعض الدول، لا زالوا يعانون من مشكلات عديدة، ويعيشون في قلق دائم، حيث يجهلون مصيرهم وماذا سيحدث لهم حينما تنقضي مدة إقامتهم، فضلا عن اللاجئين غير النظاميين، فالحال بالنسبة لهم لا تدور على محور محدد، وقد أصبحوا لعبة سياسية في أيدي السياسيين، يلعبون بها بين فترة وأخرى، لمنافعهم الحزبية وأهدافهم الشخصية، ونسوا فيهم القيم الإنسانية والإسلامية، وتجاهلوا فيهم حق الحياة والتعليم والصحة وامتلاك حياة كريمة.

ومع الأسف الشديد، فإنّ أفغانستان في العقود الأربعة الأخيرة شهدت تهجير أبنائها لأسباب عديدة، منها تواجد الأجانب في البلاد، من الاتحاد السوفييتي، مرورًا بالحرب الأهلية، حتی التحالف الأمريكي، وتكالبهم على غزوها، وتدميرها، وبالتالي إبعادها عن ركب التطوّر العالمي، وإيقاف عجلة الاقتصاد فيها.

ومنها الجفاف وعدم هطول الأمطار والفيضانات، ذلك أن الحياة في معظم مناطق أفغانستان تدور علی الزراعة والرعي والصناعة الناتجة منها وعلى التجارة. ومنها الفساد الذي كان مستشرياً في أركان الدولة السابقة التي كانت غارقة فيه، والذي أباد العمل والأمل، وأكل الأخضر واليابس، وأمات الطموح والتطلع.

 

هذا وأكثر من هذا قد أفضى إلى هذه المشكلة (تهجير المواطنين الأفغان). وكثرت الإدعاءات والمزاعم لحلها آنذاك من قبل الدولة العميلة، وحتى في دول منطقة والجوار كانت إدعاءات كاذبة خادعة، ولم نجد من منظمة الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدخيلة شيئا يُذكر، بل أخذ الأمر في التزايد والتفاقم، وازداد سوءا، ولم يؤخذ الأمر على محمل الجد، ولم ينظر إليها من مصدرها، وإن نُظر إليها نُظر حسب منافع الدول المستقبِلة. ولم تُحسّن قط أحوال المهاجرين واللاجئين، إلا بقدر أن لا يموتوا جوعا.

والاضطهاد والمضايقة ضد اللاجئين في هذه الدول يعد أمراً طبيعيا، ويتم التعامل معهم على أسوأ حال، وکثیراً ما تعرضوا للإزدراء والاستهزاء في كل فرصة، بدل أن يعاملوا باحترام وكرامة. ومن ذاق مرارة الهجرة وترك الأوطان، وتجرّع كأس الحيرة وخوف الضياع، يفهم قولي، ويدرك مشاعري، ويتذكر تلك المرارات والتضييقات، في الشوارع والأزقة، من قبل الشرطة، رغبة في الحصول على رشوة من مهاجر مسكين كان يعود إلى بيته بكد يمين وعرق جبين. أضف إلى ذلك المحاولات التي كانت الشرطة تمارسها ضد المهاجرين على المعابر الرسمية، والتي كانت مفعمة بالضرب والشتم والطعن، وكلمات ربما لا تطيقها الأسماع. فكل مهاجر أفغاني عائد إلى الوطن كان قد ساوره نوع من الاكتئاب والاغتمام ونوع من التوتر للأعصاب، وكان قد تكدر خاطره وتعكر هاجسه، وهو يمرّ بتلك المشاهد التي حُقّرت فيها نفسه، وانكسر فيها خاطره، وهو رغم أنفه يتحمل كل ذلك لأجل عائلته وأولاده وذويه.

والهجرة إذا لم تكن مع العزة والكرامة، وإذا لم يصاحبها الشعور بالأمن والاستقرار، ولم يتحقق فيها العيش الكريم، فلن تغني هذه الهجرة عنك شيئا. وأكثر ما أجبر المواطنين على الهجرة واللجوء هذه المدة، هو انعدام الأمن المطلوب والاستقرار اللازم في البلاد، وهو اليوم بفضل الله، ثم بفضل جهود رجال الإمارة الإسلامية القائمين بواجباتهم ليل نهار، متحقق في البلاد، وفي ظله يتمكن الإنسان من العيش والعمل مع العزة والكرامة، وإيجاد فرص كبيرة للتجارة، وبالتالي الوصول إلى قمة الابداع والازدهار، الذي هو طموح الدول والرعايا، ومطلوب كل إنسان مسلم حر. ما أحلى العيش تحت ظل الحرية بعيدا عن تدخل الأجانب! وما أجمل النظر إلى سماء الوطن وقد انقشعت عنها سحب الاحتلال!

 

ومَنْ كَانَ أضْحَىٰ بِالدَّنَاءَةِ رَاضِيَاً *** فَـإنِّي عَـنِ الأمْرِ الدَّنِيءِ بِـمَعزِلِ

 

نعم؛ أربعون سنة هو عمر يستبدل فيه النسل فيصير الأب جدا، والإبن أبا. والطبيعة في الإنسان أنه يحن إلى مسقط رأسه، ويتعلق به عشقا، ويحبه حبا شديداً. وقد تعتبر العودة إلى الوطن هجرة أخرى، يصعب معها قطع حبل الحب؛ خاصة لمن وُلِدوا في المَهاجِر ونشأوا فيها خَلقا وخُلقا، واخلتطوا بها لحما ودما. ولكن المعروف أن وطن الغير لن يكون وطناً ومسكناً للمرء، ولن يكون ملجأ آمنا وملاذا طيبا، رغم تنعمه بأنواع النعم، وتمتعه بأفضل مستلزمات الحياة، وامتلاكه للقوت والمعاش. وكثيراً ما تختلط الهجرة بالإهانة والإذلال والاستهزاء والهوان.

يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). والعودة إلى الوطن بالترحيل القَسري في الشتاء البارد، وفي الوقت الذي تعاني فيه البلاد من بعض الأزمات، وإن كان ظاهره العذاب لكن باطنه فيه الرحمة، وقول الله سبحانه في الآية السابقة فيه الترغیب في الصبر والاستقامة، وأنه حكيم قدره لا يخلو من الحكمة، كما بدت لنا حكمته تعالى في الجهاد الذي دام عشرين عاما، حيث حصلنا على حريتنا واستقلالنا، وحافظنا على ديننا وبلدنا. ثم إن هذه الدول نفسها تواجه تحديات مع شعوبها، وليس الوضع فيها على ما يرام، فإذا هي لم تتمكن من الاصلاح بينها وبين شعوبها، فكيف تستطيع تقديم الخدمات الكريمة للمهاجرين واللاجئين إليها. فالواجب علينا أن نتفاءل وأن نترقب الخير والسعادة.

وفيما يتعلق بهذه القضية، فالإمارة الإسلامية مع بداية حكمها الجديد، تعتبر نفسها مسؤولة تجاه هذه القضية، وليست بالنسبة إليها أمراً مفاجئاً وغير متوقع، وقد اجتمع مسؤولوها على رأي واحد، فتكاتفوا جميعاً، واستجمعوا قواهم للتعامل مع هذه القضية، ومازالت مساعيهم جارية لتسهيل الأمور، وتوفير الظروف، وإزالة العوائق، وتذليل العقبات، لتوفير حياة كريمة تليق بأبنائهم العائدين إلى الوطن. فظلوا يستقبلونهم بحفاوة وسرور، ويتطلعون إلى حل المشكلة في أسرع وقت ممكن، مطالبين أبناءهم بالصبر والاستقامة والوثوق بهم وأن يطمئنوا إليهم، إذ أن التحديات الموروثة لازالت موجودة في الساحة، وتجاوزها يستغرق زمنا، والتغلب عليها يتطلب جهودا متواصلة، مع التعاون والتعاطف والتعاضد وفتح آفاق جديدة.

كان قرار باكستان الأخير، جعل الأفغان اللاجئين  يعيشون بين برزخ الترحيل والشتاء القارس، وكان المتبقون منهم، يعيشون في حالة قلق دائم، واضطراب مستمر. وكان المتوقع أن يكون هذا الأمر بالتدريج، وبالتواصل بمع الإمارة الإسلامية، والتعامل والتفاعل مع المسؤولين الأفغانيين، والتنسيق مع المسؤولين أولو الصلة بالأمر، لتسهيل الظروف لعودتهم طوعا، ووفقا لما تقتضيه الأخوة والاستضافة والإنسانية.

كان واضحا أن قضية الترحيل القسري الأخير لإخواننا المهاجرين، في باكستان وإيران، تأتي في إطار الضغوط على الإمارة الإسلامية، وعلى استقلال أفغانستان، وأنهما استخدمتاها كأداة ضغط على الشعب الأفغاني، وإخفاء إخفاقهما في مواجهة التحديات التي تعانيان منها حالياً، وإحباطهما في الوقوف أمام الهجمات التي تستهدفهما في الآونة الأخيرة. والعالم كله يعلم أن المهاجرين المساكين لم يكونوا يوماً متورطين في هذه الهجمات، وليس لهم موطئ قدم فيها، وأنها وليدة سياساتهما الفاشلة، وإجراءاتهما الخاطئة.

هناك سؤال يأتي في الأذهان؛ لماذا كلما واجهت هذه الدول تحدياً داخلياً أو أزمة داخلية، ولم توفق لحلها، ولم تتوصل إلى نتيجة مُرضية، أخذت تلقي بالمسؤولية على أفغانسان وشعبها؟ وكأن أفغانستان هي المسؤولة عن مشكلاتهم، بذريعة تواجد أبنائها اللاجئين والمهاجرين! الأمر الذي لابد من حله حسب القوانين الدولية، وأن لا يبقى ذلك ذريعة لمضايقة اللاجئين، وإلقاء التهم عليهم. إنّ هذا إن دل على شيء فإنما يدل علي العجز والضعف والفشل، لأن الدول القوية تبحث عن أسباب الفشل، وتبادر لحلها على أرض الواقع، بدل أن تلقي باللوم على أضعف الناس الواقعين تحت حكمها، والذين لجؤوا إلى أراضيها لكسب لقمة العيش، والحصول على ملجأ لعائلاتهم.

ثم إن الدول التي تستقبل المهاجرين في أراضيها، وتقدم لهم الخدمات (حسب ادعاءات مسؤوليها)؛ فهذا لا يعني أنها لا تواجه سوى الأضرار والخسائر منهم، ولا تنتفع من وراء ذلك. إن المهاجرين يمثلون الأيدي العاملة في الكثير من الدول بأقل التكاليف، ویُستعملون فی مهن ربما لا يرغب فيها أبناء تلك الدول للصعوبة أو للحقارة أو لسبب غير ذلك. وحسب اعتراف شعوبها ورجال حکمها، فللمهاجرين الأفغان يد قوية في إعمار تلك البلاد، وباع طويل في زيادة الموارد؛ فالمهاجرون لم يحمّلوا هذه الدول شيئا، بل على العكس تماماً، فهم كانوا ومازالوا أكبر عون لها اقتصاديا واجتماعيا، بجهودهم وكفاءاتهم دون أي تعاطف ودعم محسوس من قبل هذه الدول. أضف إلى ذلك مساعدات المنظمات الدولية، التي لن تصل إلى المهاجرين، وتصب مباشرة في خزانة هذه الدول، ولا تنس أنها لن تجهل أبداً سهمها في الخسائر التي تتحملها بذريعة تواجد المهاجرين فيها.

ومما لاريب فيه أن کثيرا من المهاجرين ذووا كفاءة في كثير من الأمور التي لا غنى لدولة ما عنها، وهو أمر غني عن البحث والجدل. والإمارة الإسلامية لن تغمض عينها عن هذا الأمر أبدا، بل هي أشد احتياجا لهم من أي دولة أخرى في العالم. حيث تفتقر أفغانستان اليوم، في إعادة الإعمار وتجديد بناها التحتية، إلى رجال متخصصين، وعناصر ذوي حرف متنوعة. ويمكن للإمارة الإسلامية أن تحصل على هولاء من بين ملايين الأفغان العائدين من إيران وباكستان وغيرهما إلى الوطن، فتنتفع بمواهبهم وكفاءاتهم في إعادة الإعمار وتحقيق الازدهار والتعاظم.

وكما قيل «أن العدو قد يكون سبب خير إن شاء الله»، فقد ثبت بالمحاولات الأخيرة، لا سيما اتخاذ قرار باكستان الأخير، أن الاتهام الذي كان یوجهه الأعداء بين فترة وأخرى إلى الإمارة الإسلامية بأنها عميلة لهذا البلد وذلك البلد، ويتهمونها بأنها تأخذ الأوامر من هذه الدولة وتلك الدولة؛ كان اتهاما مزعوما، وبهتانا بائنا، وأثبت براءة الإمارة الإسلامية من ادعاءاتهم على مسمع ومرأى من العالم، وأثبت أنها مستقلة في حكمها واتخاذ قراراتها، وأنها لن تخضع أبداً أمام أي محاولة تستهدف كيانها واستقلالها ورؤيتها.

كلنا نعلم أن قضية الهجرة واللجوء لن تنتهي أبداً، وستبقى مادام الليل والنهار، ولكنها بإذن الله ثم بجهود الإمارة الإسلامية المتواصلة، ستنتهي في مدة غير طويلة في أفغانستان، بعودة جميع أبناء الوطن وإسهامهم في إعمار بلادهم وازدهارها. والمؤشرات تشير إلى أن المستقبل في مختلف الصعد، سيكون لأفغانستان ولكل بلد سار مسارها. وكما كان لها صدى في الجهاد والفداء ومراغمة الأجانب، سيكون لها أصداء في الاقتصاد والازدهار بإذن الله، وفي التغلب على المشاكل والمرارات والصعوبات، وفي حل المعضلات والمشكلات. وستنتهي هذه المشكلة بإذن الله.

ولتعلم دول الجوار بأن الزمن لا يدور على محور واحد. أفغانستان لن تهمل أبداً أبناءها في هذا الشتاء القارص والبرودة القاتلة، وليس من شأنها الإهمال والنسيان، وأبناءها الحقيقيون قاموا بإقبال وتركيز وبمبادرة صادقة على حل المشكلة. سنرى أياما مميزة وغير متشابهة في أفغانستان، وسترون اختلافا في سمائها كما الشمس والقمر.

لقد آن الأوان أن يشعر الأفغاني، بعدما قاسى مرارة العيش في البلاد الغريبة، أن الوطن هو بيته الواسع الذي لا يتحرّج أن يصرخ فيه حرا، ويتجول فيه دون مضايقة واضطهاد، ويتحرك حركته الطبيعية، ويعيش فيه عيشا مريئا، لا يكون فيه عليه أي ضغط ممن حمل العِصيّ من الضباط والشرط، ولا من كان يترصد له في الشارع والزقاق لينهب عصارة كد يمينه وعرق حبيبنه، لأن واجب البيت الواسع أن يكون فيه الأخوة والاحترام والكرامة. الهجرة في نفسها ليست ذُلا ولا عارا، ولكن إذا آخاها الرضوخ والامتهان فحينئذ هي الذل والعار.

وبالجملة، عادت الإمارة الإسلامية لتضع نقطة الانتهاء لهذه المشكلة، وجميع المشكلات التي تعانيها البلاد، وسوف تتغلب على هذه المشكلة، وتتجاوز هذا التحدي كما تغلبت قبل ذلك على ما هو أشد منه، وتخرج بإذن الله من هذه المحنة شامخة عزيزة.