تحرير الأراضي وذكرى الشهداء

غلام الله الهلمندي

 

أخيرًا أثمرت التضحيات وأثمر الجهد وأثمر التعب، تحررت مديرية “غُرغُري” ومديرية “تشخانسور” وكلاهما تقعان بإقليم “نيمروز”، الواقعة جنوب غربي البلاد على الحدود مع إيران. نعم، تحرّرت غرغري وتشخانسور، ولكن بعد أن قدّم شبابنا أرواحهم وجماجهم وأشلاءهم في سبيل تحريرهما، بعد أن تحمّلوا فراق الأهل والأولاد، تحمّلوا فراق الآباء والأمهات، تحمّلوا فراق الديار والجيران. نعم، تحررت غرغري وتشخانسور، ولكن بعد أن فقدنا لأجلهما أبطالنا الذين رفعوا منار الحرية وكتبوا تاريخ الصمود والنصر، ومحوا عنّا أوضار الهزيمة، فقدنا أفلاذ أكبادنا، ومَن هم قرةُ عيوننا، فقدنا لأجلهما خيرة شبابنا، وصفوة أبطالنا، وأطيب إخوتنا. الله يرحمهم.

في وسط الفرح، فرح الانتصار، راودتْنا ذكراهم، وكادت تطغى على الفرح وتسلبنا طعم الانتصار وحلاوته، وكم أودّ لو أن شهداءنا كانوا أحياء عندما دخلنا الأرض فاتحين، عندما دخلنا أرضاً لطالما حلموا بتحريرها، وسهروا وتعبوا وتعرّقوا وخاضوا المعامع الحمر من أجل تحريرها، وأخيرًا ضحوا بدمائهم وأشلائهم في سبيلها، كم أودّ لو أنهم كانوا معنا حتى نحصد معًا ثمار تضحياتهم، ولكن المقادير تجري كما يشاء الله تعالى، دون أن يكون للبشر خيار.

 

عندما تحررت غرغري لم أكن بين الفاتحين للأسف الشديد، ولكن بمجرد أن سمعتُ وقرأت نبأ تحريرهما انفتحت خزانة ذكرياتي، انهالت علي ذكريات السنين الماضية، ذكريات الشهداء الذين فارقوا الحياة لأجل تحريرهما، الذين رحلوا عن الدنيا، ذهبوا للقاء ربهم ولكن آثارهم باقية، لا زالت أصوات تكبيراتهم ترنّ في مناكب صحراء نيمروز القاحلة. ذكرت الشهيد “أيوبي” رحمه الله، تذكرت تضحياته في سبيل الله، ذلك الشاب البسّام الذي استقبلَنا، ورحّب بنا ترحيبًا حاراً، وأكرمنا إكرامًا لا مزيد عليه عندما دخلنا إلى خاشرود لأول مرة سنة (1433هـ) وقد سبق أن حدّثتكم عن ذكريات تلك الرحلة المليئة بالأحداث.

تذكّرت الشهيد “قدوري” الشاب النشيط القوي المتحمّس الخلوق المبتسم، كان يفيض فتوة وشبابًا، كان (رحمه الله) صاحب نكتة، خفيف الروح، والبسمة لا تكاد تفارق سنّه، كان يستخرج الضحكات من الأعماق، ويرسم البسمات على الشفاه، كان يلقي النكتة تلو النكتة في جلسة واحدة، ونحن نمسح دموعنا من كثرة الضحك وهو لا يكف عن الإضحاك، ولا يدَعنا نستريح قليلا.

کنت أعرفه قبل أن نلتقي في أرض الجهاد، كان يدرس في مدرسة صغيرة في قرية نائية، حفظ القرآن فيها، ولكن الدراسة في الحقيقة لم تكن ضالّتَه، وإنما كان يعشق الجهاد في سبيل الله، لأجل ذلك ترك الدراسة، لم يتخرج، بل تفرغ للجهاد، وألقی عصا الترحال في خاشرود، ورحلتُه إلى خاشرود كانت لحظة فاصلة في حیاته، فاق أقرانه بسرعة، برع جیدًا في استعمال الأسلحة الثقیلة وتدبیر الأمور الجهادیة، كان قد وجد في أرض الجهاد ضالّتَه المنشودة، كما وجد فیها اتساقا مع آماله وأحلامه وطموحاته في الحیاة، وأدرك جیدا أنه خُلق أساسًا لهذا العمل الأثیر لدیه والمحبَّب إلیه، وأدرك أن مواهبه الممتازة الغالیة من الاصطبار والتحمل ومکارم الأخلاق والذکاء والنبوغ والهمة العالیة وعدم التعب، أدرك أن كل ذلك أودع فیه أساسا حتی یستغلّها في هذا العمل بالذات، فقد أحسن استغلال المواهب التي أودعت فیه للجهاد في سبیل إعلاء کلمة الله.

ذكرت الشهيد “خُوشبو” الشاب البشوش الذي كان قد تعلّم إعطاء الحقن للمرضى في المعسكر، وكنت أنا مع الأسف بين زبائنه دومًا، كان يعطي الحقن عن طريق الوريد، ولكن بشكل مؤلم جدًا، يجعلك تشعر أثناء إدخال إبرة الحقن بألم كبير، تشعر كأنه يدخل في جسمك سكينا أو كأنه يذبحك ذبحا!

لا أنسى تلك الليلة التي ذهبنا فيها لأول مرة نقترب من نقطة أمنية للعملاء بالقرب من مديرية غرغري تمهيدًا لشنّ هجوم عليها، وتعرّضنا للقصف، قصفَنا الأعداء بوابل من قذائف الهاون، سقطت قذيفة على بعد أمتار منا، فاهتزت الأرض تحت أ قدامنا، واهتزت قلوبنا في صدورنا أيضا!، دخل الرعب كل قلب، ولكني رأيت الرعب يجري في قسمات وجه أحد الشهداء رغم ظلام الليل، ولكن لا أسميه، فإنه كان بطلًا مغوارًا، ولكنها طبيعة البشر ربما يدخلهم الرعب فجأة من حیث لا يشعرون. رحمهم الله غابوا عنا ولكن تركوا فينا آثارًا طيبة، بقيت أعمالهم خالدة، لازلنا نلمس آثارهم كأنهم أحياء بيننا يرزقون، وهذه الانتصارات الأخيرة التي أبهرت العالَم دون شك من أعظم آثارهم.

عندما سقطت مديرية تشخانسور بأيدي المجاهدين تذكّرت رحلتي إليها، الرحلة التي بقيت محفورة في ذاكرتي، قمت بها في يونيو (2015). والعجيب أنني قمت بهذه الرحلة دون أن أريدها.

دعوني أحدثكم عن بداية السفر أو وسطه، ضللنا (أنا وأخ آخر) ذات مرة الطريقَ في طريقنا إلى خاشرود، ركبنا سيارة مستعجلين من قرية صغيرة تسمى “خلمُك” في ضواحي نهر هلمند، تسلَّقنا السيارة ولم نسأل السائق عن وجهته بالضبط، كنا نظن أنها تذهب إلى حيث نريد أن نذهب، بل وثقنا بالسائق الذي أتينا معه من “برافشا” إلى “خلمُك”، حيث قال لنا هذه السيارة متجهة حيث تذهبون أنتم، لا أدري بالضبط خدعَنا الرجل أم لم يكن يدري هو أيضًا.

على أية حال، خضنا الصحراء الحارقة وهي مليئة بالمخاطر والعقبات، الصحراء التي وطئتها أقدام الغزاة منذ القدم، ولكنها وقفت جدارًا فولاذيا أمام كل الجهود لاحتلالها، لم يفلح الإنجليز في البقاء فيها، ولم يفلح الاحتلال السوفياتي في البقاء فيها، ورجع بعد عشرة سنين خائبا يجر ذيل الهزيمة. فهمنا وسط الطريق أن السيارة لا تذهب إلى خاشرود، بل تذهب إلى تشخانسور، وهي كانت قابعة تحت سيطرة العملاء آنذاك، عرفنا ذلك حين لم تنفعنا المعرفة بعد وصولنا إليها، بعدما أرخى الليل ستاره وزاد من خوفنا.

ذهب بنا السائق إلى بيته وأكرمنا وبالغ في إكرامنا، وهو لا يعرفنا ونحن لا نعرفه، ولكنه كان يعرف جيدًا أننا مجاهدون ونذهب إلى خاشرود للمشاركة في العمليات ضد العملاء، مع ذلك لم يتخلَّ عنا، ولم يتركنا وحدنا، كان يعرف جيدًا مدى الغرامة التي يتحملها بإيوائنا وإكرامنا في بيته، ولا يخفى على أحد كرم الأفغان رغم بساطة موائدهم. قضينا ليلة معه، أعني مع السائق المجهول، ولكنه ذهب بنا للنوم في قلعة قديمة لنبيت الليل فيها، جزاه الله عنا خير الجزاء، كان الرجل يخاف إلقاء القبض علينا، وكذلك على نفسه، لو اطلع الجواسيس علينا لا سمح الله، ولكن الله سلّم.

 

ومن الغد كان المجاهدون في خاشرود قد اطلعوا بأننا ضللنا الطريق وأننا حاليًا في تشخانسور. وكانوا قد طلبوا من شاب اسمه “حفيظ الله” أن يبحث عنا ويذهب بنا إلى بيته، كان حفيظ الله طالب علم شرعي، وكان يذهب للجهاد خلال الإجازات السنوية إلى إقليم “فراه” هربًا من الجواسيس، كان يقضي عُطَله السنوية في فراه مجاهدًا في سبيل الله. مكثنا في بيته يومين، وكان حفيظ الله كان شابًا خلوقًا، لكنني لم ألتق به بعد ذلك اليوم. وبعد ثلاث ليال قضيناها في تشخانسور، ذهبنا إلى مديرية غرغري ثم إلى خاشرود، والله يعلم كم خشينا عندما كنا نمرّ بنقاط التفتيش التابعة للعدو، كانت مجازفة خطيرة قمنا بها، ولم يكن لنا منها بدّ، ولكن الله سلّم، وصلنا سالمين، والله يعلم كم فرحنا عندما وصلنا سالمين، وأما الآن فلا داعي للخوف، لا نخاف في غرغري ولا في تشخانسور، ولا يخاف فيهما غير العدو الجبان.