حدود “ديوراند”.. ونبش الماضي

‏د ـ أحمد موفق زيدان

 

قرار صائب وفي محله، ذاك الذي أصدره وزير الدفاع الأفغاني محمد يعقوب نجل مؤسس الإمارة الإسلامية الراحل الملا محمد عمر رحمه الله، بمنع تصوير أي مقاطع فيديو، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل القوات الأفغانية المرابطة على الحدود الأفغانية-الباكستانية.

‏أتى القرار بعد نشر بعض الجنود المرابطين على حدود البلدين لمقاطع وهم يقومون بإزالة سياج الحدود التي كانت قد نفّذته باكستان سابقًا، كتعبير من قبل المقاتلين عن رفضهم للحدود المُسيّجة، وغير المعترف بها من قبلهم. فما قصة الحدود؟ وما قصة التسييج؟ وما دلالات وانعكاسات ذلك على العلاقة بين الطرفين راهنًا ومستقبلاً؟!

‏الحدود الأفغانية ـ الباكستانية هي نتاج إرث الاستعمار البريطاني الذي جثم على منطقة شبه القارة الهندية لحوالي 150 عامًا تقريبًا، وكعادة البريطانيين كما هو حال غيرهم من المحتلين، يحرصون على ترك بعض القنابل الموقوتة، بعد رحيلهم، ليستطيعوا التلاعب بصواعقها، لتفجيرها في أوقات تلائم مصالحهم، ومن ضمن القنابل الموقوتة كانت الحدود بين المستعمرات البريطانية في شبه القارة الهندية، وفترة حكم الأمير الحديدي الأفغاني عبد الرحمن خان 1880-1901، قد استقرّت بتوقيعه يومها، مع وزير خارجية بريطانيا لشبه القارة السير هنري مورتيمر دوراند، فترسمت الحدود بين أفغانستان، وشبه القارة الهندية على وضعها الحالي، ولكن مع رحيل البريطانيين من المنطقة، يرى الأفغان أن المناطق البشتونية التي سُلبت منهم، وضمت يومها لشبه القارة الهندية، لاسيما وأن عمر الاتفاقية الموقعة هو مائة عام، ومع انتهاء القرن تكون الاتفاقية قد انتهت صلاحيتها، وبالتالي أن تعود إلى أصلها وهو إلحاق المناطق البشتونية الباكستانية بأفغانستان، بينما ترى باكستان أن الإرث البريطاني من حقها، وبالتالي يظل الأمر على ما كان عليه.

‏ويتجدد هذا الجدل بين الفينة والأخرى، إلى أن فجره أخيرًا إزالة بعض مقاتلي الإمارة الإسلامية في منطقة ننجرهار الأفغانية المحاذية لباكستان لسياج أقامته الحكومة الباكستانية خلال الحرب الأمريكية ـ الطالبانية، حين سيّجت 90% من الحدود الممتدة على طول 2600 كم من حدود مشتركة بين البلدين، لمنع تسلل المسلحين كما كانت تُتهم بتسهيل حركتهم من قبل القوات الأمريكية، وكذلك منعًا للتهريب، ولكن مع هذا استطاعت إسلام آباد تحت هذه الذريعة تثبيت واقع على الأرض متمثل بفرض الحدود الحالية.

‏كان لافتًا تصريحات أدلى بها الناطق باسم وزارة الدفاع الأفغانية عنايت الله خوارزمي والذي وصف التسييج بأنه تمزيق للعائلات الأفغانية، لكن مندوب الإمارة الإسلامية المعين في الأمم المتحدة سهيل شاهين وصف ما حصل بأنه محلي ولا ينبغي أن يؤثرعلى توجهات الحكومة الأفغانية، وعلاقاتها مع باكستان.

‏بكل تأكيد فإن التسييج ساعد في ضبط حركة التهريب بين أفغانستان وباكستان، فعزّز المعابر الشرعية والقانونية، وضبط حركة التجارة بين البلدين مما ساعد، وساهم في تعزيز اقتصاد البلدين بعيدًا عن الاقتصاد السري، والخفي المضر بالبلدين، وبالتأكيد فقد ساعد اليوم وسيساعد في المستقبل أكثر في ضبط حركة المسلحين وتحديداً ” الإرهابيين” من جماعات تنظيم داعش الذين يجدون في فوضوية الحدود منفذًا للتحرك وتنفيذ عملياتهم الخطيرة التي تستهدف حكومة الإمارة الإسلامية.

‏باكستان من طرفها دعت إلى ضبط النفس، ووجهت قواتها إلى ذلك، وهي تدرك تمامًا أن ثمة قوى إقليمية ودولية كثيرة متربصة، وتنتظر شرارة حرب أو قتال بينها وبين الإمارة الإسلامية، خصوصًا وأن قوى علمانية ويسارية ومتغربة في داخلها تدعو إلى الابتعاد عن حكومة الإمارة، وتناشدها بالتوقف عن اعتبارهم حلفاء لها، كون ذلك سيقوّي الصف الإسلامي المستقوي اليوم بوصول الإمارة الإسلامية إلى السلطة في كابل، لاسيما وأن الجيوسياسية الأفغانية تنعكس بشكل كبير على من يحكم إسلام آباد، وتنعكس بالمفهوم الواسع على الأمن القومي الباكستاني في مواجهة الهند، التي ترى الطبقة العلمانية والمتغربة نفسها قريبة من نيودلهي.

‏بكل تأكيد فإن نبش الماضي اليوم لن يفيد أحدًا، وربما لو كانت الأراضي القبلية الباكستانية جزءًا من أفغانستان أيام الاحتلال الأمريكي والسوفياتي، لما كان الجهاد والمجاهدين في الوضع الذي وصلوا إليها، فوجود مناطق غير خاضعة للقانون الباكستاني بشكل صارم، ساعد وبكل تأكيد في انطلاق الجهاد ضد المحتلين السوفييت، ومن بعدهم الأمريكيين، في تقويته وتعزيزه وانتصاره، ولذلك يقال إن هذه المنطقة هي الوحيدة في العالم التي لا تخضع لقانون يحكمها، ومع هذا فهناك حرية تحرك للعائلات المنتشرة على الحدود، بين أفغانستان وباكستان، وبعض العائلات تحمل الجنسيتين، ولذلك رأينا سهولة تحرك المقاتلين الطالبانيين طوال فترة الجهاد ضد السوفيتي والأمريكيين .

‏أفغانستان كدولة وليدة اليوم، لاشك فإنها تعاني من مشاكل داخلية، ومحاصرة اقتصادية خارجية، بالإضافة إلى أزمة الاعتراف الدولي، مشفوعًا بتربص أعداء كثر بها وبعلاقاتها مع حليفتها شبه الوحيدة باكستان، فليس من مصلحتها نكأ جروح جديدة، وفتح جبهات جديدة عليها، وبالمقابل فإن باكستان عليها أن ترتقي إلى مستوى الحدث، وتدرك حساسيات الأفغان تجاه إخوانهم الموجودين على الطرف الآخر من الحدود الباكستان، وتدرك معه أنه لولا صمود رجال الإمارة ضد القوات الأمريكية الغازية لما حصلت باكستان على جائزة ضخمة كما حصلت عليها اليوم بإبعاد النفوذ الهندي عن خاصرتها الأخرى، وكل ذلك بفضل تضحيات وصبر وجلد الأفغان على الرغم من تآمر حكامها في السابق أيام عُسرتها.

‏ولذا لا بد أن تضع باكستان ذلك كله في الحسبان، وهو أن مرارات الماضي القريب، والجراحات التي أعملها الحكم العسكري السابق بتحالفه مع أمريكا وتسليمه لقيادات طالبان وملاحقة آخرين، لا يمكن أن ينساها الأفغان بسهولة، وعليه لا بد من التعامل معها بذكاء وحصافة، فهي الكفيلة على معالجة جراحات الماضي، وعدم رش الملح فوق الجراح.