حكاية أليمة، يرويها أبو الشهيد الحافظ إسماعيل

إقبال أوباش

 

يروي لي والد الشهيد الحافظ إسماعيل قصته قائلاً: كنتُ في الهند، فلي شغل بسيط هنالك، وكانت أمي تصرّ على أنْ أرجع إلى أفغانستان للمشاركة في حفل تخرّج ابني، فتركتُ جميع مشاغلي لأجل أمي، ووصلتُ ليلة الحفلة إلى بيتي، وكانت الساعة الثامنة والنصف ليلاً، ففرحتْ أمي فرحاً لا يوصف، فسألتُ عن ابني فقالوا لي: إنّ أساتذته طلبوه قبل يومٍ؛ لأنّ المدرسة كانت تبعد عن منزلنا نحو 3 ساعات ونصف تقريباً، فأرسلناه مع عمّه كي يبيت معه في المدرسة، وقالوا لي اذهب أنت غداً مع بقية أهل القرية لتشارك في هذه الحفلة الكريمة، وقالت أمي لـ “ثمينة” (ابنتي): اذهبي وأحضري باقات الزهور لأبيك، فسارعت نحو الزهور وأتت بنحو 10 باقات للزهور، فقلتُ لأمي: ماذا تفعلين بهذه الزهور الكثيرة؟ قالت: خذ أنت باقتين وسنأخذ نحن بقية الباقات، وعندما تعودوا من الحفلة سنقلدها في عنق حبيبنا. فقلتُ لأمي: اختاري أنتِ لي، فاختارت باقة للزهور، وباقة أخرى خالية من النّقود.

فسألتْ أمي: هل جئت بحذاء له؟ قلتُ: أجل، فقالت:عليك أن تستعجل غداّ لتصل إليه لتقدّم حذاءه إليه؛ لأنّ حذاءه كان بالياً.

فكنتُ تعباناً، إلاّ أنني لم أقدر أنْ أنام من شدّة الفرح والحبور.

وعندما رُفع أذانُ الفجر، جاء أهالي القرية بسياراتهم أمام بيتي، وقالوا: علينا أن نتحرك ونصلي الفجر في الطريق كي لا يتأخر الوقت، وأعطتني أمي قارورة عطر صغيرة، وقالت: هذه لابني، لقد نسيها.

آهٍ كم كانت أمي فرحانة!

فتحرّكنا، وصلّينا الفجر بعدما مشينا نحو ساعة، ثم استمررنا في طريقنا، وبعد قطع مسافة قصيرة وصلنا إلي بيت أحد أخوالي، فتوقفنا للفطور في منزله. وبعدما تناولنا الفطور، رافقنا صهري وخال ابني للمشاركة في هذا الحفل الكريم، وبعدما مشينا نحو نصف ساعة تعطّلت سيارتنا، مع أننا لم نكن نعرف عن تصليح السيارات شيئاً إلا أننا لم ندّخر جهداً لإصلاحها، لكن أن السيارة لم تصلح، فربطنا السيارة بحبل لسحبها مع سيارة أخرى، ورجعنا إلى بيت خالي، ووجدنا هنالك ميكانيكاً لإصلاح السيارات، فبدأ بعمله، وهنا بدأ ابني بالاتصال بي عبر الهاتف، يا أبتِ متى تصل؟ ماذا صار؟ لماذ تأخرتم؟ وكان أخي يصرّ ولكن كانت مشيئة الله شيء آخر، وفي الساعة 11 صلُحت السيارة للسفر، وقال لي أهل القرية مرات عدّة اذهب بسيارة أخرى، نحن سنأتي على إثرك، فقلتُ لا يمكن، هم بالغوا في إكرامي فلا يمكن بأن أتركهم، فاتّصل ابني بي وقال يا أبتِ: لقد نلتُ المركز الثالث ودرجتي 91، فقلتُ هنيئاً لك يا بُنيّ، وههنا انقطع جواله عن الاتصال، وكان هذا وقتٌ بداية القصف.

(بكى أبو الشهيد الصغير وشهق حزيناً قائلاً): كنّا نحن في الطريق، ووصلنا بعد 45 دقيقة من الاتصال الأخير إلى المدرسة، وكان النّاس قلقلون ويركضون في كل جهة، وكان الشيوخ والشباب والأطفال يتأوهون ويئنّون، والعجائز واقفاتٌ أمام أبواب بيوتهنّ يبكين وينظرن إلى السماء، فقلتُ للسائق: ما هذا؟ لعلنا قد ضللنا الطريق، فقال لي: اصبر، سأسأل، فسألنا شاب: هل هذا طريق المدرسة الهاشمية؟

فقال الشاب: أو لم تعلموا بأنهم قصفوا المدرسة الهاشمية، ولم يقدر على الكلام أكثر. ولا أدري كيف وصلنا إلى المدرسة، آهٍ يا أوباش! كانت هناك قيامة.

رأيتُ أوراق المصحف متلطّخة بالدماء، والعمائم محمّرة بالدماء، والقلنسوات مبعثرة وساقطة هنا وهناك، وكان النّاس ينقلون الجرحى والشهداء، يجرون هنا وهناك، وكنت كلما واجهتُ أحداً سألته، وكلما رأيت شهيداً صغيراً أنظر إليه كي لا يكون ابني، وكان جوال أخي مغلقاً، مرّة أنظر إلى الجوال ومرّة أرفع الرداء عن وجه الشهداء، وأما في صحن الحفل رأيتُ بعض الشهداء الصغار وهم غارقون في الدماء، فعرفتُ ابني بأعضائه، ولم تسقط الزهور من رقبته، إلا أنّ ابني لم يكن له رأسٌ، فما تمالكتُ نفسي بأن صرختُ، آه يا أماه! إنّ أزهارك ستبقى في يديك، استشهد حفيدك ولن تستطيعي أن تقليده الأزهار في عنقه.

ثم بحثتُ عن أخي، إلا أنني لم أجده. ثم أخبرتنا إدارة تحقيق المدرسة بأنّه مغمى عليه وفي المستشفى، فذهب بعضنا لزيارته، وتحركنا نحن بالسيارة نحمل جنازة ابني متجهين نحو البيت، وفي العصر طلبتُ بعض الشيوخ أن يصبّروا أمي، قلتُ لها: ضعي باقات الزهور على تابوت حفيدك، واتركينا والتابوت، وكانت أمي واقفة طول اليوم، وكانت تصعد السقف مرّة ومرة أخرى تنتظر أمام البيت، وبكتْ حتى أبكت الشيوخ والآخرين، فكنتُ أعزيها وأصبّرها، وقلتُ لها: لو لم تتعطل سيارتنا لاستشهدنا نحن أيضا، وهذا الشهيد قد أعطانا حياة جديدة، وسيشفع لنا أمام الله إن شاء الله.

ويضيف والد الشهيد الحافظ: لن أنسى هذا الحزن الشديد، لقد رأيتُ ابني بعد عامين من الغربة وهو غارق بدمائه وبلا رأس. وحاولتُ بأن أقبّل وجه ابني أو رأسه إلا أنني لم استطع، فاضطررتُ أنْ أقبّل يديه المنكسرتين، هذا في حين كان هو يقبّل يدي أثناء خروجه من المنزل.

أرجو من هذه العمائم البيضاء بأن تنتقم لفلذاتنا.

 

كانت هذه قصة محمد أبو الشهيد الحافظ إسماعيل. وبعد نقلها لكم، أترككم أنتم والدموع والدعوات الصالحة.