شهر الفتوحات والأمجاد

سميع الله

 

إنّ الله سبحانه وتعالى لم يذكر في كتابه اسم شهر إلا الرمضان، لأنّه الموسم الديني المتجدد، ومهرجان إسلامي عظيم، ومن أجل ذلك عرف المسلمون في سالف الأزمان قدره حق قدره، فهو شهر الجهاد والرباط، كما كان شهر القرآن والقيام، ففيه حصلت غزوات ومعارك تغيرت معه حال المسلمين.

يقول أحد المفكرين: إن من أهم أسباب التراجع الذي أصاب الأمة الإسلامية كثرةَ المفاهيم المغلوطة التي اجتاحت عقول الكثيرين وأفهامهم، وتزداد الخطورة إذا علمنا ورأينا أن تلكم المفاهيم الخاطئة تحولت في أعماق الوعي الجمعي الإسلامي إلى مسلمات أو ما يشبه المسلمات في حياتنا الفكرية والثقافية، وتزداد الأزمة تفاقمًا عندما يخيم علينا شبح الاستسلام لتلكم المفاهيم القاتلة التي تساعد على سريان روح الكسل والخمول، والخنوع والخضوع، واليأس والفشل، وتكون معول هدم لأركان أمة شاء الله لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس.

إن من هذه المفاهيم المقلوبة اعتقاد أن رمضان شهر للراحة والكسل، والخمول والنوم الطويل، شهر تتوقف فيه كل المهمات، وتتعطل فيه كل الأعمال، وتتأخر فيه كل الواجبات، وتؤجل فيه كل المشاريع، شهر يرتبط في الأذهان بالتعب وانعدام القدرة والتسويف، هكذا صارت علاقتنا برمضان وفكرتنا عن رمضان.

وكل هذه المفاهيم بعيدة كل البعد عن حضارتنا وإنجازات أسلافنا، غريبة على قيمنا، متباينة عن مبادئ ديننا، فلو قلَّبنا صفحات تاريخنا، وفتشنا في زوايا حضارتنا لوجدنا أن أعظم الإنجازات وأفضل الانتصارات وأهم الفتوحات وأسمى البطولات تحققت في هذا الشهر الكريم، مما يدلنا على أنه ليس شهرًا للقعود، وإنما هو شهر الهمة العالية والروح الوثابة والقوة الضافية والنشاط الزائد والطموح الذي يتجاوز كل الحدود.

 

ولو ذهبنا نستقصي كل الفتوحات التي حدثت في هذا الشهر الكريم لطال بنا المقام، ولكننا سنذكر أبرز هذه الفتوحات العظيمة، وما يمكن أن يؤخذ منها من الدروس والعبر، فكان منها: غزوة بدر الكبرى (17 من رمضان سنة 2هـ)، أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، فتح مكة المكرمة (20 من رمضان سنة 8هـ)، وهو يوم الفرقان، معركة البويب بين المسلمين والفرس على ضفاف نهر الفرات بالعراق (12 من رمضان سنة 13هـ)، الفتح الإسلامي لبلاد النوبة (السودان) (رمضان سنة 31هـ)، فتح جزيرة رودس في عهد معاوية بن أبي سفيان بقيادة جنادة بن أبي أمية (رمضان سنة 53هـ).

الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس (28 من رمضان سنة 92هـ)، فتوحات المسلمين في جنوب فرنسا (رمضان سنة 102هـ)، معركة بلاط الشهداء (9 من رمضان سنة 114هـ)، فتح عمورية بقيادة الخليفة العباسي المعتصم بالله (17 من رمضان سنة 223هـ)، فتح سرقوسة من جزيرة صقلية (14 من رمضان سنة 264هـ)، فتح حارم من أعمال حلب بقيادة نور الدين محمود (26 من رمضان سنة 559هـ)، معركة المنصورة بين الأيوبيين والحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا (رمضان سنة 647هـ)، معركة عين جالوت بين المسلمين والمغول على أرض فلسطين (25 من رمضان 658هـ)، فتح أنطاكية على يد الظاهر بيبرس (14 من رمضان سنة 666هـ)، معركة شقحب (مرج الصُّفر) بين المسلمين والمغول على مشارف مدينة دمشق (2 من رمضان سنة 702 هـ). فتح جزيرة قبرص في عهد المماليك (رمضان سنة 829هـ)، فتح البوسنة والهرسك في معركة قوص أوه (قوصوه) بين العثمانيين والصرب (4 من رمضان سنة 791هـ).

وغيرها من الفتوحات العظيمة والإنجازات العسكرية الحاسمة في تاريخ المسلمين، وهي كثيرة وما ذكرناه منها فيه كفاية، أو كما يقال: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق؛ أي: يكفي المسلمين فخرًا أن يستحضروا هذه المشاهد الخالدة في التاريخ الإسلامي؛ ليأخذوا منها الدروس والعبر.

أجل؛ هذا ما كان عليه رمضان لدى السلف الصالح، وهو وجه مشرق متلألئ لرمضان وللصائمين فيه، ولكن هناك أناساً هداهم الله، وما أكثرهم، أصبح رمضان عندهم شيئاً آخر، المظهر مظهر إسلامي وعبادة مرجوة الأجر، ولكن الاهتمام عندهم ينصبّ على الطعام بأنواعه والأشربة بألوانها!! فكأن رمضان عندهم معرض غذائي لشتى المأكولات والمشروبات التي تزدحم بها موائد الإفطار! يبسطون موائد فاخرة، وعليها من أنواع الأطعمة، ثم يصوّرون من هذه الموائد وينشرون صورها في منصات التّواصل الاجتماعي، ليتحسّر الفقراء الذين لا يجدون أقوات يومهم من إسراف بني جلدتهم المترفين.

إن شهر رمضان لم يشرعه الله -عز وجل- للقعود والتخلف عن ركب الجهاد والحركة والدعوة إلى الله، ولم يشرعه كذلك للتحجج به عن التفلت من الالتزامات الوظيفية أو الاجتماعية، بل إنه شهر نشاط وحركة، وفتوحات وانتصارات، فغالبية الهزائم التي لحقت بالشرك وأهله على أيدي المسلمين كانت في شهر رمضان المعظم، وهذا كافٍ لأن ينفض عنا غبار الكسل والدعة والخمول.