طوفان الأقصى وحقيقة أن الجهاد في سبيل الله لا يُقام بمنطلقات غيره

د. نائل بن غازي – غزة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد/

قضى الله تعالى بحكمته البالغة أن يبقى الإسلام عزيزاً كريماً، وأن لا يجعل للكافر على المؤمن سبيلاً، وأنه -تعالى- لا يزال يقيم لهذا الدين رجالاً، يحيون في أمتهم -مع اختلاف الزمان، وضعف الإيمان- لدينهم وعقيدتهم، ويبذلون لها الأرواح والمهج في ميدان الرضا والتسليم التام؛ لا يقبلون دنية في الدين؛ ولا يعرفون انكساراً أمام العتاة المجرمين؛ يهتف في خلدهم نداء الواجب العظيم “طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله” ينتصرون لمبادئهم انتصار المؤمن المجاهد هانت عليه نفسه في ذات الله، فلم يأبه على أي جنب كان في الله مصرعه.

رجال لم يعرفوا تأصيلات المنبطحين؛ ولم يسمعوا شنشنات القاعدين.

لهم مع الجهاد تأصيلات صاغتها أقلام علماء أمدوها مداد الدم على طريق الخلاص؛ فتجلت لهم معاني الفهم على الحقيقة، منحةُ الله “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين” [العنكبوت: 69]، أقاموا لمقتضى العلم الصحيح، البذل المخلص المليح، فعاشوا أصول التنزيل والتحقيق سجيةً مع كل دفقة دم في أجسادهم المرابطة؛ ولم يكونوا مجرد حفظة سَرَدة، آلة تعيد ولا تفيد.

وإنه لمن عظيم نعمة الله على المجاهدين أنهم مترفعون عن سماع كثير من تلك الأصوات؛ معرضون عن تقعيداتها القلقة المحادة لمراد الله من كتابه، ومراد النبي -صلى الله عليه وسلم- من سنته؛ المعاندة لدلائل الواقع النبوي والشواهد الجهادية لأسلافنا الممتدة لحقب من التاريخ الإسلامي.

لهم في النائحات أمداد تثبيط؛ وليس لهم في المكرمات حرف نور يدل عليهم.

فالحمد لله على اصطفاءِ مقامٍ كان في الله محض اختيار وتوفيق إلهي لا اختيار للمجاهد فيه “وربك يخلق من يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحانه وتعالى عما يشركون” [القصص: 68].

بعد نفثة الغيظ، وزفرة القهر، وتحت وقع القصف المستمر، وفي عتمة ليل يشق صمته وهدوءه هديرُ طائرات الموت؛ طوّعت قلمي لبيان حق واجب، ودفع فريةٍ يصار بها لمصاف الحقيقة على قواعد تأصيلات انهزامية عرجاء، حسبةً وجهاداً، صبراً وجلاداً.

فالقلم في ساحة البيان صنو بندقية السنان.

وسأجعل الكلام منصباً في إشارات على النحو التالي:

■ الإشارة الأولى: وصف الجهاد الغزي.

■ الإشارة الثانية: مفاهيم واجبة.

■ الإشارة الثالثة: حوادث سبقت الطوفان المبارك.

■ الإشارة الرابعة: ميدان شاهد على حياة الناس.

■ ثم أخيراً: ديباجة نصيحة.

 

الإشارة الأولى: وصف الجهاد الغزي

إنه من نافلة القول بيان: أن الجهاد يتعين على المسلمين إذا دهم العدو بلداً مسلماً، وأن دائرة الوجوب تتسع مع العجز، وأن القعود عن الدفع استسلاماً للعدو، وامتناعاً عن تحقيق الاستطاعة يعرض أهله لمقت الله تعالى.

وأن طلب الخلاص من الاحتلال عبادة واجبة، وفريضة حتمية، وأن دفع آثار ذلك الاحتلال عن المقدسات والحرمات وتوحيد الناس من آكد الواجبات وأجلّ العبادات.

وإن فلسطين جزء من بلاد المسلمين، وهي قطعة من أرض الشام المباركة، وفيها قبلة المسلمين الأولى، ومسرى النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- ومعراجه إلى السماء، وهي مع ذلك كله لازالت ترزح تحت نير احتلال صهيوني بغيض زهاء ست وسبعين سنة؛ لم يتحرك لواجب الخلاص فئة ترفع لذلك لواء الجهاد مع وجوبه العيني على غير الفلسطيني لتوفر القدرة والمكنة؛ وكانت أغلب المحاولات ذات منطلقات أرضية هُزمت وتقزمت واندثرت وانتهى بها المطاف لاتفاقيات قيدت الشعوب المسلمة وكفلت لليهود حق العيش والبقاء على الأرض المغصوبة، ونال العدو شرعيةً قسريةً فُرضت على الأمة المسلمة عامة، والشعب الفلسطيني خاصة، وغيبت معه شعيرة الجهاد؛ بل وجُرّم أهلها.

فكان لابد من إحياء فريضة الجهاد ودفع العدو بالممكن المتاح؛ ولو بالحجارة دفعاً يُسقطُ به المسلم الفرض الواجب، ويُحيي به عزائم أمة حية مقهورة انتهت أو كادت تنتهي أحلامها بالخلاص من الاحتلال أو إمكانية مناوشته ومشاغلته، في نظرة مقاصدية واجبة؛ لا يتم وجوب الاستنفار إلا بها فتعيّنت.

 

الإشارة الثانية: مفاهيم واجبة

– حد الإعداد الواجب

يدندن بعض من درس العلم مجرداً عن روح العمل؛ أن المجاهدين مجرد “دراويش” أهملوا الأسباب وغامروا بأنفسهم في معركة أشبه بانتحار محقق؛ والحق أن علماء الجهاد في الثغور أفقه الناس بحقيقة فهم القدر الواجب من الإعداد الذي تستنفر له جحافل الجيل لخوض معارك البطولة الواجبة، وأن بلوغه حد الإرهاب ودفع العدوان وتحقيق الإثخان مقصدٌ شرعيٌّ لا يجادلُ فيه أحد، قال الله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” [الأنفال: 60]؛ فهم لم يرفعوا قدر الأسباب التفاتاً مجرداً لها فتخطفهم حبائل الشرك؛ أو محواً لها بالكلية فتصيبهم خفة عقل؛ أو إعراضاً عنها قادحين في الشرع -عياذاً بالله- وإنما أعدوا على مدار سنين قدر الاستطاعة التي يمكن أن تحقق بها مقاصد الجهاد، وتستنهض الأمة لمعركتها الحقيقية الواجبة.

وإن مسيرة الشعب الفلسطيني عامة، وأهل غزة خاصة، شاهدة على تطور مسيرة الإعداد حدَّ الاستطاعة التي يغلب على الظن مقدرتها على إيلام المحتل، وإجباره على التراجع؛ بل وتعطيل مشاريعه التصفوية للقضية الفلسطينية.

فهم بالحجر وصولاً لوفرة السلاح الخفيف، أجبروا المحتل على مغادرة غزة والانسحاب منها وترك مستوطناته التي امتد عمرها في خاصرة بلدنا المحتلة مدة احتلاله.

خاضت كتائب القسام بعد الانسحاب أعظم تحدٍّ طلباً للوصول لنوع تفوق عسكري يضم تشكيلات قتالية مدربة ومجهزة تجهيزاً علمياً عسكرياً منظماً غير عشوائي؛ يقاتل به المجاهد قتالاً مدروساً بعيداً عن الاستخدام الفطري للسلاح، وارتقت في كل المجالات القتالية لدرجة شهد لها العدو أنها ارتقت من مرحلة الفصائلية إلى ما يشبه الجيش النظامي.

أحدثت كتائب القسام طفرةً في الصناعات الصاروخية لدرجة تغطية كل شبر من أراضينا المحتلة، وتشكيل مظلة حامية لمحاضن التربية الجهادية للجيل في معسكرات التدريب.

وبإزاء ذلك عملت الكتائب على إعداد الجيل إعداداً إيمانياً متيناً لقناعتها أن معركتها مع المحتل ليست معركة حضارية؛ وإنما معركة إيمانية رسالية ينتصر فيها الجيل للتوحيد والمقدسات المغصوبة، وقد كان لها ما أرادت ويكفي إشارة على علو القدم في الإعداد: تجنب العدو مواجهتها في عدة جولات؛ إلزامه المستوطنين بتجنب اقتحامات المسجد الأقصى في عدة مناسبات؛ وعلاوة على ذلك: سقوط مستوطنات الغلاف وفرقة حماية غزة المؤلفة من آلاف الجنود والخبراء ووحدات تكنولوجيا المعلومات في أجهزة استخبارات وأمن العدو في غضون ساعتين تحت أقدام ألف مجاهد فقط؛ وأسر المئات منهم في غزة في معركة طوفان الأقصى يوم العبور العظيم.

 

– جهاد القلة المؤمنة الكثرة الكافرة

في بداية طلبنا للعلم لم نكن نستوعب معنى كلام العلماء عن اختلاط الأهواء والسياسة بعلوم الشرع ومزاحمتها مزاحمةَ محاولة تغلَّب وتغليف بعباءة التأصيل.

حتى أدركنا هذا الزمان ورأينا ذلك رأي عينٍ وعايناه معاينة الخبير، ووقفنا على كلام كثير فارغ المضمون إلا من تحاسد مذموم قاد أصحابه لردّ الحق وتشويه صورته على قاعدة من الخلاف السياسي المانع من التسليم وقبول الحق ولو جاء من المخالف..!!

وإن من أعجب العجب أن ينصب أقوامٌ معسكرات جدالٍ في حقائق يصل أثرها السيء لمسيرة أسلافنا الجهادية الشاهدة.

فعلى قاعدة التأصيل السياسي لا الشرعي؛ يعيب أقوام على كتائب القسام جهادها، وطوفانها المبارك؛ استناداً لتأصيل حرمة مقاتلة القلة للكثرة الغالبة!!!

وإن مثل هؤلاء -مجتمعين- كحال من أراد أن يطمس حقائق الشرع بغرابيل الحسد والسقوط والإخلاد إلى الأرض.

يعظمون قدر السبب ويستسلمون لمنطق الأشياء الأرضية بمعزل عن حقيقتها الضعيفة، ومعارضة للحقيقة الإيمانية الثابتة بأن تحصيل الكثرة في المعارك ليس مطلوباً وأن حقيقة القرآن قاضية بخلاف ذلك، قال الله تعالى: “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين”[البقرة: 249]، وهذه وقائع غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- شاهدة على هذه الحقيقة؛ فلم يقاتل الصحابة الكرام في معركة وهم أكثر عدداً وعدة؛ بل كانوا قلةً في كل معاركهم، ولم يحظوا بكثرة إلا في حنين، ولما حدثتهم نفوسهم بذلك نزل في رحالهم الابتلاء؛ قال الله -تعالى-: “ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين” [التوبة: 25]؛ ولعلّ من تجرد من حقيقة الفهم الصحيح لمقتضيات الجهاد في سبيل الله والتي لا تقام، ولا ينتصر لها انطلاقاً من أدوات غيرها، لو عاين وقائع مؤتة أو بدر أو الأحزاب؛ أو عاصر عين جالوت وحطين وملاذكرد، وسار فيهم مسيرة هذا الفهم القلق لاتهم الأخيار الأبرار بأوصاف مردودة منبوذة.

إن القلة المؤمنة المتسلحة حد بذل الوسع استطاعةً للدفع ورد صيال الغزاة هو المعتبر حين النظر لحقيقة المسألة من جهة الشرع، لا من جهة النظر السياسي على قاعدة من الرد ولو كان الدليل يصاحبه.

 

– موازين المصلحة الشرعية

من نافلة القول بيان أن النظر في تحقيق المصالح الشرعية يحتاج إلى دربة وفهم للواقع فهماً مانعاً من إهمال مخالطة الوقائع والنوازل من حيث التصور والتكييف والتطبيق، وكل خلل في هذه الرتب لا شك أنه سيؤدي إلى خطأ في مخرجات النظر.

وليس للذي لم يتدرب على فهم الواقع والفقه فيه، ثم فهم الواجب في هذا الواقع أن ينصب موازين تقييم المصلحة وتقدير آثارها.

وإن الذي نصب حدود الفهم في إطار قواعد الاستسلام للواقع المغشوش، وتسليم قضايا المسلمين لإذن من لم يهتم بأمورهم؛ بل ربما كان جزءًا من تغييبها ومحاربتها، فمثل هذا يحتاج لخلاص قبل النظر في الخلاص؛ فهو معزول عن الواقع والفهم فيه، مريض يحتاج شفاءً ودعاءً.

وإنك إن أتيت تراقب كثيراً من الحوادث التي خاضها الصحابة ومجاهدو سلفنا الصالح بمنظور البعيد عن المخالطة لم تقف على رَشَد؛ ولم تصب العدل.

فأي مصلحة في انغماس محمد بن مسلمة -رضي الله عنه- في معسكر اليهود وحده طلباً للانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم.

وأي مصلحة في إقدام البراء -رضي الله عنه- وتقحمه أسوار الأعداء على أسنة الرماح.

وأي مصلحة في اشتراط شرطة الموت للنيل من العدو مع يقين تحقق القتل.

وأي مصلحة في فناء أصحاب الأخدود حرقاً لم يتعللوا بضعف، أو يتوسلوا المعاريض طلباً للنجاة.

وأي مصلحة في إقدام الغلام على الموت شهادة أمام جمع الناس، وكان بالإمكان الفرار وملازمة الدعوة ولو سراً حتى يشتد عوده.

وأي مصلحة في استشهاد أربعين ألف مجاهد على أسوار القسطنطينية.

وأي مصلحة في إعذار المرابطين في الإغارة على معسكرات الأعداء من دون إذن لاعتبار أن حقيقة الجهاد مبناه على التغرير بالنفس.

وأي مصلحة في غزوات فاقت فيها أعداد المشركين أضعاف أعداد المسلمين.

بمنظور المتشبث بالنظرة السطحية المادية لا مصلحة في ذلك راجحة؛ ولولا وقوعها وحدوثها ممن هم أخير منا وأعلم، لردها خلق كثير وأنكر مشروعيتها خلق آخرون.

إن المصالح المتعلقة بالجهاد قد لا تبدو واضحة على المدى القريب دوماً، فهي مرتبطة بحركة أمة، وبناء دول، والشأن أن يُراكمَ عليها لتتجلى حقائقها.

هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج من مكة -أحبّ البلاد إليه- يطلب نصرة لدعوة حوصرت وأوذيت وعُذب أصحابها؛ حتى عاد بعد ثماني سنين فاتحاً.

من تعلق بالمنظور المادي المحتل لآلة التصور والتكييف للحقائق؛ ربما قاده الإنكار العجول لتطبيق أكثر تهور بسؤال العاجز وأين المصلحة في مواجهة الناس والتغير عليهم والصراحة في معاداتهم ونبذ عباداتهم وقد كان بالإمكان الصبر أمداداً حتى تتهيأ الظروف؟؟؟!!!

وإن المتأمل لحقيقة مصالح الجهاد الشرعية يدرك تماماً أن الفتح العظيم كان آخر حلقة من حلقات تراكم المصلحة الشرعية التي شُيّد بناؤها بلبنات الصبر الأول، وسنن المدافعة مع الضعف.

وهذا نبي الله موسى -عليه السلام- يواجه فرعون في سلطانه وحيداً، واضطر للخروج من القرية فقيراً فاراً بدينه، يحمل دعوة التوحيد، يطلب لها أمناء يحملونها بقوة، لتبليغ رسالة ربه.

يُراكَم على مصلحة الصدع بالتوحيد، وتحمل الأذى في سبيله، خروجُ أقوام من بني إسرائيل من دائرة الاستعباد إلى سعة الإيمان والسير في ركابه.

من تعلق بالمنظور المادي وعاش معزولاً عن فهم الحقائق الشرعية حتماً لن يرى المصلحة في فعل نبي الله -عليه السلام- وقد خرج من أبهة القصور إلى ضيق المطاردة والطلب والتتبع ومؤامرة القتل، حتى يقع على الفعل التراكمي الناشئ عن الوقوف الصريح في ساحة القصر وحيداً والصدع بالتوحيد في جنبات قصر فرعون.

وهكذا يُنظرُ للمصلحة الناشئة عن الحركة الجهادية في أمتنا، وأنها تراكمية لابد لها من غربة فاستضعاف ثم مشاغلة وغلبة وتمكين.

وهل تقزمت الامبراطوريات الغربية الفاشية إلا بالجهاد الاستنزافي لها وصولاً لذهاب الريح وانعدام الأثر، وتفكك البنية؟؟

مرّ المغول على البلاد وقد عملت سيوفهم في المسلمين، في مرحلة تاريخية قاتمة من تاريخنا الإسلامي، ولم يقم لها إلا جيوب الدفع بالممكن، حتى تراكمت آثار العمل المجاهد فانتهى لحراك واسع انتهت معه امبراطورية جنكيز خان على يد القائد المسلم سيف الدين قطز.

أين امبراطورية الاتحاد السوفيتي الذي هيمن على العالم وكان له التفوق الأعلى لصياغة منطق التبعية العمياء لسياساته؟؟

تفككت امبراطوريته على يد المجاهدين الأفغان في جهاد طويل استنزافي.

وأين التحالف الدولي الذي جمع أكثر من اثنين وعشرين دولة لتفتيت حواضر الشعب الأفغاني وتغيير ثقافته؟؟

تلاشت قوته واندثرت آثاره بعد اثنين وعشرين سنةً من الجهاد الدؤوب المبارك.

وهكذا كلما أقيم للجهاد سوق في بلاد المسلمين، وتدافعت له جموع الشباب، وانتصرت له أمتنا المتعطشة، جمعت جملة من المصالح التراكمية التي قد لا تظهر آثارها في مرحلة قريبة عاجلة رغم تلمس كثير من عاجلها: كإحياء فريضة الجهاد في نفوس الجيل، وتحطيم صورة الاحتلال في عقولهم، وتعزيز معاني الولاء والبراء، وترسيخ قواعد الإمكان والقدرة، وتحطيم قواعد اليأس

والضعف، وتشكيل حواضن تربية جهادية تعيد للأمة جزءًا من مجدها، والانتصار للدين والعرض، وفوق ذلك الاستجابة للنداء الواجب بوجوب الجهاد والمدافعة.

 

الإشارة الثالثة: حوادث سبقت الطوفان المبارك

يقول علماؤنا -عليهم الرحمة- الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره؛ فالحكم فرع التصور، ومن حرم الأصل أخطأ الفرع، وأتى بالعجائب.

وإليكم سردية مهمة لحقبة زمنية قريبة سبقت طوفان الأقصى المبارك، ولماذا تعمدت كتائب القسام قلب الطاولة بحدث صاخب يمثل انقلاباً على المنظومة الدولية وأتباعها في المنطقة، وهي تقدم نفسها فداءً لأمةٍ يراد سرقتُها وقتل معاني الإسلام والإيمان فيها، وترويضها لتلقي معاني الكفر والانهزامية دون حراك.

إنه لاشك أنّ من أظهر دلائل ضعف المسلمين في زماننا: رزوح قبلة المسلمين الأولى، ومسرى رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ومعراجه إلى السماء تحت احتلال طال أمده، واستشرى مدده، واستطال شره، وعظم خطره، حتى غدا أكثر وضوحاً للغاية، وأعظم جلاءً للغواية.

فعاش المسجد الأقصى ولا يزال أخطر مراحل التهويد الممنهج والقضم المدروس، والاعتداء السافر، واشتدت وتيرة ذلك مع صعود أطراف التطرف الصهيوني لسدة الحكم، والتي سابقت الوقت لطمس الهوية الإسلامية عن المسجد الأقصى؛ بل وهدمه التام، وإقامة أركان الهيكل المزعوم على أنقاض بنيانه الطاهر.

فمنذ صعود أركان هذه الحكومة المتطرفة -بشهادة العجوز الخرف بايدن، وأركان الدولة الصهيونية من غير حزب المجرم نتنياهو- توالت حملات تدنيس المسجد الأقصى المبارك، والسعي الحثيث لهدمه وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، وبلغ الأمر ذروته باستقدامهم خمس بقرات حمراء لرعايتها مدة أشهر معلومة واستقبلوها على أعلى مستوى، في أبرز علامة على قرب هدم المسجد الأقصى المبارك، وتوالت لذلك المظاهرات الداعية للاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى وذبح القرابين في ساحاته، وتأدية شعائر سجودهم الملحمي على أبوابه، ثم إقدام الصهيوني المتطرف في الحكومة المتطرفة لتقديم القرابين النباتية في ساحات المسجد الأقصى على مرأى ومسمع من العالم كله؛ وتعمد شتم النبي -صلى الله عليه وسلم- على الشاشات، والتضييق على المصلين، ثم في أعظم فتنة في الدين تعرض أسرانا لحملات القتل البطيء، ومنعهم من حقوقهم البسيطة كمنع الماء والدواء والطعام، والتنكيل بهم، وزج المئات من شبابنا في سجون الاحتلال تحت بند السجن الإداري من دون محاكمات، وإزاء ذلك اشتد الحصار المضروب على غزة ودفع أهله وشبابه إلى الهجرة خارج البلد، مع استمرار اقتحامات وقتل الشباب في الضفة الغربية؛ وفوق ذلك كله بلوغ عملية التطبيع مع الكيان ذروتها، واشتراك الدول العربية في اتفاقية أبراهام وقبول الديانة الإبراهيمية الكفرية كدين جديد.

كل ذلك استدعى فدائيي الجهاد لقلب الطاولة وإحداث صخب مزلزل في الساحة الإقليمية والدولية لاستدراك مراحل الهبوط بالجيل حد ضياع الهوية واندثار تعاليم الشريعة في نفوسهم، فقدمت غزة نفسها فداء لمقدساتها وأمتها في عملية طوفان الأقصى، لتحطيم هذا الصنم المعبود في المنطقة، فحطمت هيبة الاحتلال، ودمرت منظومته الأمنية والعسكرية، وسقطت فرقة غزة تحت أقدام المجاهدين، وتعرت أنظمة التطبيع، وطفت قضية فلسطين على السطح من جديد، واجتمع لها المسلمون وأحرار العالم، في أعظم مسيرة تلاحم يمكن أن تراها.

غزت كتائب القسام غزوتها المباركة، وقاتلت قتال شرط الموت تطلب حياة أمتها، وبذلت لذلك الوسع ولازالت في أعظم معركة تمر على أمتنا في صراعها مع المحتل الصهيوني منذ نكسة الـ 67، ولم تتعرض إسرائيل لهزيمة كهزيمتها في السابع من أكتوبر في معركة طوفان الأقصى، في رسالة مراكمة المصالح الشرعية: إسرائيل نمر من ورق، وأكذوبة من سراب، وكيان ساقط، وأن الأمة أقوى مما تتخيل هي في نفسها، وأنه بالإمكان هزيمة الكيان وتحطيم أركانه، وأن أمتنا عصية على الاستعمار والاستعباد، وأن الأمة المسلمة إذا وفرت لشبابها مساحات الإعداد فهي للنصر والغلبة والظهور أقرب.

 

الإشارة الرابعة: ميدان شاهد على حياة الناس

إن أمة الإسلام لا تعرف حياةً كريمةً إلا في ظلال سيف الجهاد وهداية الكتاب المبين، كتاب هادي وسيف بتار بادي، قال الله -تعالى-“لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز” [الحديد: 25] ففي الجهاد حياة الناس، وبه ترتقي الأمة إلى حيث منبر الإمامة، والترفع عن دونية خشاش الأرض التي يحياها من رضي بإذلال العدو، أو سار في ركابه.

وإن الأمة التي تسعى للخلاص من درن الاحتلال لا يمكن لها إلا أن تتوسل سبيل الجهاد سبيلاً وحيداً، ولو كان ثمة طريق يمكن أن يتوسله الناس لنيل الحقوق وطرد الاحتلال غير الجهاد في سبيل الله -تعالى- لبينه ربنا في كتابه؛ كيف والكتاب ناطق بهذه الحقيقة مثبت لها صادع بها، قال الله: “ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض” [محمد: 4].

وأن كل بذل في سبيل الله يمثل حياة لجيل الأمة القادم؛ وإن عظمت التضحيات.

والنصر لا يقاس بحجم الفقد، ولا بكثرة الشهداء، وإنما بالمضي للغاية من غير تبديل أو انحراف، أو قبول الذلة واقعاً عادياً.

وأن الجهاد وإن كان في حقيقته انتقال من ابتلاء لابتلاء أعظم، إلا إنه انتقال في المكان الصحيح، والسبيل المرضي، والطريق الواجب، وتلك سنة الله في الدعوات.

ألا ترى أن المرء يعيش آمناً متنعماً غارقاً في لجج الدنيا، ملتصقاً بها، متثاقلاً إليها، حتى يفجأه الجهاد فينقله من ابتلاء القعود إلى ابتلاء التغرير بالنفس، وبيعها لله -تعالى- بيع راجي الآخرة، طالباً نعيمها الدائم.

وإنه في سيره ستنهشه أطماع ورغبات ووسوسات، ولن ينجو إلا بالمضي من غير التفات.

وأن خلقاً كثيراً سيتهمونه وسيلمزونه وسيسلقونه بألسنة حداد، ولن يسلم له عرض، ولن تنجو له نية خفية؛ وفي كل ذلك تمام الرسالة على صحة الطريق وسلامة الخطى.

في معركة طوفان الأقصى استُفرت الأمة للجهاد الواجب وهي ترى مقدساتها تنتهك، وتعمل فيها آلة التهويد وطمس الهوية عمل مكر الليل والنهار، فقعدت الأمة إما عجزاً أو قهراً؛ ولم يقم للدين يومئذ إلا هذه الفئة المؤمنة المجاهدة في ثغر غزة، لم تعش هامشيةً على جنبات التاريخ؛ وإنما قامت تفرض إرادتها على واقعٍ استسلم للخضوع والذل والخنوع، فراغمت عدوها مراغمة الأباة، وقهرت فيه صلف الطغاة.

قادته لبيئة النزال، وميادين القتال، ورأى الجيل في أمتنا صنيع هذه الثلة المجاهدة المباركة، وهي تصنع صاروخها والعبوات، وتشق الأرض بأظفارها، فتخدّ الأخاديد والأنفاق الشاهدة على متقن الإعداد وعظيم العزيمة الوقّادة.

وكُسِرت بهم هيبة عدو ظلوم متسلط على أحلام أمتنا بأوهام وأكاذيب، فجعلته أضحوكة الزمان.

فتسارعت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وحلف الناتو لترميم هيبة الكيان والتغطية على مسلسل فشله المفضوح، ولم تفلح كل المحاولات، وغرق الغزاة في أوحال غزة، وشيدت غزة مرحلةً تاريخية في جهاد أمتنا، فانتصرت للدين والنبي -صلى الله عليه وسلم- وارتقى المجاهدون مراحل متطورة في النزال غابت عن جيوش المنطقة الخاملة منذ عقود.

وكسرت على صخرة جهاد كتائب القسام وحدات نخبة العدو، وانحسرت موجة التطبيع، وانهارت أكاذيب أريد لها أن تسري في الجيل سريان الحقيقة المغشوشة.

وتجلت حقائق لم يكن لها أن تظهر لولا هذه الحركة المباركة:

أولاً: لأول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني مع هذا العدو يخوض المجاهدون حربهم داخل أراضينا المحتلة، وهذا ما لم تعهده دولة الكيان التي اعتمدت سياساتها العسكرية دوماً على عنصر المفاجأة وكثافة نيران أجبرت خصومها من الدول العربية وغيرها من الاستسلام لشروطها وسياساتها، ومارست بذلك مرحلة “كيٍّ للوعي” لبعض الجماعات التي حاولت مناوشتها في عمليات عسكرية محدودة الصراع، لتأتي غزة متسلحة بإيمان أبنائها لتحارب الكيان بطريقة ندية تفقده عناصر قوته، وتجبره فيما بعد لتقدم لم تمنعه منه وإنما أعاقته ووجهته لميادين معدة مسبقة لتخوض معه معركة استنزاف وكبدته خسائر فادحة مصورة يراها العالم على الشاشات، ولاشك أن ذلك أصاب المعتمدين والمعولين والمرعوبين من الكيان لإعادة كثير من حسابات الثقة بهذه الدولة المسخة، والنظر بجدية في كونها حليفاً يمكن أن يعتمد عليه.

ثانياً: اعتمدت إسرائيل في عوامل بقائها على تشجيع يهود العالم للهجرة إلى فلسطين والاستقرار بها لمعتقدهم أنها أرض الميعاد، وأنفقت على هذه السياسة ملايين الدولارات، لتجد إسرائيل نفسها بعد طوفان الأقصى أمام هجرة عكسية طردية لم تتوقعها إدارة الكيان، وفي أول إشارة من بلجيكا “مثلاً” بالسماح لليهود بالهجرة إليها دون تأشيرة، ازدحمت مكاتب التنسيق ومطار بنغوريون بعشرات آلاف الهاربين، فتحطمت أمالهم، وقُزمت أمانيهم، واندثرت أحلامهم، وتبعثرت مخططاتهم، وذهبت أموالهم أدراج الرياح.

ثالثاً: صدق ربي سبحانه “إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون” [النساء: 104]، “إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله” [آل عمران: 140]، بعد معركة طوفان الأقصى انتهى زمان تهجير وقتل الفلسطيني دون محاسبة؛ ففي الوقت الذي يتشبث فيه الفلسطيني بأرضه، ويحارب سياسة التهجير المتعمد، فينزح لجنوب القطاع والتسمر به رافضاً سياسة التهجير لسيناء، ويعاين في سبيل ذلك الجوع والعطش وانعدام الإمكانات؛ أجبر المستوطنون في مستوطنات الغلاف للخروج منها، والعزم على عدم العودة حتى ينتهي تهديد القسام، مما اضطر قيادات العدو كوزير مجلس الحرب “غانتس” لعمل دعاية في رسالة اطمئنان للمستوطنين حين جاء لمستوطنات الغلاف ليبحث عن بيت للإيجار، فتعرض لحملات سخرية المستوطنين ولم يلتفت لدعايته أحد؛ وتحدث رؤساء مجالس المستوطنات أنهم لن يعودوا لمستوطنات الغلاف مرة أخرى، في سابقة لم تعهدها دولة الكيان المسخ.

الكيان الذي اعتمد دوماً على سياسة تهجير الخصوم وقضم الأراضي يعيش الآن أسوأ مراحل التسمّر في مستوطناته.

رابعاً: بعد طوفان الأقصى انهارت منظومة الاقتصاد الإسرائيلي واضطرت الدولة للاستدانة لتغطية نفقات حربها على غزة مما أدى لارتفاع منسوب الدَيْن العام، ورغم كون الإدارة الأمريكية رفعت نسبة دعمها للكيان إلا أن ذلك كله لم يقم أود الدولة المهترئة والكيان المهزوم، وصدق الله “إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون” [الأنفال: 36]، فالدولة التي اعتمد عليها الحلفاء كأحد أمهر نقاط ثورة تكنولوجيا المعلومات انهارت ثورتها بعد سيطرة المجاهدين على كنز معلومات استخباراتية مهمة لوحداتها الأمنية “الموساد والشاباك والشين بيت وأمان”، ما زعزع ثقة الحلفاء بالكيان وحقيقة جدوى الاعتماد عليه؛ في ضربة أصابت عمودها الفقري تضاف لضربات المجاهدين العسكرية في ميدان الحرب.

حقاً إنها لم تكن غزوة عابرة؛ بل كانت معركة شاهدة على حياة الناس؛ تخطو خطى السلف الأوائل في تحطيم أصنام الوهم في نفوس الناس، وأنهم قادرون جداً بعد الاستعانة بالله أن يحدثوا التغيير والتأثير.

 

أخيراً: هذه ديباجة نصيحة

في معارك أمتنا على مدار تاريخها لابد وأن تطفو للسطح أصوات نشاز مغرضة أو جاهلة؛ تردد مقالة العدو والمنافقين، وتمشي في الناس مسيرة أهل الإرجاف، والتثبيط والإسفاف، يتكلمون بأثارة علم يحسبونها علماً راسخاً، وأكثرهم قد أوتي من جانب الجهل أو النفاق، قد أكل الخوف حبات قلوبهم فصدهم عن توسل أدوات طلب الحق بأدلته.

يحذرون الناس من فتنة قد وقعوا فيها حتى ألجمتهم ألجمة الاستعباد، وقد صدق الله “لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون” [التوبة: 48]، يقيسون الأمور الشرعية بمنطلقات غيرها؛ ويوازنون المواقف لمقتضاها، فغارت أقدامهم في وحل الاختراع، ورفعوا للبدعة والخور ألف شراع.

وإن جئت تحاججهم -تنزلاً- لمقتضى حساباتهم لأسقطوا في أيديهم ولم يخرجوا بفهم شرعي، أو إدراك واقعي.

يتباكون على دماء سالت على طريق الجهاد الواجب، حتى لكأن الجهاد لا بُدّ فيه من ضمان السلامة وطلب الراحة على حبّ؛ والأمر بخلاف ذلك أبداً.

وإن الشعوب في حركة تحريرها ودفعها للعدو وبناء دولها تبذل على الطريق مئات آلاف بل ملايين الشهداء، حتى تبلغ ذروة التأثير في السياسات الدولية المحيطة؛ ولا يقاس نصرها بقدر ما بذلت؛ وإنما بنتيجة ما حققت.

ألا ترى أن هذه الأصوات يخفت حسها إذا ناقشت حقبة سطو الاتحاد السوفيتي على إرادة حكومات الدول، وتقر إقرار المذعن أن الحرب العالمية الثانية أسست لمرحلة القطب الأحادي المتنفذ في العالم وأن الاتحاد السوفيتي هو عنوانها وقبلتها…!!

رغم كون الاتحاد السوفيتي خسر في معركة البسط والهيمنة بعد الحرب عشرة أضعاف ما خسره خصومه.

فبريطانيا التي حاربت الاتحاد السوفيتي خسرت ستة ملايين شخص؛ فيما خسرت اليابان مليونين ونصف مليون شخص؛ وخسر الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية خمساً وعشرين مليون شخص، ولا يشك أحدٌ أن الاتحاد السوفيتي هو من كسب المعركة وخرج منها بنصر كبير أهله لبسط القيادة والسيطرة على المنطقة، وصار قبلة شرف التحالف للحكومات في منطقتنا…!!!!

لتدرك وقتها أن كثيراً من هذه الأصوات السياسية المغلفة بغلاف التأصيل العلمي الفقير لقواعد الفهم والإدراك، إنما كانت تخوض معارك بالنيابة عن قوى قد أحرجتها أفعال المجاهدين وهم بعشر معشار قوتها المكدسة..!!

وإن أقواماً كانوا يمنون النفس بسقوط المقاومة في غزة ظن سوء زُيّن في قلوبهم حتى أهلكهم هو ما جرأهم على الصدع بالإرجاف، والجهل والإسفاف؛ فما كانوا يظنون أن تهزم امبراطوريات الكفر في قلعة الإيمان غزة رغم مساحتها الضيقة وإمكاناتها المتواضعة، فساروا معهم مسيرة أسلافهم من قبل الذين قصت لنا آيات القرآن حكايتهم فقال الله: “بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزيّن ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً” [الفتح: 12].

يقول سيد قطب -رحمه الله-: “هكذا يظنون دائماً بالجماعة المؤمنة عندما يبدو أن كفة الباطل هي الراجحة، وأن قوى الأرض الظاهرة في جانب أهل الشر والضلال؛ وأن المؤمنين قلة في العدد، أو قلة في العدة، أو قلة في المكان والجاه والمال. هكذا يظن الأعراب وأشباههم في كل زمان أن المؤمنين لا ينقلبون إلى أهليهم أبداً إذا هم واجهوا الباطل المنتفش بقوته الظاهرة. ومن ثم يتجنبون المؤمنين حبا للسلامة؛ ويتوقعون في كل لحظة أن يستأصلوا وأن تنتهي دعوتهم فيأخذون هم بالأحوط ويبعدون عن طريقهم المحفوف بالمهالك! ولكن الله يخيب ظن السوء هذا؛ ويبدل المواقف والأحوال بمعرفته هو، وبتدبيره هو، وحسب ميزان القوى الحقيقية. الميزان الذي يمسكه الله بيده القوية، فيخفض به قوما ويرفع به آخرين، من حيث لا يعلم المنافقون الظانون بالله ظن السوء في كل مكان وفي كل حين!” ا.هـ

حتماً ستنتهي معركة الاستنزاف وسيتغير وفقها أشياء كثيرة؛ لكن الثابت فيها -ثقةً ويقيناً- أن ما بعد الطوفان ليس كما قبله يقيناً؛ وأن مسيرة الجهاد ستمضي لقدرها، وستعلو بها راية الحق، وستنتهي في باحات المسجد الأقصى المبارك وعد الله لا يخلفه.

وأن عيش الجهاد شيء، والحديث عنه شيء مغاير تماماً؛ وأن الجهاد في سبيل الله لا يُنتصر له بمنطلقات غيره؛ وإنما بباعث الإيمان الذي يجلل مسيرته.

“والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.

وكتبه من غزة المباركة في أوج العدوان المستمر: د. نائل بن غازي “غفر الله له”.