مشيناها خطى كتبت علينا !

إن الاسكندر المقدوني بعدما هزم في بلادنا عام 331 قبل الميلاد كتب في رسالة لوالدته واصفاً مقاومة الأفغان: “بأنهم شجعان لامثيل لهم، إنهم يقاتلون كالأسود”. حقاً إنهم أسود، لأنهم شعب عتيد وعنيد يأبى الاحتلال بكل أنواعه، ويرفض الضيم والعتو، ولا يوالي من احتلَّ أرضه، وهذا ما ذكره شكيب أرسلان عن هذا الشعب الأصيل بقوله: (لا ينام على الثأر، ولا يقبل أن يطأ الأجنبي أرضه ولا يواطئ العدو على استقلال بلاده).
التاريخ يتحدث أن الإسلام دخل أفغانستان في نهاية القرن الأوَّل الهجري، السابع الميلادي، وفي منتصف القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، عمَّ الإسلام الديار الأفغانيَّة، مما كان له تأثير كبير وواضح على الحضارة هناك. وحكمت أفغانستان الجماعات التركيَّة من شرق فارس وآسيا الوسطى في الفترة الممتدَّة بين عامي 900م و1200م، وقد هاجم المغول أفغانستان بقيادة جنكيز خان في القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي، والتيموريُّون بقيادة تيمور لنك في القرن الرابع عشر الميلادي.
وتنافس كلٌّ من الصفويِّين من بلاد فارس، والمغول من الهند على حكم أفغانستان من منتصف القرن السادس عشر حتى أوائل القرن الثامن عشر الميلاديين، وقد غزت الجيوش البريطانيَّة أفغانستان سنة 1839م بهدف الحدِّ من التوسُّع الروسي في المنطقة؛ مما أدَّى إلى اندلاع الحرب الإنجليزيَّة الأفغانيَّة الأُولى التي استمرَّت حتى سنة 1842م، إلى أن تمَّ انسحاب القوَّات الإنجليزيَّة من أفغانستان، وقد ازداد التأثير الروسي بمحاذاة أفغانستان في منتصف القرن التاسعَ عشَرَ، مما دفع ببريطانيا لغزو أفغانستان مرَّة ثانية، لتندلع الحرب الإنجليزيَّة الأفغانيَّة الثانية عام 1878م.
قررت بريطانيا الإنسحاب في (6/1/1842م) وكان عدد جنودها آنذاك (4) آلاف جندي بريطاني وهندي وغيرهم من الجنود التابعين. وسلك البريطانيون طريق وادي (جكدلك) -بين كابل وجلال أباد- وأعمل المجاهدون فيهم السيوف، حتى إذا وصلوا (جندمك) كان قد بقي آخر جندي من الجيش وهو (الدكتور برايدون) الذي كان الناجي الوحيد ليخبر قومه مغبة الإصطدام بجنود الإسلام في بلاد الأفغان.
هذه البلاد استعصت بجبالها الوعرة وبعزائم شعبها الصامد على الإسكندر المقدوني؛ وهزمت الجيوش البريطانية التي كانت تمثل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس مرتين في القرن التاسع عشر؛ كما هزمت الجيش الأحمر السوفياتي في ثمانينيات القرن العشرين شرّ هزيمة.
وفي 7 تموز عام 1979، أرسل الاتحاد السوفييتي كتيبة جوية مع طواقمها في استجابة لطلب من الحكومة الأفغانية العميلة. وطلبات لاحقة من الحكومة العميلة تعلقت بشكل أوسع بأفواج بدل طواقم منفردة. ونتيجة لوضع أفغانستان والهجمات القوية من قبل المجاهدين، تدخل الإتحاد السوفييتي بقوات الجيش، رداً على طلب سابق من الحكومة الموالية لموسكو. وأبدى المجاهدون الأبطال مقاومة شديدة للجيش الأحمر، مما أدى إلى انسحابه بعد عقد من الزمن، وتحديداّ في فبراير 1989.
وفي السابع من أكتوبر من العام 2001، بدأت الحرب على بلادنا من قبل أمريكا وحلفائها، حرباً ضد أفغانستان المسلمة، وساندتها قوى المعارضة الأفغانية المرتزقة التي أطلقت على نفسها آنذاك اسم تحالف الشمال. وسقطت المدن الأفغانية تباعاً في أيدي قوات التحالف وتراجعت قوات الإمارة الإسلامية عن معظم المدن دون قتال. فسقطت مزار الشريف وهرات وكابل في 13 نوفمبر، وقندوز في 22 نوفمبر، وقندهار في 7 ديسمبر.
قامت الطائرات الأمريكية والبريطانية بقصف مُركّز وشامل ومكثف، فبدأت بقصف مطار كابل والعديد من مواقع المقاومة الإسلامية، وسقط نتيجة هذا الهجوم العديد من الشهداء المدنيين والكثير من الجرحى، وقد ألقت طائرات من طراز قاذفات «بي ـ 52» قذائفها وحممها، وشاركت حاملات الطائرات والمدرعات في الهجوم، وأطلقت صواريخ من طراز توما هوك وأدى ذلك القصف والهجوم لانقطاع الكهرباء عن العاصمة كابل، وانتشر الذعر والهلع حين سمع السكان هدير الطائرات ودوي الإنفجارات والمضادات الأرضية الأفغانية التي تصدت وقاومت هذه الطائرات المعتدية.
شنّت القوات الأمريكية وعشرات الدول المتحالفة معها عمليات قصف مكثف ومُركّز على المدن والقرى، واستخدمت القوات الأمريكية قذائف مزودة بأسلحة كيماوية، واستخدمت أيضاً في عملياتها العسكرية أسلحة محرمة دوليًا مثل القنابل العنقودية والانشطارية، كما استخدمت قنابل اليورانيوم، منتهكة أحكام القانون الدولي في وضح النهار.
إن المعركة بين الحق والباطل، وبين حزب الرحمن وحزب الشيطان، معركة قديمة، سبقت هذه الحياة البشرية على الأرض، فالحرب لا تهدأ ما دام هناك حق وباطل وخير وشر، وما دام الشيطان يحثّ أعوانه على إطفاء نور الله، ومقاتلة المؤمنين. ولمّا كانت الحرب بلاء الإنسانية، وفيها تسيل الدماء وتزهق النفوس وتواجه الشدائد والمكاره، فعلى المؤمن أن يدرّب نفسه على الصبر في الشدائد والمحن، والمؤمن المجاهد لا ينفد صبره على طول المجاهدة وإن حاول الأعداء إنهاكه وإضعافه، بل يظل أصبر من أعدائه وأقوى منهم في تحمل المصائب والمشاق، ولقد اثنى الله على الصابرين وأرشد المؤمنين إلى طريق السلامة من شر الكفار وكيد الأشرار بالصبر والثبات.

إذا سارت خطوب الدهر يوماً عليك فكن لها ثبت الجنان

حرب أمريكا والحلفاء تذكرنا بحرب الأحزاب حيث كانت في السنة الخامسة للهجرة النبوية الشريفة، وخرجت شرذمة من اليهود نحو كفار مكة ليأنّبوهم ويحرّضوهم على غزو المدينة المنورة، ومحاولة استئصال شأفة الإسلام، وقتل محمد صلى الله عليه وسلم، والتنكيل بأصحابه! ثم خرج الرهط يحمل الحقد والكراهية للمسلمين نحو غطفان ليكتمل عقد الأحزاب.
وتداعت الجموع وأقبل الشرّ بخيله ورجله، فخرجت من الجنوب قريش وكنانة وأهل تهامة، ووافاهم بنو سليم وخرجت من الشرق قبائل غطفان وكذلك خرجت بنو أسد. واتجهت الأحزاب الكافرة صوب المدينة حتى تجمّع حولها جيش عرمرم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل! جيش يزيد عدده على سكان المدينة رجالاً ونساءاً، صغاراً وكباراً! في جوع منهم شديد، وبرد وزمهرير، وعُدة قليلة، ولكن ما عند الأعداء ينفد وما عند الله خير وأبقى.
ولما أمر الله عز وجل بانجلاء الغمة وتفريج الكربة صنع أمراً من عنده، خذل به العدو وهزم جموعهم وفلّ حدهم، فاستجاب الله دعاء نبيه وبلغ الأمل وأذن بالنصر، وأرسل جنوداً من الرعب والريح قلبت قلوبهم وقدورهم، وقوّضت قوتهم وخيامهم ودفنت رحالهم وآمالهم، فلم تدع قدراً إلا كفأتها ولا طنباً إلا قلعته! ولا قلباً إلا أهلعته وأرعبته. وبعد معركة الأحزاب أزفت البشائر وأشرقت المدينة بنور نصر الله.
وعلى نمط مشركي الأمس، أعلن بوش الابن الحرب على أفغانستان المسلمة بمساندة كفار الأرض واليهود، وذلك بعد استرداد البلاد من احتلال الروس، وقد مضى أكثرمن ثلث قرن ونحن نخوض في الحروب التي لاهوادة فيها، وعلى غرار قول الشاعر:

مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها

لقد جهل الأعداء صلابة هذا الشعب، فالروس وحلف وارسو والأمريكيون وحلف الناتو اعتقدوا أنهم قادرون على التدخل في شؤون بلادنا وإرساء الديمقراطية الجوفاء وتشكيل حكومة موالية لهم على نحو ودّي، ليتمكنوا بعدها من الخروج في غضون عام أو شهور، ولكنهم وقعوا في مستنقع حرب استنزاف طويلة ومكلفة، وكنا في تلك الأحقاب نناطحهم، وتمثل أحد الخطباء يوماً في هذا الشأن بشعر الحافظ الشيرازي: (ګر تو نه مي پسندي تغير ده قضارا ) أي: إن لم تقبل فقم بتغيير القدر !.
مضت الأعوام والشهور، وقد ذقنا مرارة الحرب وسجالها، وهاهم قرروا الانسحاب في نهاية المطاف حاملين الخزي والعار والشنار وخسارة الرهان، وليس المعني بهذا أمريكا فحسب بل لقد لحق العار والشنار قوات التحالف الدولي وحلف الناتو ولله در الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال:

فكمْ ضقتَ ذرْعًا بما هِبْتَهُ فَلَمْ يُرَ مِن ذاك قَدْرٌ يُهــــابْ
وكمْ بَرَدٍ خِفْتَهُ مِن سحابٍ فعوفيتَ وانجابَ عنكَ السحابْ

نعم تورط الأمريكيون ومن غامر معهم بغزو بلدنا، وشرب كل شبر من أرضنا من دماء الغزاة والمعتدين، ففي هذا البلد هُزِم البريطانيون وكانت الهزيمة مؤشراً على انهيار امبرطوريتهم. وفي هذا البلد هُزِم الروس وكانت الهزيمة سبباً من أسباب انهيار النظام السوفيتي، واليوم جاء دور انهيار الغطرسة الأمريكية بإذن الله.
إن المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية من عسكريين و دبلوماسيين أصابهم العمى والعمة لأنهم كانوا يدركون جيداً تاريخ هذا البلد؛ ففي أواخر عام 2001م قال الجنرال (تومي فرانكس) قائد القيادة المركزية الأمريكية، مخاطـباً الوزير (دونالد رامسفيلد) : «لقد اتفقنا على أن لا ننسحب من البلاد مع وجود تشكيلات كبيرة من القوات التقليدية، ونحن لا نريد تكرار أخطاء السوفييت… هذه المنطقة احتضنت ثقافة الأبطال المحاربين الفخورين بصد الجيوش الغازية لأكثر من 2000 سنة». لكن بالرغم من ذلك، لم يتعظوا بمن قبلهم، ووقعوا في هوّة تترامى بهم أرجاؤها! وقد يجد الجبان ألف حلاً لمشكلته ولكن لا يعجبه سوى حل واحد منها ألا وهو الفرار!
و نظّم حلف شمال الأطلسي احتفالاً وداعياً يوم الأحد (28 ديسمبر/كانون الأول الماضي2014) في كابول بمناسبة انتهاء عملياته العسكرية التي استمرت 13 عاماً في أفغانستان، وكان الاحتفال صغيراً جداً وهادئاً، وقد حضره عدد من العملاء والمسؤولين الدوليين يُعدون على أصابع اليدين، وأنزلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو علم القوات الدولية «إيساف» واستبدلوه بعلم ما يسمونه “عملية الدعم الدائم” الذي يرمي إلى دعم وتدريب القوات الأفغانية العميلة، ولم يعلن الحلف عن تفاصيل هذا الاحتفال إلا في اللحظات الأخيرة تحسباً لوقوع هجمات من قبل المقاومة الإسلامية التي باتت تستهدف العاصمة بشكل شبه يومي في الأشهر الأخيرة.
وفي هذا السياق، صرّح باراك أوباما في كلمته التي ألقاها يوم 28 من ديسمبر 2014 بمناسبة انتهاء مهمة القوات الدولية في أفغانستان أسماها “نهاية مسؤولة”. نهاية مسؤولة أي الانسحاب بأقل الخسائر، لكن الحفل الصامت الخجول الذي أقامته قوات حلف شمال الأطلسي خلف جدران محصنة في كابل، لم يكن احتفال الأبطال المنتصرين.
يقول أحد الصحفيين بهذا الصدد: وإذا كانت “نهاية مسؤولة”، فالسؤال أين صرفت تريليون دولار؟ تقول دراسة أعدتها صحفية فايننشال تايمز مؤخراً أن الولايات المتحدة صرفت أكثر من تريليون دولار في أفغانستان، أي ما يقارب تسعة ملايين دولار كل ساعة على مدى ثلاثة عشر عاماً! رقم فلكي مهول كان يمكن أن يحول أفغانستان إلى سنغافورة!”.
ويضيف محمود رحماني قائلاً: “في نظر الكثير من المراقبين للشأن الأفغاني أن الولايات المتحدة اعتمدت بشكل أساسي على إقامة بنية سياسية تسعى لتحقيق مصالحها بغض النظر عن شرعيتها وقدراتها، فخلقت بذلك نظاماً سياسياً هشاً، وحوّلت أفغانستان إلى شركة مساهمة تقوم عليها شخصيات أفغانية طالما عُرِفت بالفساد وارتكاب جرائم حرب، كعبدالرشيد دوستم مثلاً الذي عُيّن نائباً للرئيس الأفغاني. يقول تقرير صدر في مارس 2014 عن مكتب المفتش العام لمشاريع إعادة الإعمار في أفغانستان المعروف اختصاراً بـ(سيغر) ويتبع الحكومة الأمريكية إن الاستراتيجية الأمريكية القائمة على التحالف مع أمراء الحرب ساعدت على انتشار الفساد المالي والإداري، حتى أن الجنرال جون ألين القائد السابق للقوات الأمريكية والناتو في أفغانستان وصف الفساد المالي والإداري في أفغانستان بأنه العدو الأول، ووفق تصنيف منظمة الشفافية العالمية تحتل أفغانستان اليوم المرتبة الرابعة من حيث الفساد المالي في العالم، فيما تقول تقارير الأمم المتحدة إن 1.2 مليار دولار ذهبت كرشاوى في أفغانستان خلال عام 2014 فقط، حيث يحتاج المواطن العادي لدفع 20% من دخله كرشاوى من أجل تسيير معاملاته اليومية. فيما احتلت أفغانستان المرتبة الأولى عالمياً في زراعة المخدرات، حيث تنتج أفغانستان وفق تقديرات الأمم المتحدة لعام 2014 ما نسبته 90% من المخدرات في العالم، والمثير هنا أن هذه التقديرات الدولية تؤكد أيضاً أن زراعة المخدرات ازدادت على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية أضعاف ماكانت عليه من قبل”.
هذه هي منحة الاحتلال، والتي نحسبها محنة، وقد كشفت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية النقاب عن حقائق مفزعة أخرى عن الحرب الأمريكية قائلةً إن الجيش الأمريكي الذي انسحب من أفغانستان ترك آثاراً دموية تتمثل في 800 ميل مربع من الأراضي التي نشرت فيها واشنطن قنابل وصواريخ وقذائف هاون لم تنفجر.
ونحن واثقون بما قاله الله تبارك وتعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا..) وفي تفسير هذه الآية وردت روايات منها أن المقصود بهذا النص يوم القيامة. حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل. كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال. وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحيان. يقول صاحب الظلال رحمه الله: “وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب، لأنه ليس فيه تحديد.
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد.. أما بالنسبة للدنيا، فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق. إنه وعد من الله قاطع. وحكم من الله جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين; وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة، ونظاما للحكم، وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة… فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.. وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها ! “.
قال ابن القيم رحمه الله: “و من ظن إزالة أهل الكفر على أهل الإسلام إزالة تامة فقد ظن بالله السوء”. وعلى مرّ العصور وتقلب الدهور قول الصادق (بشّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والتمكين).