ميلاد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم

أظلنا شهر ربيع الأول، ثالث شهر من شهور السنة الهجرية القمرية، وأطلت علينا بمقدمه ذكريات وأطياف يحبها كل مسلم، ويسعد بتذكرها كل مؤمن، ومن أعظم الأحداث التي حواها هذا الشهرالعظيم مولد نبي الرحمة وإمام الهدى صلى الله عليه وآله وسلم. ذاك المولد الذي كان إيذانًا بانتهاء عهد الضلال وابتداء عهد الهدى، وكان كالبشرى الفارقة بين عهد الظلام والشرك والوثنية، ومبدأ لعهد النور والتوحيد والعبودية.

لقد منّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم. قال أحد العلماء: “إن محمداً صلى الله عليه وسلم ظهر في وقت كان الناس محتاجون فيه إلى من يهديهم إلى الطريق المستقيم، ويدعوهم إلى الدين القويم، لأن العرب كانوا على عبادة الأوثان ووأد البنات، والفرس على اعتقاد الإلهين “يزدان” و”اهريمن”، والترك على تخريب البلاد وتعذيب العباد، والهند على عبادة البقر، والسجود للشجر والحجر، واليهود على الجحود ودين التشبيه وترويج الأكاذيب والمفتريات، والنصارى على القول بالتثليث وعبادة الصليب وصور القدّيسين والقديسات، وهكذا سائر الفرق في أودية الضلال، والانحراف عن الحق والاشتغال بالمحال، ولايليق بحكمة الله الملك المبين أن لا يرسل في هذا الوقت أحداً يكون رحمة للعالمين، وما ظهر أحد يصلح لهذا الشأن العظيم، ويؤسس هذا البنيان القويم غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فأزال بأمر الله الرسوم الزائغة، والمقالات الفاسدة، وأشرقت شموس التوحيد، وأقمار التنـزيه، وزالت ظلمة الشرك والوثنية، والتثليث، والتشبيه، عليه من الصلاة أفضلها ومن التحيات أكملها”.

وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة صبيحة يوم الإثنين الموافق الثاني عشر – على الأرجح – من شهر ربيع الأول عام الفيل الموافق لسنة 571 ميلادي.

 

سَرَت بشائرٌ بالهـــــادي ومولِـــدِه    

في الشرقِ والغربِ مسرى النورِ في الظُّلَمِ

 

لقد بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، على رأس الأربعين من عمره، فجاءه الوحي وهو يتعبد في غار حراء فأول ما نزل عليه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.

ويقول المؤرخون: إنه كان قبل البعث النبوي، قد وصل العصر إلى حافة الهاوية والفساد، واجتمعت فيه أسباب الظلم والعدوان والجور والطغيان، وانتهى إلى التدهور الديني والانحلال الخلقي والانحطاط النفسي والفساد الاجتماعي، والتفكك الاقتصادي والانتشار السياسي؛ كانت الأديان محرفة، والحركات هدامة، والأخلاق متفككة، والدماء سائلة، والحروب دامية، والسلطات جائرة، فلابد كانت الجماهير حائرة. كان زمن من أحط أدوار التاريخ بلاخلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي، وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها، وشدة في إسفافها، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده وقوة التمييز بين الخير والشر والحسن والقبيح.

وقد أصبحت المسيحية نسيجاً من تقاليد لا تغذي الروح، ولا تمد العقل، ولا تشعل العاطفة، ولا تنير السبل. واليهودية أصبحت مجموعة من طقوس لا روح فيها ولا حياة. والمجوس قد عُرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية أعظمها “النار”، وقد عكفوا على عبادتها. وكانت الأمم الأوروبية خاضعة لظلام الجهل المطبق، والأمية الفاشية، والحروب الدامية، وكانت بمعزل عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية، بعيدة عنها كل البعد، لا تعرف عن العالم ولا يعرف العالم المتمدن عنها إلا قليلاً. لقد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم.

في هذه الحقبة من الزمن ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس بعد بعثته إلى دين التوحيد، فصعد نجمه، وعلا أمره، وسما طرفه، واشتد عضده. ولما علمت قريش بإسلام فريق من أهل يثرب، اشتد أذاها للمؤمنين بمكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة إلى المدينة فهاجروا مستخفين.

نعم، بعد بيعة العقبة الثانية، أيقنت قريش أن المسلمين بالمدينة في عزة ومنعة فعقدت مؤامرة كبرى في دار الندوة للتفكير في القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستقرّ رأيهم على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتىً جلداً فيقتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم جميعاً فيتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعاً فيرضوا بالدية، وهكذا اجتمع هؤلاء على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، ينتظرون خروجه، فأذن الله لرسوله بالهجرة، فهاجر في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وكان بصحبته أبو بكر رضي الله عنه، فاختفيا في غار ثور ثلاثة أيام، والمشركون يطلبونهم من كل وجهة وصوب، حتى كانوا يقفون على الغار الذي فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر فيقول أبو بكر: يا رسول الله والله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا، فيقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) .

فلما سمع الأنصار بالهجرة، جعلوا يخرجون كل يوم إلى حرة المدينة، يستقبلون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى يردهم حر الظهيرة، فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إليهم هو أنور يوم وأشرفه، فاجتمعوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – محيطين به، متقلدين سيوفهم، وفيهم النساء والصبيان، وهنا حدّث ولاحرج عن سرور أهل المدينة، فكان يوم تحوله إليهم يوماً سعيداً لم يُروا فرحين بشيء كفرحهم برسول الله، وخرج النساء والصبيان ينشدون:

 

طلع البدر علينا  من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعــــا لله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

 

ودخل النبي صلى الله عليه وسلم قباء يوم الاثنين، 12 ربيع الأول، سنة 14 من البعثة في وقت الظهيرة.

وكل واحد يأخذ بزمام ناقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريد أن يكون نزوله عنده، وهو يقول: دعوها فإنها مأمورة، حتى إذا أتت محل مسجده اليوم بركت، وأصبحت المدينة المنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها معقل الإسلام ومشعل الهداية ومنطلق الدعوة إلى الله، ولله در القائل:

 

يا سيد الرسل طب نفسًا بطائفة باعوا إلى الله أرواحًا وأبدانا

قادوا السفينة فما ضلوا ولا وقفوا وكيف لا وقد اختاروك ربَّانا؟!

أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم والناس تزعم نصر الدين مجانا

أعطوا ضريبتهم صبرًا على محن صاغت بلالاً وعمارًا وسلمانا

عاشوا على الحب أفواهًا وأفئدةً باتواعلى البؤس والنعماء إخوانا

الله يعــــــرفهم أنصار دعوتــه والناس تعرفهم للخير أعوانا

والليل يعرفهم عُبَّاد هجعتــــــه والحرب تعرفهم في الروع فرسانا

يا رب نصرك، فالطاغوت أشعلها حربًا على الدين إلحادًا وكفرانا

 

وعندما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كان يسكنها المهاجرون والأنصار واليهود، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ في وضع الأسس التي تجعل من هذه الجماعات مجتمعًا قويًا متحدًا على أسس إسلامية ومبادئ دينية؛ فقام الرسول بالخطوات الآتية تحقيقًا لهذه الغاية:

– بناء المسجد – أي صلة الأمة بالله .

– المؤاخاة – أي صلة الأمة المسلمة بعضها بالبعض الأخر .

– والمعاهدة بين المسلمين واليهود – أي صلة الأمة بالأجانب عنها ممن لا يدينون بدينها

 

كان أول ما حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، هو بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، ولم يكن هدف الرسول صلى الله عليه وسلم إيجاد مكان للعبادة فقط؛ فالدين الإسلامي يجعل الأرض كلها مسجدًا للمسلمين، ولكن مهمة المسجد كانت أعمق من هذا، لقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبني بيتاً لله وبيتاً لجميع المسلمين، يجتمعون فيه للعبادة والمشاورة فيما يهم أمر الإسلام والدولة الإسلامية، ويتخذون فيه قراراتهم، ويناقشون فيه مشاكلهم، ويستقبلون فيه وفود القبائل وسفراء الملوك والأمراء من هنا وهناك، وبأسلوب العصر الحديث اتخذ مقراً للحكومة بالمدينة المنورة. وكان القرآن ينزل نجماً نجماً.

يقول أحد المفسرين: “والله لقد كانت فترة عجيبة حقاً تلك التي قضاها المسلمون في حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم ] فترة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً ظاهراً، مبلوراً في أحداث وكلمات. ذلك حين كان يبيت كل مسلم وهو يشعر أن عين الله عليه، وأن سمع الله إليه، وأن كل كلمة منه وكل حركة، بل كل خاطر وكل نية، قد يصبح مكشوفاً للناس، يتنزل في شأنه قرآن على رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم ]. وحين كان كل مسلم يحس الصلة المباشرة بينه وبين ربه، فإذا حزبه أمر، أو واجهته معضلة، انتظر أن تفتح أبواب السماء غداً أو بعد غد ليتنزل منها حل لمعضلته، وفتوى في أمره، وقضاء في شأنه. لقد كانت فترة عجيبة حقاً، يتملاها الإنسان اليوم، ويتصور حوادثها ومواقفها، وهو لا يكاد يدرك كيف كان ذلك الواقع، الأضخم من كل خيال!”.

وبعدما أتم الله به النعمة على المؤمنين، وبعد أن بلغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة، وترك الأمة على المحجة البيضاء، وأكمل الله برسوله صلى الله عليه وسلم الدين، اختاره الله لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فكانت وفاته صلى الله عليه وسلم، وكانت أكبر وأجلَ مصيبة، وكان ذلك يوم الإثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، من السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية، فكان عمره عليه الصلاة والسلام 63سنة .

توفي رسول الله وترك للمسلمين ما إن تمسكوا به لم يضرهم شيء: كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنته صلى الله عليه وأله وسلم. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].