وسطية الإسلام

أبو عبدالله

 

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: من مزّق المسلمين؟ ومن جعلهم في ركب التخلف عن الحضارة؟ فمن قائل: الاستكبار العالمي، ومن قائل اليهود، ومن قائل: أعداء الإسلام من الملاحدة وغيرهم، ولكن هل هذا صحيح؟ لاشك أنّ أعداء الإسلام كلهم متضافرون على محاربته ومحاربة الأمة الإسلامية وتدميرها وتمزيقها، وهذا موقف طبيعي لا تناقض فيه فهذه مصلحتهم، وهذا شأنهم.

ولكن ما يصنع هؤلاء كلهم لو كان المسلمون متمسكين بدينهم ومتّحدين؟! ماذا يفعل جرثوم المرض إذا كان الجسم سليمًا؟! إنّ المشكلة تكمن في داء عُضال أصاب المسلمين فأوهن قواهم، ودكّ معاقل القوّة لديهم، هذا الداء اسمه: (اللاوسطية) أو (انعدام الوسطية).

فهو السرطان الفتّاك الذي شلّ وحدة المسلمين، ومزّقهم كلّ ممزق، وجعلهم في مؤخرة الركب. وسببه الأكبر أننا نحن المسلمين، نحن أوجدناه واستغلّه الآخرون. نحن الذين جعلنا من الأشخاص أصنامًا، ومن المذاهب أديانًا، ومن الاختلاف خصومة، ومن المناظرة محاجرة، ومن الرحمة نقمة! ومن الذي صنع ذلك، إنهم المسلمون!

 

لو بغير الماء حلقي شرق *** كنتُ كالغصان بالماء اعتصاري

 

فالوسطية هي وسام شرف لهذه الأمة، وبها جعلها عز وجل شهيدة على النّاس من حيث لا تشهد عليها أمّة بل رسولها، هذه الوسطية ضاعت بين جانبي الغلو والانحلال، الإفراط والتفريط.

كلنا يتكلم عن الوحدة الإسلامية؛ فمن المتفرقون؟ وكلنا يتكلم عن الوسطية، فمن الغلاة؟

قيل: إنّ عبد الله بن المبارك كان يعظ في المسجد فتكلم في الخشية والمراقبة لله حتى أخذته والسامعين حالة من الخشوع والبكاء والذهول، فلما أفاق رأى المصحف الذي كان أمامه يقرأ منه ويفسّر قد سُرق، فقال لهم متعجبًا: (كلكم تبكون من خشية الله وليس في المسجد غيري وغيركم؛ فمن سرق المصحف؟!).

الواقع أننا يجب أن نبدأ من أنفسنا كلنا، بحيث نأطرها على الحق أطرًا. أن نبدأ من إصلاح العقل والقلب معًا؛ العقل بالوسطية، والقلب بمحاربة الأهواء وباطن الإثم.

فالكلام لديّ هنا ذو اتجاهين: اتجاهٍ ينبع من الفكر، واتجاه ينبع من الوجدان، وكلٌ منهما يكمل الآخر.

أمّا الاتجاه الأول: فهو خلاصة مكثفة جدًا، أجمل القول عنه في نقاط خمس:

  • التوسط الإسلامي (العدل بين الوجدانية والعقل، وملاءمته الموزونة بين الروحانية والمادية، والجماعية والفردية، وهو سر مثالية منهجه الخاص في الحياة علمًا وفهمًا وسلوكًا)، فهو نموذج للبشرية كافة مدعوة إليه غير محمولة عليه.
  • التوسط أصلٌ في كلي الشريعة وجزئيها، في الأصول والفروع والقواعد الفقهية الكلية وفي النّظام الاقتصادي.
  • نظرية النّسب أصل في التشريع الإسلامي، وذلك بين الأعمال والتكاليف، وهي أبرز أسس النظرية الوسطية الإسلامية وأهمّها.
  • التوسط في التشريع الإسلامي هو الأصل، والميل إلى أحد جانبي الزيادة أو النّقص في حكم تشريعي إن وجد فهو حالة استثنائية اقتضتها الضرورة أو الحاجة، لها أسبابها، وتزول بزوال تلك الأسباب.
  • كل إفراط أو تفريط، غلوّ أو تساهلٍ وانحلال، مرفوض شرعًا وليس من الإسلام ولو عدّ منه، فالمنهج النّبوي الواجب اتباعه على الأمة القصد: “خير الأمور أوساطها”.

وأما الاتجاه الثاني فهو (وسطية الأمة الإسلامية) في غابر الأمة وحاضرها:

  • فإذا كانت الأمة الإسلامية في التعبير النبوي الكريم: “أهل يثرب ومن يلحق بهم أمة واحدة من دون النّاس”. فوسطية الأمة الإسلامية هي: ( كونها خيارًا عدولا مزكيين بالعلم والعمل)، فالوسط هو العدل.

فهذا الجعل إناطة للتبعة، وتعويل وتخويل، وإعداد للهمّة، وحفز للهمة، فهي وسطية حضارية، وشهادة دنيوية وأخروية.

  • هذا في غابر الأمة الإسلامية يوم كانت خير أمة أخرجت للناس، يوم كانت أمة وسطا. أما الأمة الإسلامية في حاضرها فهي مدعوة للتوسط اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأنه لا سبيل إلى بقائها إلا بوحدتها، ولا سبيل إلى وحدتها إلا بوسطيتها الأولى.
  • ولكن هل يكفي أن تكون الوسطية قائمة في التشريع الإسلامي، وفي غابر هذه الأمة، وسلفها الصالح، حتى تمارس الأمة اليوم وسطيتها؟!

هل يُغني أن تكون الشمس مشرقة قد ملأت الأفق حتى يراها النّاس؟ فإذا كان أحد النّاس أعمى، أو داخل غرفة مظلمة أوصد بابها ونوافذها، فكيف يرى الشمس؟!

هل يكفي ظهور الحق وحده حتى يرجع النّاس إليه؟

أفليست وحدة الألوهية ظاهرةً، فلماذا يشرك بعض النّاس أو يلحدون؟!

أفليس الإنسان يعرف عبوديته لله حق المعرفة وهي هُويته، فلماذا يدّعي أحيانًا الربوبية، بلسان الحال أو المقال؟!

ليس كل حق زعيمًا أن يرجع الناس إليه، ولو ظهر ظهور الشمس في رابعة النّهار.

  • لقد تفقهت الأمة الإسلامية في غابرها التوسط تفقّها جعلها وسطًا، كما تقول في الرجل العادل (العدْل)، بل تحققت بهذا التوسط؛ وذلك ضمن شقين: التصور والسلوك. وأقصد بالتصور: الفهم الكلي، وأقصد بالسلوك التطبيقَ العملي. فكان كلٌ من تصورها وسلوكها وسطًا. ففي التصور: يقول سيدنا علي رضي الله عنه وكرم وجهه: (خير النّاس هذا النمط الأوسط، يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي). ولقد تجلى ذلك التصور الصحيح للوسطية في السلف الصالح في كلام فقهائهم وعلمائهم؛ فيقول العلامة أبو إسحاق الشاطبي النجمي الغرناطي في الموافقات: (الوسط معظم الشريعة وأم الكتاب).
  • وأما السلوك فكان السلف رضي الله عنهم أكثر النّاس تمسكا بهذا الأصل، وهو التوسط بلا غلو ولا انحلال، تشهد بذلك سيرتهم وحياتهم من أخذ بأصول الخلاف العلمي وآدابه، وبالخُلُق الإسلامي الرفيع.

كانوا يختلفون ولا يتخاصمون، يرجعون إلى الحق إذا ظهرت لهم أماراته، لا ينتسبون إلى شيء إلا إلى الإسلام والإسلام وحده.

كان كل واحد منهم قرآنًا ناطقًا، كانوا ربانيين كما أمرهم الله تعالى في التنزيل، فلم يضلوا إلى غلوّ أو انحلال.

وهل السلوك إلا مرآة للتصور؟ فإن كان التصور صحيحًا كان السلوك كذلك، وإلا فذاك. وهل الأمة في مرحلة السلف الصالح إلا فهم كامل، وتطبيق كامل للإسلام؟

وليس السلف بمعصومين ولا بأنبياء، فهم بشر يصيبهم الضعف البشري، وتزلّ أقدامهم أحيانًا إلى فهم خاطئ أو سلوك خاطئ، لكنهم سرعان ما يرجعون إلى الحق والخط العريض للإسلام عند أول تذكير.

فقصة سيدنا عمر مع العجوز التي لم ترضَ منه تحديد المهور واستشهدت بالآية القرآنية: وآتيتم إحداهنّ قنطارًا، قائلة: أيعطينا الله وتحرمنا أنت يا عمر؟! فنزل من على المنبر قائلا: كل الناس أفقه منك يا عمر حتى العجائز!!

  • ولكن ما هي أسباب هذا الغلو والانحلال في المسلمين مما أفقدهم وسطيتهم المباركة، ووحدتهم المنشودة؟! أرى ذلك يظهر في واحد من سببين أو من كليهما:
  • الجهل بحقائق الإسلام والاكتفاء منه ببعض أحكام العبادات وما إلى ذلك.
  • والتعصب الممقوت للمذهب أو للفئة أو للجماعة أي ( للذات).

والدواء ينحصر في العلم الصحيح المأخوذ بالمناقشة عن الأشياخ العلماء الجهابذة، وفي أدب العلم، فالعلم وحده لا يكفي، بل لابد معه من أدب المناظرة والبحث العلمي وأخلاق العلماء، ولا يكون ذلك إلا بالصحبة.

 

أوردها سعد وسعد مشتملْ *** ما هكذا يا سعد تورد الإبلْ

 

إني فهمت الإسلام على أنه دين العلم والأخلاق معًا مصداقًا للحديث الشريف: «إنّما بعثت بالعلم، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

فكل قضية لا تخضع لمنهج العلم الإسلامي، وللأخلاق الإسلامية، فليست من الإسلام، كما أنّها ليست علمًا ولا أخلاقًا.

الأمة الإسلامية كما فهمتها جماعة واحدة وكل من يفرقها جماعات ويتحزب لواحدة دون أخرى بالغلوّ والتعصب، لم يفقه الإسلام، ولم يعرفه.

ألا ما أحوجنا – نحن طلاب العلم الشرعي اليوم- إلى أدب العلم وأخلاق العلماء.

وأخيرًا لا بد من كلمة أسوقها للعلامة ابن القيم رحمه الله: ( الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل).

  • ولكن هل يأذن لكم أعداء الله ورسوله بممارسة وسطيتكم؟

أبدًا لن يأذنوا لكم بذلك؛ لأنه سر وحدتكم، وسبب بقائكم زاتحادكم، بل وانتصاركم عليهم. إنهم يدسون لكم وبينكم الخلافات المصطنعة ليلفتوكم عن هذه الوسطية إلى الغلوّ والتطرّف، فترجعوا بعد نبيكم كفارًا يضرب بعضكم أعناق بعض.

ولكن أنتم المسؤولون عن ممارسة وسطيتكم التي هي أعظم خصائصكم، كما أنكم مسؤولون عن بقائكم فيها تتوحدون، وبها تسمون وتبقون وتسمقون وتنتصرون، وإنه لجهاد في النّفس والهوى.