وقفات أمام غزوة بدر

نحن في شهر مبارك شهر رمضان العظيم، شهر تجدد الذكريات وعهود الطهر والصفاء، الشهر الذي فيه العطاء والرحمة والرأفة والحنان، فيه العفة والنقاء، شهر المواساة والطاعات بأنواعها، له في نفوس الصالحين بهجة وفي قلوب المتعبدين فرحة، وحسبه من فضائله أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. في هذا الشهر المبارك تتجلى نفوس أهل الايمان بالانقياد لاوامر الله وهجر الرغبات و الشهوات، و لاشك أن في النفوس تكون دوافع الشهوة، وفي الصدور دوافع الغضب والانتقام، وفي دروب العمر خطوب ومشقات ولا دافع لكل ذلك إلا بالصبر والمصابرة وأن هذا هو شهر الصبر والمصابرة والصيام والرحمة والانعام. اللهم تقبل منا الصيام والقيام وجميع الأعمال الصالحة واجعلنا من عتقائك من النار يا رب العلمين.
عندما نقرأ الوقائع المهمة لهذا الشهر في أحقاب الدهر فإنّا نجد في غزوة بدر الكبرى انتصار الحق وهزيمة الباطل، وفي شأن هذه الغزوة نتصفح  في ظلال القرآن ونقرأ فيه: ” لقد أراد الله – وله الفضل والمنة – أن تكون (غزوة بدر) ملحمة لا غنيمة; وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. وأراد أن يقطع دابر الكافرين، فيقتل منهم من يقتل، ويؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت. وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف – تعالى الله عن الجزاف – وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال.
أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة; وأن تصبح دولة; وأن يصبح لها قوة وسلطان. وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها. فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد، إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد. وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي. ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله; ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة; ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد. وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان.
وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها. بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير. ينظر فيرى الآماد المتطاولة; ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم; وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى. بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال!
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي – لو كانت لهم غير ذات الشوكة- قصة غنيمة. قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة. قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل. قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد; والحق في قلة من العدد، وضعف في الزاد والراحلة. قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي. بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها، قد انتصرت على نفسها، وانتصرت على من فيها، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل; فقلبت بيقينها ميزان الظاهر; فإذا الحق راجح غالب.
ألا إن غزوة بدر -بملابساتها هذه- لتمضي مثلاً في التاريخ البشري. ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة; وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة، الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية، ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها. فهي آية من آيات الله، وسنة من سننه الجارية في خلقه، ما دامت السماوات والأرض. ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض -بعد ما غلبت عليها الجاهلية- لجديرة بأن تقف طويلاً أمام [ بدر ] وقيمها الحاسمة التي تقررها; والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم.  إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع، قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر. ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة، ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض، وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض، تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية.
لقد كانت غزوة بدر -التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده- فرقاناً، فرقاناً بين الحق والباطل -كما يقول المفسرون إجمالاً-  وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً، كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً، ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء، الحق الذي يتمثل في تفرد الله -سبحانه- بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله: سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك، والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك; ويغشي على ذلك الحق الأصيل; ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!، فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر; حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي; وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان!
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد: كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير، فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية; وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات،.
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك، فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات. وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه، فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله; وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه; وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة.
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني، ونظاما جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدولة، بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير “الإنسان” في “الأرض” بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته، الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد. لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم. ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد، والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة; وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً; ثم في حياة البشرية كلها أخيراً، وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله.
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية، فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام، هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام. وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور. وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان. وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء، هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد. إنما صار – شيئا ًفشيئا- ملكاً للبشرية كلها; تأثرت به سواء في دار الإسلام أم في خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته!، والصليبيون الذين زحفوا من الغرب، ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه; وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم، بعدما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي ! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه – بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام ! – قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية; وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة; وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا!”.