وقفة مع أمين هذه الأمة

أبو غلام الله

 

حديثنا في هذا المقال عن أحد السابقين الأولين، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن عزم الصديق على توليته بالخلافة، وأشار به يوم السقيفة لكمال أهليته عنده، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة أيضًا، وكان يُدعى القويُّ الأمينن. هل عرفتم من أقصد؟ نعم؛ أقصد أبا عبيدة عامر بن عبدالله بن الجرّاح رضي الله عنه.

شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة؛ فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ”. {رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني واللفظ لأحمد} .

وروى الترمذي وابن ماجة بإسناديهما إلى عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت ثم أبو عبيدة بن الجراح.

وفي هذا بيان فضيلة لأبي عبيدة وهي أنه كان أحد الذين هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان رجلاً نحيفاً، معروق الوجه، خفيف اللحية، طُوالاً، أحنى -منعطف نحو الصدر- أثرم الثنيتين، ووصف بحسن الخلق، وبالحلم الزائد والتواضع.

وكان أَحد الأُمراءَ المسيرين إِلى الشام، والذين فتحوا دمشق، ولما وُلي عمر بن الخطاب الخلافةَ عزل خالدَ بن الوليد واستعمل أَبا عبيدة، فقال خالد: وُلِّي عليكم أَمينُ هذه الأُمة وقال أَبو عُبيدة: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: “إِنَّ خَالِدًا لَسَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله”.

وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم جميع المعارك، بدءاً بغزوة بدر، حيث قيل أنه قتل أباه، فنزل فيه قول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة 22].

وجاء في سير أعلام النبلاء: حدثنا أبو حسبة مسلم بن أكيس مولى ابن كريز، عن أبي عبيدة قال: ذكر لي من دخل عليه فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ قال: يبكيني أن رسول الله ﷺ ذكر يوما ما يفتح الله على المسلمين حتى ذكر الشام، فقال: (إن نسأ الله في أجلك فحسبك من الخدم ثلاثة: خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك. وحسبك من الدواب ثلاثة: دابة لرحلك، ودابة لثقلك، ودابة لغلامك. ثم ها أنذا أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقا، وإلى مربطي قد امتلأ خيلا، فكيف ألقى رسول الله ﷺ بعدها وقد أوصانا إن أحبكم إلي وأقربكم مني من لقيني على مثل الحال التي فارقتكم عليها.

وقال ابن المبارك في الجهاد له عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: بلغ عمر أن أبا عبيدة حصر بالشام ونال منه العدو، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه ما نزل بعبد مؤمن شدة إلا جعل الله بعدها فرجا، وإنه لا يغلب عسر يسرين “يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا” [الآية آل عمران 200]. قال فكتب إليه أبو عبيدة: أما بعد، فإن الله يقول: “إنما الحياة الدنيا لعب ولهو” إلى قوله “متاع الغرور” [الحديد 20]. قال فخرج عمر بكتابه فقرأه على المنبر، فقال يا أهل المدينة إنما يعرض بكم أبو عبيدة أو بي، ارغبوا في الجهاد.

وفي الزهد لابن المبارك حدثنا معمر عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: قدم عمر الشام فتلقاه الأمراء والعظماء. فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ قالوا: يأتيك الآن. قال: فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه، ثم قال للناس: انصرفوا عنا. فسار معه حتى أتى منزله، فنزل فيه، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله. فقال له عمر: لو اتخذت متاعا أو قال شيئا. فقال يا أمير المؤمنين إن هذا سيبلغنا المقيل.

عن نافع عن ابن عمر أن عمر حين قدم الشام قال لأبي عبيدة: اذهب بنا إلى منزلك. قال: وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي، قال: فدخل فلم ير شيئا. قال: أين متاعك، لا أرى إلا لبدا وصحفة وشنا وأنت أمير، أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك إنك ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين، يكفيك ما يبلغك المقيل. قال عمر: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة. [أخرجه أبو داود في سننه من طريق ابن الأعرابي]. وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيرا معدما.

عن مالك أن عمر أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف أو بأربع مئة دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع بها. قال: فقسمها أبو عبيدة. ثم أرسل إلى معاذ بمثلها، قال: فقسمها إلا شيئا، قالت له امرأته: نحتاج إليه. فلما أخبر الرسول عمر قال الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.

وعن عمر بن الخطاب أنه قال لأصحابه تمنوا. فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبا انفقته في سبيل الله عز وجل. ثم قال تمنوا. فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا أو جوهرا أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق به. ثم قال تمنوا: فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أن هذا الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح. (صفة الصفوة).

 

اتَّفق المؤرِّخون على أنَّه مات سنةَ ثمانِ عشرة في طاعون عَمَواس – و«عَمَواس» قريةٌ بالشام بين الرَّملة وبيتِ المقدس – وهو ابن ثمانٍ وخمسين سنةً.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد أن يستبقيه، قال أبو موسى الأشعري: «كنَّا مع أبي عُبيْدةَ بنِ الجرّاح وإنَّ الطاعون وقع بالشام، وإنَّ عمرَ كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فإنِّي أعزمُ عليك: إن أتاك مُصبِحًا لا تُمسي حتى تركبَ، وإن أتاك مُمسيًا، فلا تُصبحْ حتى تركبَ؛ فقد عرضتْ لي حاجةٌ إليك، ولا غنى بي عنك.

فلمّا قرأ أبو عُبيْدةَ الكتاب، قال: قد عَرَفنا حاجتَه؛ إنَّ أمير المؤمنين أرادَ أن يستبقيَ من ليس بباقٍ! فكتب إليه: إنِّي في جُندٍ من المسلمين، وأنا لا أرغبُ بنفسي عنهم، فحلِّلني من عزيمتِك يا أمير المؤمنين.

فلمّا قرأ – رضي الله عنه – الكتاب بكى، فقيل له: أتوفيَ أبو عُبيْدةَ؟ قال: لا، وكأنْ قدِ.

ولما دفن -رضي الله عنه- خطب الناس معاذ بن جبل خطبة بين فيها الكثير من فضائل أبي عبيدة.

وذكر أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد المقبري قال: لما طعن أبو عبيدة قال: يا معاذ صل، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح. فقام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً، فإن عبداً لله يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له. ثم قال: إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبداً قط أقل غمزاً ولا أبر صدراً ولا أبعد غائلة ولا أشد حباً للعاقبة ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه رحمه الله، ثم أصحروا للصلاة عليه، فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً. فاجتمع الناس وأخرج أبو عبيدة وتقدم معاذ فصلى عليه، حتى إذا أتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس فلما وضعوه في لحده وخرجوا شنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل: يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلا أخاف أن يلحقني بها من الله مقت كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين.