4 قواعد قرآنية لخلاص المؤمنين مما هم عليه من ضعف وضياع – الحلقة 2

تناولنا في الحلقة الأولى (في العدد 125) أول القواعد القرآنية لخلاص أمة الإسلام من حالة الضعف والضياع التي أحاطت بها من كل جانب في هذا الزمن، كما بيّنها د. محمد راتب النابلسي. وفي هذه الحلقة سنتناول -بإذن الله- القواعد الثانية والثالثة والرابعة، عسى أن ننتفع ونعمل بها في حياتنا، فيتغيّر حالنا ويتبدّل إلى الأحسن وإلى ما هو مُؤمّل منا، ونعود إلى مكانتنا الأصلية في مقدمة الأمم، قائدين لا مقودين.

 

القاعدة القرآنية الثانية للخلاص من حالة الضعف هي: أن تفحص دينك هل هو دين طاعة وانقياد لله أم أنه دين مظاهر؟

﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ [سورة النور: 55].

دينهم الذي ارتضاه لهم، والذي وعدهم بتمكينه مقيد بأنه ارتضاه الله لهم. فإن لم يمكنهم معنى ذلك أن دينهم لم يرتضيه الله لهم، يوجد دين أساسه المظاهر، دين أساسه الطرب، دين أساسه الولائم، دين أساسه النزهات، دين أساسه الألقاب العلمية العالية، يوجد مظاهر دينية صارخة لكنها شيء، والدين شيء آخر. مثلاً: يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [سورة آل عمران: 19]. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهَ﴾ [سورة آل عمران: 85]

لو تعمقت في فهم هذه الآية: أي حقيقة الدين عند الله هي أن تسلم وجهك لله… الإسلام الانصياع لمنهج الله، الانقياد لله. والإنسان حينما ينقاد لهوى نفسه وينقاد لشهوته، حينما يتعصب لقومه، حينما يقف جنب عائلته، حينما يؤثر هواه على طاعة ربه، هذا لا يستحق أن يكون دينه ديناً ارتضاه الله له!

اقرؤوا تاريخ الصحابة سيدنا ابن رواحة أرسله النبي لتقييم تمر خيبر تنفيذاً لاتفاق بين النبي وبين يهود خيبر. اليهود أغروه بحلي نسائهم، فلعله يخفض تقييم التمر، فقال هذا الصحابي الجليل: جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم عندي أبغض إليّ من القردة والخنازير ومع ذلك لن أحيف عليكم، فقال اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض، وبهذا غلبتمونا.

 

أيها الأخوة، مرة ثانية حينما نحكم شرع الله في حياتنا كلها يمكن أن ننال عطف الله عز وجل وتأييده ونصره، فالآية الثانية: ﴿لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ [سورة النور: 55]

ابحث في دينك، هل هو دين مظاهر؟ قد تجد إنساناً يوم الجمعة يتزين بزي إسلامي ويتعطر وفي جيبه السواك ومعه السبحة وينطلق إلى المسجد، مظهر رائع، لكن ماذا فعل في سهرة الخميس؟ ماذا كان يفعل؟ ماذا كان يتابع؟ ماذا فعل حينما زار أقاربه؟ هل كان هناك اختلاط؟ ماذا فعل حينما دعا أصدقائه؟ كيف يكسب ماله؟ كيف يبيع الحاجة؟ أيقسم أيماناً كاذبة؟ هنا المشكلة، البند الأول: أن تدع كل شهوة لا ترضي الله، وأن تحكم اتصالك بالله. والبند الثاني: أن تفحص دينك هل هو دين طاعة ودين انسياق وانقياد لله أم أنه دين مظاهر؟

هناك مظاهر دينية لا تعد ولا تحصى وكلها تأخذ بالألباب، ألبسة فخمة جداً وألوان باهرة وأبنية شاهقة وأعمدة وما إلى ذلك، وكتب مذهبة، هذه المظاهر عند الله لا تقدم ولا تؤخر، الله عز وجل لا ينظر إلى صورنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، يوم القيامة: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [سورة الشعراء:88-89]

 

هناك من يقول: أنا ديّن. لا شك أنت دين، أنت من رواد المساجد ومحسوب على المسلمين، لكن يا ترى هل دينك دين مظاهر أم دين حقائق؟ دين علم أم دين تقليد؟ دين عبادة أم دين إخلاص للعبادة؟ والحديث في الدين، صار عندنا مصطلح جديد، أنا أعجب، اسمه إسلام المجالس! مادامت النظم الوضعية كلها قد انهارت وأصبحت في الوحل لم يبقى إلا الدين، فكل الناس يتحدثون بالدين، يتصدر المجلس ويقول: أنا برأيي الإسلام مرن، الإسلام دين لا جمود فيه هذا تزمت، يريد أن يبيح لنفسه كل الشهوات باسم عدم التزمت، ودين مرن. فصار كل إنسان يتصدر ويتحدث عن الإسلام، والإسلام منه بريء.

سمعت ذات مرة عن محامي أقام ثماني دعاوى كيدية كلها باطلة، فلما قدم له كأس شاي قال: أنا صائم اليوم! لأن اليوم اثنين. تجد مظاهر وأعمال من أجل أن تستقطب مشاعر الناس، لكنك لست في المستوى الحقيقي.

إذن البند الثاني هو أن تبحث عن دينك هل هو دين يرتضيه الله أم لا؟ العالم كله أديان، هل يوجد إنسان ما عنده دين؟ حتى الذي يعبد من دون الله أوثاناً هذا اسمه ديّن، عنده شعور بالخوف. الدين تلبية حاجة طبيعية في الإنسان. الإنسان خلق هلوعاً وضعيفاً وعجولاً، كُتب عليه الفناء والموت، فأنت تلاحظ الإنسان حينما يقترب من الستين أو من الخامسة والخمسين يفكر بالدين، كل الناس حتى الذي كان ملحداً، حتى الذي كان إباحياً، حينما يدنو من حافة القبر يفكر، لعله يصلي في آخر وقته، لعله يفعل شيئاً، معنى هذا الدين حاجة طبيعية، وكل إنسان عنده دين بمفهومه، يوجد تسعمئة مليون بالهند بين بوذيين وبين هندوس وبين سيخ وكلها أديان وثنية، وبالعالم الغربي أديان عبارة عن مظاهر، وقد يسأل أحدكم هذا السؤال: ما سر كثرة هؤلاء الأتباع لدين وضعي لا أصل له؟ دين كله طقوس لا تكاليف فيه، فيه إعلان ولاء فقط، والولاء سهل، أنت أعلن ولاءك لإنسان قوي؛ يحبك وتأخذ ميزات كثيرة، وأنت تؤذي الناس جميعاً. إلا أن الولاء لله وحده يقتضي أن تحسن إلى عباده كلهم، عظمة الإيمان لن يقبلك الله إلا إذا كنت مستقيماً محسناً.

عندما فتح الفرنجة القدس كم مسلم ذُبحوا؟ سبعون ألف مسلم ذُبحوا في يومين! عندما فتح سيدنا صلاح الدين القدس ماذا فعل؟ سمح لكل ساكني القدس من غير المسلمين أن يخرجوا ويحملوا على دوابهم كل حاجاتهم، وأن يبيعوا حاجاتهم لمن يشاؤون، والمسلمون اشتروا منهم بعض الحاجات بأثمانها ولم يظلموهم، بل إن هذا القائد الفاتح سيدنا صلاح الدين جاءته امرأة فقدت ابنها فوقف ولم يجلس حتى أعادوا لها ابنها. هذا الدين الذي ينصره الله عز وجل، لكن معقول أن تكون بمكان تسمع شتائم الدين مثل التسبيح، لأتفه سبب يسب الدين، كيف سينصرنا الله؟

أنا أقول لكم: يوجد مشكلة كبيرة جداً، إما أن تُحل جماعياً وإما أن تُحل فردياً، هناك تخلٍّ من الله عنا، أنا لا أعتقد أنه مرّ على هذه الأمة وضع أصعب من هذا الوضع حيث الضعف والتخاذل والتفرقة والتشرذم، وهذه كلها بسبب بعدنا عن الله عز وجل.

 

القاعدة الثالثة: أن نصبر عن الشهوة الحرام وعلى طاعة الله وعلى قضائه وقدره

قال تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ*فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [سورة إبراهيم: 46-47]. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ [سورة آل عمران: 120]

إذا كان خالقنا يطمئننا لمجرد أن نتقي الله وأن نصبر هذا المكر الذي تزول منه الجبال ينتهي. المسلم الآن يشعر قريباً من اليأس: لا أمل، ضعاف، هناك أسلحة فتاكة، وهناك أقمار صناعية، وقنابل نووية، هناك إحكام في الإصابة على الكومبيوتر، هناك طائرات، هناك حاملات طائرات، هذه كلها قوى الكفر، قوية جداً وبطاشة. لكن ما خطر في بالنا مرة كيف نعتصم بالله؟ معقول نعتصم بالله عز وجل ثم لا نرى آياته الوهّاجة!؟

﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ [سورة سورة آل عمران: 120]

أنا علي أن أصبر، وعلي أن أتقي الله أي أن أطيعه، وأن أصبر عن الشهوة الحرام، وعلى طاعة الله، وعلى قضاء الله وقدره، هذا هو البند الثالث.

 

القاعدة الرابعة: غيّر ليغيّر

البند الرابع هذا موضوع يسمونه ساخناً، المشكلة الآن مهما كان الموضوع الديني مغرياً، لكن يوجد حولنا موضوعات ساخنة ترى نفسك مشدوداً إليها، فلا بد من أن يرى المؤمن ما حكم الشرع فيما يجري، ما حكم الشرع فيما نحاط به؟

البند الرابع أيها الأخوة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [سورة الرعد: 11].

آية عملاقة، آية فيها الخلاص: غيّر ليغيّر. كن جريئاً، اذهب إلى بيتك، تفحّص بيتك هل فيه معصية؟ تفحّص عملك هل فيه مال حرام؟ هل هناك مال اكتسبته بالكذب والمبالغة، بالاحتيال، بإخفاء المعلومات؟ بضاعة بعتها بصفات ليست فيها؟ بضاعة بعتها ونسبتها لبلد مصنّع وهذا النسب غير صحيح؟

أنا أرى أنه لا يوجد إنسان يُصاب بمشكلة إلا ويجب أن يفكر من أين جاءتني هذه المشكلة؟ من خلل. الله عز وجل مستحيل وألف ألف مستحيل أن يسوق مصيبة بلا سبب. قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [سورة الشورى: 30].

والله أخ من أخواننا والله أنا أحبه، بعمله التجاري ارتكب مخالفات فتراجعت تجارته، تراجعت ترَاجعت لدرجة كاد أن يعلن إفلاسه، فزارني، فسألته عن وضعه في العمل، فبيّن لي، فقلت له: ما الشيء الذي فعلته مخالفاً للشرع دعه فوراً، وكلمة (دعه) تكلّفه مبالغ كبيرة. الرجل انصاع لأمر الله، وترك هذا الشيء، وعاد لما كان عليه قبل أن تزلّ قدمه، والله غيّر معاملته.

يجب أن تشعر بشكل صارخ أنه إذا غيّرت أنت فالله يغيّر، ولمجرد أن تنعقد توبة بينك وبين الله ستجد أن الأمور كلها تغيرت، في بيتك وعملك وصحتك وعلاقاتك ونجاحك. الله عز وجل ينتظرك. وقد ورد في بعض الآثار: يا داوود لو يعلم المعرضون انتظاري لهم وشوقي لترك معاصيهم لتقطّعت أوصالهم من حبي، ولماتوا شوقاً إلي، هذه إرادتي في المعرضين فكيف بالمقبلين؟!

أنت كطالب علم من حين لآخر خصّص في برنامجك اليومي وقتاً للصلاة، ووقتاً للذكر، عندك نقطة ضعيفة هذه تتوب منها، هذه غيِّرها، عندك تقصير لمجلس العلم، خصّص برنامجاً لمجلس العلم، احضر أكبر عدد من هذه المجالس، حتى الله عز وجل يجدك غيّرت فيغيّر.

نحن في زمن الفتن، وفي زمن الشبهات والشهوات، وفي زمن القهر، المسلمون في العالم يحارَبون في أي مكان، ولا يوجد خبر سار متعلق بالمسلمين، إحباطات متتالية، يكاد هذا الإحباط ينقلب إلى يأس، يجب أن نتحرك، نبدأ مع الله عز وجل، ومهما ابتغينا حلاً أرضياً، لا يوجد حل أبداً بقناعتي، ما من يوم إلا والذي بعده أشر حتى تقوم الساعة. أما الحل السماوي؛ فهو أن أغير كل منهجي وكل سلوكي وأن أغير كل علاقاتي، حتى ينصرني الله عز وجل على الطرف الآخر.