أفغانستان بين احتلالين: عسكري وفكري

بقلم: الدكتور بنيامين

إن المسلم یتألم بألم أخیه ولو كانت المسافة بینهما شاسعة، لاسیما إذا رأی المسلم أخاه وشعبه یشردون ویقتلون أمام أعینه. مشهد مصرع طفل يلفظ أنفاسه الأخیرة علی مرأی والدیه، مشهد مصرع سیدة أفغانیة في سجون المیلیشیات الحاقدة، مشهد حیرة رجل يحمل جثة والدته العجوز بعد قصف الاحتلال لقریته؛ مشاهد لا يستطیع القلب أن لا يخفق لها. وكل نفس فیها أدنی إنسانیة تقشعر للمأساة الواقعة علی المسلمین في عصرنا، خاصة الأزمات التي تتوالی علی البلاد الأفغانیة.
إن الإسلام ينهى عن قتل إنسان بريء ولو كان علی دیانة باطلة، كما أن الصمت أمام جرائم الاحتلال الظالم من الأمور المذمومة في الإسلام. ولقد حرّم الله تعالی الركوع لغیره مهما كانت قوته وتفوق عسكره.
الأمريكان فشلوا في تحقيق ماغزوا البلاد الأفغانیة لأجله حتی الآن؛ لأن الشعب الأفغاني لم يركع لهم ولم يخضع، وهذا الصمود إذا استمر (وسيستمرّ بإذن الله) ستتحول كل الأزمات والمشاهد المرعبة التي أحدثها الناتو والحلف الغاشم والملیشیات والعملاء إلی ذكریات مریرة فحسب، وسیكون للنصر ودحر الاحتلال ذكریاته وأثره الفائق علی الشعب الأفغاني. ولكن المهم علی الشعوب المستضعفة الصمود والعبرة من الأزمات الجاریة والتخطیط المؤثر للبحث عن الأسالیب الجدیدة لصنع المستقبل وتحديد المصیر حتی لا يكونوا ضحايا خداع الغرب.
إن الاحتلال، والعملاء، وعدم تطبیق الشریعة، وغياب الحریة الشرعیة؛ من أزمات الشعب. والأزمة الدائرة في أفغانستان تختلف عن أزمات بلاد المسلمين الأخرى بأمرین:
الأول: أن الشعب الأفغاني عانی من الاحتلال على مرّ العصور المختلفة، تعرض خلالها لحوادث مریرة من القتل والتهجیر والتشرید وفقدان البنیة الأساسیة. والبلاد الأفغانیة تدفع ثمن إسلامها بتقديم التضحیات والشهداء على مرّ عقود متعاقبة.
الثاني: أن أفغانستان احتلها تحالف دولي ظالم من بلدان شتى، وبمختلف أنواع السلاح الفتّاك هاجموا البلاد، وشنوا علیها عمليات القصف والقتل، وأوجدوا العملاء والخونة، ودافعوا عنهم بالآلات الحربیة وجهزوهم بأحدث التجهيزات العسكرية. كما حرصوا على إيجاد فضاء إعلامي من البرامج التي تستهدف الشباب لإغوائهم، وتستهدف تخریب أفغانستان؛ نساءها وشبابها وإسلامها. وقد اشتدت وطأة التغريب في أفغانستان إلى حد لم نر مثيلاً لشدته في البلاد الإسلامیة الأخرى.

إن العدو منذ احتلاله أرض أفغانستان يقوم بحمایة العملاء والخونة بحجة أنهم يمثلون الشعب الأفغاني، ويقوم بعرض برامج إعلامیة تزرع الفكر العلماني المارق بين أبناء أفغانستان، في الحين الذي يضيّق فيه على الكتاب الإسلامیین والعلماء الأفغان تضييقاً عنیفاً، ويقمع الآراء التي تناضل الاحتلال والإلحاد والابتذال.
لكن العدوّ -برغم كل محاولاته- شعر أن الحمیّة الإسلامیة لا تزال تنبض في شریان الشباب الأفغاني، وأن المعركة بین الحریة والاحتلال ستحسم لصالح الحریة والكرامة طالما استمر نبض العقیدة الإسلامیة القحة في نفوس الشعب الأفغاني وشباب المسلمین.

إن الطائرات الأمیركیة والحلف الأطلسي لم يتركوا بیت وبر ولا مدر في أفغانستان إلا وقصفوه، وقتلوا أهله وشردوا جموعاً آخرين. كما أننا نری الیوم كثیراً من المسلمین لا ینعمون بالأمن في بلادهم خوفاً من العنف الذي یرتكبه الأعداء ضدهم، فلا یمكن لأحد أن يتصور مدى الوحشیة التي يرتكبها الاحتلال وعملائه في أفغانستان وفي فلسطین وفي غیرها من البلاد الإسلامیة، ففي كل یوم نسمع أن بیتاً في فلسطین قد دُمّر لأجل بناء مستوطنة صهیونیة، وأن قریة بأكمها في أفغانستان قُصفت بغية قمع المناهضین للحكومة العمیلة وترهيبهم.

إذا كان الشاب المسلم مجهزاً بسلاح التوحید الخالص لم یضر شعبه مهما كثرت عنجهیة العدو، صلفه، وقصفه.
إن من جهاد العلماء ضد الطغاة؛ نشر التوحید الخالص، والرد على الشبهات والبدع التي تضر بالعقیدة الخالصة، فالموحد لا یركع لغیر الله، ولا یعتقد أن هناك قدرة تفوق قدرة الله، ولا یبیع الحریة ولا یخاف من بطش العدو وعنجهیته مهما طال ليل الظالمين، ویؤمن بالنصر الذي وعده الله تعالی عباده، إن هم صبروا وثبتوا، وكفی بالحق انتصاراً أن تنتشر عقیدة التوحيد الناصع في نفوس الشباب الأفغان رغم كل مكائد العدو ومكره بهم.

لقد بتنا -مع الأسف الشدید- نشاهد جزءاً من معالم الثقافة الغربیة التي تعادي الثقافة الإسلامیة تتفشی في بلادنا حتی أصبحت مواجهة الثقافة الإسلامیة من أركان الثقافة الغربیة وهذا ما نشاهده في أفغانستان اليوم، وقبل ذلك شاهدناه في تاریخ النضال بین الإسلام والیهود والصلیبین.
إن الجیل المسلم كلما كان مشبعاً بالقرآن والسنة ازداد تخوف العدوّ من كیانه، فيعمد إلى شن هجمة ثقافیة علی ثقافته الإسلامیة. فبینما نشاهد كثیر من الأمم تعتنق ثقافات متعددة ملتزمة بها، لم یعتزم الغرب الهجوم ضدها أو القیام لأجل تغییرها أو التخطیط لسلخها من منهجها، لكن بالمقابل نشاهد هجمة الغرب الشرسة ضد الإسلام وحامليه.
إن من مهمة العلماء العظيمة نشر الثقافة الإسلامیة بين أبناء الإسلام، وترغيب الناس في التمسك والالتزام بها، خاصة مع وجود المخططات الغربیة الصلیبیة التي تعمل جاهدة لجذب الشباب الأفغان إلی أفكار ظاهرها إسلامیة بینما هي في حقيقتها تقاتل الإسلام وعقیدته الخالصة وثقافته. إن تلك المخططات تريد أن تجعل المسلمين يؤمنون بمصطلحات مثل: إرهابي، انتحاري، عنف، ويكفرون بمصطلحات مثل: مجاهد، استشهادي، جهاد.
إن الإعلام الأفغاني یرید من الشاب الأفغاني الاعتقاد بأن المجاهدین هم الذین یشوّهون صورة الإسلام، وهم الذين يقفون كعائق أمام الحریة في أفغانستان، بل يريد أن يصوّر أن عبدالله وغني أفضل بكثیر من الشاب الأفغاني الذي حمل السلاح لدحرالاحتلال الذي عاث في الأرض فساداً ودمّر أفغانستان بكاملها.
ويكفي العدو انتصاراً أن یعتقد الشاب الأفغاني – الذي قُتل أبواه وشعبه، وشُرد أهله – أن هناك عمیل صالح وعمیل سيء، وأن هنالك إسلام متشدد وآخر متحيز للديموقراطية، وأن الديموقراطية أفضل من الشريعة، وأن يعتقد بأن للأمريكان قوی فوق قوة الصمود والثبات، وأن بعض المجاهدین في بعض العملیات هم مصدر العنف والإرهاب.

لقد أسقطت الثقافة الغربیة المشبوهة البشریة في وادي الهمجیة والانحلال، فمثلاً نجد أن اللاأخلاقیة والسفور والعنف ثارت من جذور الثقافة الغربیة وأفكارها. وإنه كلما وقع الشاب الأفغاني تحت تأثير تلك الأفكار الغربیة الأمیركیة؛ تقلّصت معنویات الجهاد والشوق إلی نیل الحریة في نفسه. الأمر الذي یتطلب من العلماء والدعاة جهوداً لحفظ الشباب عقدياً وثقافياً من نتائج تلك الحملة الفكرية المسعورة.
إننا الیوم في أفغانستان بحاجة إلی البحث الدقیق عن الأسباب، والتجارب التاریخیة، والمؤامرات الغربیة، التي استهدفت أرضنا ودیننا وجیلنا لبناء أسس تعامل صحیحة مع شعبنا، ولنطهر الأرض والعقول من بقايا الثقافة الغربية النتنة.