أفغانستان.. هزيمة الأمريكان وانتصار طالبان

كتبه: الشيخ محفوظ بن الوالد (أبو حفص الموريتاني)

 

يأبى الله تعالى إلا أن تتحقق سنته في عاقبة الصراع بين الحق والباطل، ومآل التدافع بين الخير، فيكتب النصر لأوليائه المؤمنين، والهزيمة على أعدائه الكافرين، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج/40).

تلك سنة الله التي لا تتبدل، ولا تتحول {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر/43)

وما يحصل في أفغانستان حاليا من هزيمة للأمريكان، وانتصار لطالبان هو مثال حي على هذه السنة الربانية.

من كان يصدق أن شعبا فقيرا أعزل، في بلد فقير مدمر، توالت عليه الحروب أربعين سنة، ولا يملك من القوة المادية سوى أسلحة بدائية، يستطيع أن يهزم أكثر من خمسين دولة تملك أعتى جيوش الدنيا، وأقوى اقتصادات العالم؟!

ليس لهذا الأمر من تفسير سوى أنه آية من آيات الله في تحقيق وعده لأوليائه بالنصر، ووعيده لأعدائه بالهزيمة.

{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة/249)

ولكن النصر الإلهي وإن كان وعدا من الله للمؤمنين، فهو وعد له أسباب يستجلب بها، ومقومات يتحقق من خلالها.

وأهم أسباب وعوامل النصر الذي حققته طالبان على الأمريكان فيما نرى هي:

 

  • الإخلاص لله والصدق في العمل

و إخلاص الحركة وصدقها هو ما شهد به جهادها، ومواقفها، وسياساتها خلال أكثر من ربع قرن، منها عشرون عاما قضوها في جهاد الأمريكان وحلفائهم، وما غيروا وما بدلوا، فما رأينا منهم إلا الإخلاص، ولا علمنا منهم إلا الصدق، والله حسيبهم.

 

  • وضوح الراية وظهورالغاية

مما تميزت حركة طالبان، وكان من أهم أسباب وحدتها، وتعزيز مصداقيتها، وضوحُ رايتها النقية، وظهورغايتها الجلية في إقامة الدولة الإسلامية، غير مشوبة بلوثات الدولة الوطنية، والمدنية، والديموقراطية.

 

  • إسلامية المرجعية وأصالة المنهج

حرصت حركة طالبان على التمسك بإسلاميتها الناصعة، وأصالتها الساطعة لم تتساهل في مضمون، ولم تفرط في شكل.

وكان لهذا الأمر أثره الواضح في تماسك الحركة فيما بينها، والتفاف معظم الشعب الأفغاني حولها.

 

  • العزة الإسلامية والاستعلاء الإيماني

تميزت حركة طالبان باعتزازها العظيم بدينها، واستعلائها القوي بإيمانها، الأمر الذي أكسبها احترام أعدائها قبل أصدقائها.

وقد ظهر ذلك في كافة مواقفها، ومن ذلك شروطها في التفاوض مع الأمريكان، حيث شرطت أن يكون جوهر المفاوضات معهم هو انسحابهم من أفغانستان، دون أن تكون لهم علاقة بمن سيحكم أفغانستان بعدهم، ولا بما ذا، أو كيف سيحكمها.

ولم تهمل الحركة الجانب الشكلي في المفاوضات حيث شرطت في المفاوضات أن يضم وفدها للتفاوض قيادات من الحركة كانت في سجن غوانتنامو، وسجون كابل وسجون اخرى.

وحضرت قيادات الحركة المفاوضات مع وزير الخارجية الأمريكي وكبار جنرالاته وهي بعمائمها الضافية، ولحاها الطويلة، وهديها الإسلامي الظاهر.

وهي أمور لها ما لها من دلائل، وتحمل ما تحمل من رسائل.

 

  • التضحية بالغالي والبذل للنفيس

من أهم الأسباب التي أعطت للحركة ما أعطتها من مصداقية ومكانة جسامةُ التضحيات التي قدمت، وعظم البذل الذي بذلت.

وليس ما قدمت من شهداء في مقدمتهم خيرة قادتها، وزعماؤها، إلا بعض من تلك التضحيات، ونماذج من ذلك البذل.

 

  • الصبر على العقبات والثبات أمام التحديات

تميزت حركة طالبان بصبرها الجميل، ونفسها الطويل، وثباتها الراسخ في مسيرتها الجهادية العظيمة.

ولولا الله تعالى، ثم ما أفرغ عليها من صبر وثبات لما كان لها أن تواصل جهادها عشرين عاما ضد خمسين جيشا لأقوى دول العالم.

 

  • الثقة بالله والتوكل عليه

كانت ثقة قيادات الحركة بالله عظيمة، وتوكلهم عليه كبيرا.

وكان لذلك أثره البالغ فيما حققت من مكاسب، وأحرزت من انتصارات.

وما زلت أتذكر كلمات الملا محمد عمر رحمه الله يوم قالوا له : إن لم تسلم أسامة بن لادن فإن أمريكا ستقضي عليك وعلى دولتك، فرد بمقولته الشهيرة: لقد وعدنا الله بالنصر، ووعدتنا أمريكا بالهزيمة، وسوف نرى أي الوعدين سيتحقق!!

وها هو الوعد يتحقق بعد عشرين سنة!!

 

  • الوحدة في المواقف والانسجام في السياسات

تميزت حركة طالبان بمستوى نادر من الوحدة والانسجام بين مختلف مكوناتها، ومستوياتها، وذلك رغم ما بذله أعداؤها من جهود الإغراء والإغواء من أجل اختراقها، وشق صفوفها، ومحاولة توظيف بعض التباينات داخلها.

وهذه الوحدة والانسجام من أهم عوامل النجاح، ومقومات النصر.

 

  • تصدر العلماء مراكز القيادة والتوجيه في الحركة

من أهم عوامل نجاح حركة طالبان في جهادها ومحافظتها على أهدافها وغاياتها، وضبط مسيرتها بالشرع، تصدر العلماء وطلاب العلم مراكز القيادة والتوجيه فيها.

وهذه ميزة عظيمة من ميزات الحركة.

 

  • الاستقلالية في القرارات والسيادية في المواقف

تميزت حركة طالبان باستقلالها في قرارتها، وسياساتها، ومواقفها، وعدم قبول إملاءات الآخرين .

وقد شهدت مواقف عظيمة من ذلك رفضت فيها الحركة ضغوطا كبيرة من دول كانت تربطها بها علاقات قوية، منها باكستان، والمملكة العربية السعودية يوم كانت تعترف بحكومة طالبان.

ولولا الله، ثم هذه الميزة لكانت الحركة قد باعت قضيتها، وتنازلت عن مبادئها، كما فعل بعض (المجاهدين) السابقين.

 

  • التر كيز على العمل العسكري والاستفادة من العمل السياسي

ركزت حركة طالبان على الجهاد المسلح كوسيلة أولى لإخراج الغزاة من أفغانستان، ولم تنشغل بما عرض عليها من إغراءات تقاسم السلطة.

ولما حان وقت المفاوضات السياسية وظفتها بذكاء لقطف ثمار الجهاد المسلح، وفرض خروج الغزاة، ولم تتوسع فوق ذلك.

وهذا هوالمنهج الصحيح، فالمفاوضات السياسية هي وسيلة لقطف لثمار العمل العسكري على الأرض.

 

  • حمل آلام وآمال الشعب

من عوامل قوة ومصداقية حركة طالبان الشعبية نجاحها في الاندماج مع عموم الشعب، وعيش مشاكله، ومشاركته في معاناته، وتوظيف عاطفته الدينية، وفطرته الإيمانية لصالح مشروعها الجهادي، ودولتها الإسلامية.

وهذا ما يفسر مصداقيتها الواسعة في القرى، والأرياف.

 

  • الاستفادة من الأخطاء التاريخية

عملت الحركة على تصحيح بعض أخطائها السابقة، والاستفادة من تجاربها الماضية في تعاملها مع بعض القوميات، والطوائف الأفغانية، فتجنبت تكرار تلك الأخطاء، فكسبت مصداقية كبيرة بين هذه القوميات والطوائف في عودتها الحالية.

وهذا مما يفسر كون معظم المديريات التي سيطرت عليها الحركة مؤخرا تقع في ولايات هي معاقل تقليدية لخصوم طالبان من القوميات والطوائف غير البشتونية في الشمال، والشمال الغربي، والشمال الشرقي.

 

  • الحكمة السياسية في التعامل مع دول الجوار

تميزت الحركة خلال السنوات الماضية بمستوى عال من الحكمة السياسية واجهت به محيطا سياسيا معاديا.

وكان من نتائج هذه السياسة أن تحولت باكستان من دولة محاربة، ومعادية للحركة، إلى دولة تسعى لكسب ودها، والتحالف معها.

وقد نجحت الحركة بذلك في المزج بين فقه الدولة المسؤولة، وفكر الحركة الثائرة.

 

بفضل من الله محض، ثم بتوفيق منه في هذه الأسباب والعوامل، حققت حركة طالبان ما حققت حتى الآن، مما لم يكن يدور في خلد أو حسبان.

وما زالت أمام الحركة مخاطر كثيرة، وعقبات خطيرة، تختلف عن التحديات والمخاطر في المرحلة السابقة.

سوف يحاول العالم أن يمنعها من الوصول إلى الحكم بتحريك الفرقاء المحليين، والخصوم الإقليمين، والأعداء الدوليين.

وسوف يمارس عليها شتى وسائل الضغط السياسي، والاقتصادي، والعسكري.

وهدفه في النهاية الحيلولة دون قيام دولة تقيم الإسلام، وتحكم بالشريعة في أفغانستان.

وهذا ما يفرض على الحركة أن تكون على مستوى التحديات، وعيا بتلك المخاطر، وإدراكا لحجم التآمر، واستعانة بالله تعالى في إكمال مسيرتها الجهادية، وإقامة دولة أفغانستان الإسلامية مراعية في ذلك ترتيب الأولويات، حسب القدرات والإمكانيات.

{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج40)