أمريكا تستبدل حربها العسكرية في أفغانستان بحرب سياسية واقتصادية

عن مجلة الوعي

 

انسحبت أمريكا من أفغانستان؛ ولكنها لم تتخلَّ عن إرادة استعمارها لها، بل هي في صدد فرض نفوذها عليها بشكل يتناسب مع فكرة استعمال القوة الناعمة، بعد تخليها عن استعمال القوة الغليظة والاحتلال المباشر الذي رافق عهد بوش الابن وفريقه في الحكم المحافظين الجدد، والذي كان أحد عناوين استراتيجية قيادة العالم بنظام أحادي القطبية. هذا النظام أُعلن التخلي عنه زمن أوباما بسبب فشله؛ حيث فشلت أمريكا في فرض رجالاتها ونفوذها، وفشلت في تغيير النظام، وفشلت في فرض الديمقراطية، وفشلت في التركُّز والاستقرار، وتكبَّدت الخسائر البشرية والمالية الضخمة، وتزعزع موقعها الدولي باعتراف مسؤوليها قبل غيرهم. وما ترديد بايدن لمقولة: «إن أفغانستان هي مقبرة الإمبراطوريات» إلا تعبير صادق عن هذا الفشل المتكرر. ويذكر هنا أن أمريكا كانت تريد أن تنسحب من قبل من أفغانستان؛ ولكنها كانت تتردد في كل مرة لأنه سيكون مؤلـمًا إلى أن أخذت قرارها المتأخر مع بايدن. وفي الواقع، إنه لم يكن انسحابًا مبرمجًا يحفظ كرامة جنودها وكرامة موقعها الدولي، بل كان هروبًا مؤلـمًا ومذلًّا ومؤثرًا على مكانتها، وزعزع الثقة الدولية فيها أكثر، وسقطت معه هيبة أمريكا مع سقوط من تعاونوا معها من الطائرات وهم يحاولون الهروب، وترك كل الأسلحة وراءها.

بيد أن أمريكا، إن لم تستطع أن تنجح في سياسة التفرد في حكم العالم هذه؛ إلا أن ذلك لا يعني أنها تخلَّت عن كونها دولة أولى في الاستعمار، وتعمل جاهدة على الحفاظ على موقعها الدولي، بل يعني أنها في صدد تبديل أسلوبها في الاستعمار تجاه أفغانستان، لا أنها تلغيه، من هنا يجب النظر إلى أن انسحابها من أفغانستان إنما هو تبديل أسلوب في استعمار هذا البلد؛ ويؤكد ذلك أن أفغانستان تمتاز بموقع جغرافي يقع في صلب الصراع الدولي في أوراسيا الذي تشتد فيه المنافسة مع كل من الصين وروسيا، وكذلك تزخر أفغانستان بثروات غنية يسيل لها لعاب الدول الطامعة، ثم إن أمريكا بترك هذه المنطقة فإنما تتركها لغيرها من الدول المنافسة لها، وهذا يضرها ويضر مصالحها وموقعها الدولي لمصلحة خصومها في الصراع الدولي وخاصة الصين ومن ثم روسيا… فما الذي تخطط له أمريكا من جديد من أجل أخذ أفغانستان حيث فشلت من قبل.

 

أفغانستان مطمع للدول الاستعمارية والمتنافسة وبالأخص أمريكا

تزخر أفغانستان بثروات تجعلها مطمع الدول الاستعمارية؛ إذ تقدر بتريليونات الدولارات، تتمثل بالمعادن المختلفة ذات القيمة العالية جدًا من نفط وغاز، وأخرى منجمية كالذهب والنحاس والحديد والكوبالت والليثيوم، وأخرى استراتيجية نادرة الوجود مثل اليورانيوم. فالنحاس وحده تقدر كميته بـ 60 مليون طن من النحاس، وتقدر قميتها بأكثر من 535 مليار دولار. إلى جانب ذلك، خام الحديد حيث تقدر كميته بـ 2.2 مليار طن، ووفقًا لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، تبلغ قيمته حوالى 420 مليار دولار.

أما الذهب فإن لدى أفغانستان خمسة مناجم للذهب وتقدر قيمته بـ 350 مليار دولار، وهناك 400 نوع من الرخام واحتياطيات من البريليوم تقدر بقيمة 88 مليار دولار، وتجني 160 مليون دولار من بيع الأحجار الكريمة سنويًا، فضلًا 1.4 مليون طن من معادن الأرض النادرة واحتياطيات ليثيوم الذي يستخدم لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية.

وإضافة إلى هذه الثروة فإن لدى أفغانستان 1.6 مليار برميل من النفط الخام تقدر قيمتها بـ100 مليار دولار، فضلًا عن 16 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي إلى جانب 500 مليون برميل من الغاز الطبيعي. ومع هذا، فإن أفغانستان تحتضن الكثير من «اللازورد» وهو حجر كريم يمكن أن يصل سعر القيراط منه إلى 150 دولارًا…

نحن هنا لا نريد أن نعطي إحصائية دقيقة عن ثروات أفغانستان، بل فقط نريد الإشارة إلى أن مثل هذه الثروات لا يمكن أن تغضَّ الدول الاستعمارية الطرف عنها؛ ولكن هناك مشكلة تفرض نفسها وتمنعها من وضع اليد عليها، وهو الفشل المتكرر في احتلالها على مدار التاريخ، وهو الآن ماثل في الفشل الأمريكي. وكما قلنا لا يمكن لأمريكا أن تنسحب وتترك كل هذه الثروات لغيرها وخاصة أن من بين هذه الثروات ما هي ثروات استرتيجية لها تأثيرها في تعزيز الموقف الدولي وامتلاك السلاح الاستراتيجي، وهي من الثروات التي تسعى الدول الاستعمارية إلى امتلاكها وحرمان الدول المنافسة لها. فهل يعقل بعد هذا العرض أن تفكر أمريكا مجرد تفكير بالانسحاب من هذا البلد وتركه لغيرها؟!

 

الخطوط العريضة لخطة أمريكا في احتواء أفغانستان

إذًا، نحن اليوم أمام خطة أمريكية أخرى تعود بها إلى أفغانستان من غير أبوابها، وهي خطة مكشوفة، معزوفتها مشروخة، وهذه الخطة تعتمد على استعمال أساليب القوة الناعمة التي من شأنها تحقيق احتواء الأنظمة وجعلها تابعة لسياستها، ومن هذه الأساليب:

– اصطناع زعامات سياسية محلية تابعة لها وشراء ذمتها ومدها بالقوة والتأييد المادي والإعلامي…

– العمل على شراء ذمم بعض أصحاب القوة؛ ليكونوا إلى جانب عملائهم السياسيين ولتكتمل عملية التغيير بهما…

– إيجاد المشاكل المعيشية الخانقة التي تعجز الحكومة الجديدة عن حلها، وفسح المجال أمام عملائهم المنافسين للاستفادة من هذا العجز وليكونوا هم البديل عنهم عند الناس…

– إيجاد الاضطرابات الشعبية والمظاهرات المطلبية التي يتسبب بها العجز عن معالجة المشاكل الاقتصادية واستخدام وسائل الإعلام لإيجاد النقمة والفوضى، والضغط باتجاه الاستعانة بالخارج…

– اللجوء إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية من مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات التصنيف الائتماني الدولية التي هي من أهم أسلحة الغرب في استعمار الشعوب اقتصاديًا…

– العمل على استمالة قبائل وإيجاد فصائل مسلحة من أهل البلد ضد الحكومة ومدّهم بالسلاح والإعلام، وجعل قضيتهم أممية تحتاج إلى مبعوثين دوليين تكون أجندتهم تابعة لإحدى الدول الكبرى؛ وليتوصلوا من خلالهم إلى تسويات يفرضون فيها أنظمة حكم ودساتير ويغرسون حكام عملاء لهم…

– العمل على إثارة النعرات المذهبية والطائفية والعرقية وبعث فكرة الأقليات، والعمل على توظيفها من أجل فرض دستور علماني وضعي للبلاد، ويسير بتشريعاته وفق أفكار الكفر الديمقراطية وفرض الحكم المدني…

– العمل على إيجاد ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني التي تموِّلها وتدافع عنها إذا ما تعرَّض أفرادها للأذى أو الاعتقال. والتي تظهر بمظاهر الإنسانية والمطالبة بالحقوق والسلام وحقوق المرأة والصحفيين والحريات… وتقوم بتنظيم نشاطات مشبوهة وتقوم وسائل الإعلام بالدفاع عنها وتسويق أفكارها والتهجم على الحكم الذي يواجهها…

– ولعل من أخطر أسلحة استعمال القوة الناعمة في استعمار الغرب للشعوب والدول هو استخدام عملائهم من حكام المنطقة كأدوات مخفية لهم؛ حيث يتدخل هؤلاء بحجة تقديم الإعانات الإغاثية للناس المنكوبة، ونجدة وإمداد الفصائل المسلحة بالسلاح والمال، وتأمين مخيمات النزوح أو اللجوء إذا كانت مجاورة لها، والتي تكون بأمس الحاجة إليها… بهدف رهن إرادتها وتوجيه بوصلتها لمصلحة الدولة التي تتبع لها، وبالتالي التدخل في الصراعات، ومن ثم وضع الشروط والخطوط الحمر التي تكون من ضمن أجندة خفية تعمل بحسبها، ولكسب القيادات المستقبلية في البلد محور الصراع لجعلها عميلة لها. وهذه الورقة هي في غاية الخطورة، وتكاد تكون أكثر الأوراق الرابحة التي يعوِّل عليها الغرب لكسب الدول إلى منظومة عمالته. فالدول الكبرى تدير هذه اللعبة القذرة من أولها إلى آخرها لمصلحتها، وتمسك بخيوط اللعبة كلها…

ولو أخذنا أمثلة على ذلك من كل ما قلناه مما يحدث في أفغانستان لوجدنا أن كل ذلك يحدث تقريبًا الآن، فقد تناقلت وسائل الإعلام أخبارًا نذكرها على سبيل المثال لا الحصر:

* أمريكا تجمد احتياطيات البنك المركزي الأفغاني، والبالغة (9.4) مليار دولار، والتي استولت عليها الإدارة بعد سيطرة طالبان على البلاد هذا الصيف. وتشدد القيود الدولية المفروضة على النظام المصرفي في أفغانستان ما يؤدي إلى اقتصاد منهار… وأن إدارة بايدن لن تفرج عن الأموال حتى تشكل طالبان حكومة “شاملة”، وتضمن حقوق الأقليات والنساء والفتيات، بما في ذلك التعليم الكامل للإناث…

* الضغوط المالية الأمريكية على أفغانستان أدت إلى فقدان العملة الأفغانية ما يقرب من 12% من قيمتها مقابل الدولار .. وحذرت الأمم المتحدة من أن النظام المصرفي في البلاد معرض لخطر الفشل «الهائل» الذي قد يؤدي إلى انكماش الاقتصاد الأفغاني بنسبة 30%…. وقد ذكر أنه مع استمرار عزل أفغانستان وطالبان، انحدر اقتصاد البلاد ونظامها المالي بشكل متزايد إلى شفا الانهيار في الأسابيع الأخيرة، وتفاقم بسبب الجفاف المدمر والوباء…

*وفيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني، ورد خبر مثلًا أنه «بينما تقضم حركة طالبان مزيدًا من الـمُدن القريبة من العاصمة كابل، طالبت منظمتا «إنتراكشن» والتحالف من أجل بناء السلام، إدارة جو بايدن بتوفير وتسريع إتاحة سبل الهجرة لجميع الأفغان وعائلاتهم الذين عملوا ضمن منظمات المجتمع المدني الأفغاني». وهذا الخبر يشير بوضوح إلى العلاقة بين العضوية بين الولايات المتحدة وهذه المنظمات التي تعتبر من أدواتها الاستعمارية.

* وتحت عنوان: «بادرة تضامن»… متحف ألماني يعتزم استقبال فنانات وفنانين من أفغانستان ورد هذا الخبر: «يعتزم متحف «مركز الفن والإعلام» الألماني استقبال فنانين وفنانات يتعرضون للاضطهاد على يد حركة طالبان. وجاءت المبادرة بعد رسالة لفنانين وفنانات أفغان تطالب المجتمع الدولي وزعماء العالم بضرورة «الحفاظ على الثقافة الأفغانية القيمة والروح الأفغانية للأجيال القادمة”.

* استخدام الإعلام لتشويه سمعة الحكم في أفغانستان صراحة والإسلام ضمنًا؛ وذلك من خلال عناوين حاقدة، من مثل: «أفغانستان التي لم تعد.. بلد مدمر على موعد مع «العصر الحجري»» «وجهة نظر: على الحكومة الألمانية مساعدة الصحفيين في أفغانستان» «هل تعود المرأة الأفغانية حبيسة منزلها؟» «رغم قمع طالبان.. المرأة الأفغانية مصرة على الدفاع عن حقوقها» «أفغانستان: نظام العدالة يخذل المرأة» «كيف تسمحون بزواج الفتيات الصغيرات؟».

هذه هي أسلحة أمريكا في استعمار أفغانستان من جديد عن طريق القوة الناعمة، وهي لا تقل خطرًا عن استعمال القوة الغليظة، وهذه يجب مواجهتها وعدم الانجرار إليها. والتغلب عليها لا يمكن أن يتحقق إلا بالالتزام بالإسلام: عقيدة وأنظمة حياة وطريقة عيش إسلامية، يكون فيها الولاء محصورًا بالله ورسوله ودينه والبراء من الكفر من كل أشكاله…