الزيارة الثانية لأفغانستان.. «توابع الزلزال»

د. محمد الصغير

 

في السابع عشر من أكتوبر الماضي وقع زلزال قوي في ولاية هرات إحدى محافظات أفغانستان، أي في يوم انطلاق عملية طوفان الأقصى، ونظرا لأن العدوان على غزة تتابع بصورة غير مسبوقة، وعملت آلة القتل عملها في الأطفال والعجائز، والمدنيين والمرضى في المستشفيات، فقد سيطرت أخبار الحرب على وسائل الإعلام وتوارت إلى جوارها أخبار مهمة، كاستشهاد قرابة ثلاثة آلاف بزلزال هرات.

وفي هذه الأثناء جاءت دعوة كريمة من وزارة الخارجية الأفغانية للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لزيارة إخوانهم في الإمارة الإسلامية، وتشكل الوفد بالتنسيق مع وزارة الخارجية القطرية، التي وجدتها فرصة مواتية، لتقديم المساعدات الإنسانية لمنكوبي الزلزال وأهالي الضحايا، وجهزت مع الوفد طائرتين كبيرتين فيهما صنوف مختلفة من الإغاثة.

وسافر الوفد يوم الخميس 30 نوفمبر 2023 برئاسة فضيلة الأمين العام الدكتور علي القره داغي، ومعه من مجلس الأمناء فضيلة الشيخ محمد الحسن ولد الددو، والدكتور نواف تكروري، والدكتور عبد الحي يوسف، والدكتور علي الصلابي، والدكتور محمد سالم اليافعي، وكاتب السطور، كما رافق الوفد الدكتور محمد نعيم سفير الإمارة الإسلامية في الدوحة. واستغرقت الرحلة ثلاث ساعات وربع إلى مطار كابل، وكان في استقبالنا في المطار المولوي الحاج خليل الرحمن حقاني وزير المهاجرين، والمولوي مطيع الرحمن خالص رئيس الهلال الأحمر الأفغاني، وعدد من المسؤولين في الحكومة.

ثم استقبلنا المولوي أمير خان متقي وزير الخارجية في مقر الوزارة، حيث رحب بالوفد وشكر المساعي الحميدة لدولة قطر، في اهتمامها بقضايا الأمة، وجهدها المقدر سياسيا وإعلاميا ضد العدوان على غزة ونصرة قضية فلسطين، وخص بالشكر وزيرة التعاون الدولي السيدة لولوة الخاطر ومواقفها الشجاعة في زيارة غزة أثناء الحرب، كما أثنى على الاتحاد بكونه مظلة جامعة ومرجعية علمائية للمسلمين، وثمن جهود الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في الدفاع عن الجناب النبوي ورد مطاعن الشانئين.

وتحدث بعده المولوي صبغة الله وصيل وكيل وزارة التعليم، الذي اشتهر بحسن بيانه ولغته العربية البليغة، ولا سيما حديثه عن غزة الذي بلغ الآفاق، وتناقلته وسائل التواصل بكثافة، وأكد أهمية تتابع زيارات العلماء للإمارة، ومد الجسور بينها وبين الأمة، وقال عن زيارتنا الأولى لهم قبل عام: ينطبق عليها قول الصحابي الجليل كعب بن مالك، للصحابي الكبير طلحة بن عبيد الله لما قام إليه بعد توبة الله عليه: والله لا أنساها لطلحة!

في اليوم الثاني التقينا خليفة سراج الدين حقاني وزير الداخلية، وكان إلى جواره المولوي عبد الغني المجاهد أحد قدامى العلماء المجاهدين، الذين شهدوا هزيمة الاتحاد السوفيتي ومن تلاه، وكانت حفاوته بادية، وكرامته ظاهرة، ولما صافح فضيلة الشيخ الددو قال له: إن لي وردا يوميا، أستمع فيه إلى دروسك!

كما شهد اللقاء أيضا الشاعر المجاهد أنس حقاني شقيق الوزير الأصغر، وصاحب القصة المشهورة سواء في القبض عليه، أو فك أسره عن طريق التبادل، وفي مساء اليوم نفسه جاء الشيخ أنس إلى مكان إقامتنا، وقال التقينا صباحا لقاء رسميا، وجئت الآن للقاء الأخوي، وكان كذلك. والحقيقة أن آل حقاني جميعا، إضافة إلى ما يجمعهم مع بني جلدتهم من إكرام الضيف والحفاوة الكبيرة به، فإنهم يُشعرون العلماء بمزيد إجلال وتكريم، بِرًّا بوالدهم الإمام جلال الدين حقاني، رمز المدرسة العلمية الحقانية بأفغانستان.

وخلال هذه الاجتماعات كانت إذا حضرت الصلاة، اصطف الجميع بكل تقدير وتقديم، خلف فضيلة الشيخ علي محيي الدين القره داغي الذي يؤم الجميع، وأكثر ما تناقلته وسائل الإعلام عن الزيارة كانت صورة صلاة الجماعة، وكل تحدث عنها بطريقته ومن خلال وجهة نظره، فكنت أكرر قول الشاعر:

 

وإِذا أرادَ اللّهُ نشرَ فضيلةٍ *** طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ

لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورَتْ *** ما كان يعرفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ

 

وكان للزيارة عند فضيلة الدكتور علي الصلابي وقعها الخاص، ولا سيما في اللقاء الذي كان جديدًا علينا جميعا، عند بقية الصالحين، ونجل المؤسس أمير المؤمنين، الملا محمد يعقوب ابن الملا عمر في مقر وزارة الدفاع.

 

في رحاب الملا عمر

تميزت زيارتنا الثانية لأفغانستان بلقاء المولوي محمد حسن آخوند رئيس الوزراء، بعد لقاء موسع مع نائبه المولوي عبد السلام حنفي، الذي وقعت محبته في قلوبنا من اللقاء الأول، وأشعرنا أنه على الدرجة نفسها من المودة والمحبة، ومن خلاله رتب لقاء رئيس الوزراء، وهو من جيل قدامى المجاهدين وكبار علماء الإمارة الإسلامية، ويظهر ذلك على كلامه وهيئته، حيث رأينا في ملامحه وملابسه الصورة المحفورة في نفوسنا للمجاهدين الأفغان.

ومن مجلس شيوخ المجاهدين إلى الشباب الفاتحين، وهم عصب الحكومة الحالية، ويشغلون أغلب الحقائب الوزارية، بحيث نستطيع أن نقول إجمالا إن حكومة الإمارة الإسلامية في أفغانستان حكومة شابة، في ظل كبار العلماء المجاهدين، الذين هم أهل الشورى إلى جوار أمير المؤمنين.

وفي مقدمة هؤلاء الوزير الشاب الملا محمد يعقوب وزير الدفاع، وهو ابن الملا عمر أمير المؤمنين ومؤسس حركة طالبان.

وكان اللقاء مع وزير الدفاع سهرة ممتدة، أظهر لنا فيها ما ورثه عن والده من إكرام الضيف والاحتفاء به والتضحية في سبيل ذلك، حتى أصبح الملا عمر -رحمه الله- مثلا أعلى، ومثالا يُحتذى به على غير مثال سابق.

ولفت أنظارنا أن الملا محمد يعقوب بدأ حديثه بالترحم على والده وضيوفه من المجاهدين العرب، كما أعرب عن أن ثبات والده وبسالته هما مصدر إلهام له ولجميع شباب الأفغان.

وبعد الكلمات الافتتاحية المعدَّة، بدأنا في نقاش مفتوح حول القضايا الراهنة سواء ما يتعلق بأفغانستان بعد الفتح والتحرير، أو ما تتعرض له الأمة الإسلامية بصفة عامة.

وكانت إجابات الوزير الشاب مسددة محكمة، كما أهدى علماء الوفد نسخا من الكتاب الذي نُشر عن والده بعنوان: عمر الثالث، أي الثالث بعد العمرين: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وخليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما.

 

وعد عبد الحي يوسف وتأثر الصلابي

وأول من اطلع عليه فضيلة الدكتور عبد الحي يوسف، لذا وعد بإعادة صياغته وإخراجه بما يتناسب مع سيرة الرجل الكبير، وعلى عادة المؤرخين في التوثيق، طلب فضيلة الدكتور علي الصلابي أن تكون النسخ ممهورة بتوقيع الملا يعقوب الذي رحَّب بذلك.

وكانت سعادة الدكتور الصلابي بالإمارة وعلمائها بادية، وظهر تأثره أكثر من غيره، وكثيرا ما غلبته عيناه وانهمر دمعه، لا سيما وأنه كلما وطئنا موطئا، أصاب من يقول له: قرأنا كتبك وننتظر إصداراتك! حتى مازحته قائلا له: ينبغي أن تكون تكاليف هذه الرحلة عليك وحدك!

وأول ما ظهر من هذا التأثير أن الدكتور الصلابي كتب فور عودته عن نظام القضاء في الإمارة الإسلامية، وأنه إضافة إلى مراحل التقاضي الثلاث الابتدائية والاستئناف ثم النقض أو التمييز، وتوجد محاكم خاصة يلجأ إليها الأفراد بقضاياهم إذا كانت متعلقة بالمسؤولين وكبار رجال الإمارة لضمان سرعة التقاضي وإنصاف المظلومين، وأهدانا قاضي القضاة فضيلة الشيخ عبد الحكيم حقاني مجموعة من مؤلفاته عن القضاء في الإسلام، والجهاز القضائي في أفغانستان.

ولم يَخلُ مجلس جلسناه من الحديث عن العدوان على غزة، وما يرتكبه جيش الاحتلال من مجازر بحق المدنيين والعزل، ولذا كان الدكتور نواف تكروري رئيس هيئة علماء فلسطين نجم الوفد، والكلمة الثابتة محجوزة لأبي ثابت، ورأينا من القوم عجبا في تعلقهم بالمسجد الأقصى ومشروع تحريره، وهو محور حديثنا القادم بإذن الله.