الغبار المحبّب

حافظ عبدالله

 

ربما يسأل سائل لمَ اخترتَ هذا الموضوع، وكتب الأحاديث مليئة في هذا الموضوع، ولكنْ ومنذ أيام قرأتُ بعض الأحاديث، وتفكّرت فيها، فقلتُ يا سبحانَ الله كيف نمرّ بهذا الموضوع مرور الكرام ولا نتدبّر فيه، مع أنّ هذا الأمر يطلب منّا أن نتريّث ونتفكّر ونتذاكره فيما بيننا. نعم هو موضوع الغبار في سبيل الله وأجره الكبير.

وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏”‏ما من رجل يغبر وجهه في سبيل الله إلا أمنه الله دخان النار يوم القيامة، وما من رجل تغبر قداه في سبيل الله إلا أمن الله قدميه النار يوم القيامة‏”‏‏.‏

وعن ربيع بن زيد قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير معتدلاً عن الطريق إذ أبصر شاباً من قريش يسير معتزلاً فقال‏:‏ ‏”‏أليس ذاك فلان‏؟‏‏”‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏”‏فادعوه‏”‏ فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏ما لك اعتزلت عن الطريق‏؟‏‏”‏ قال‏:‏ كرهت الغبار‏.‏ قال‏:‏ ‏”‏فلا تعتزله فوالذي نفسي بيده إنه لذريرة الجنة‏”‏‏.‏ رواه الطبراني ورجاله ثقات‏.‏

وروى ابن حِبّان وابن مبارك والبيهقيّ: عن أبي الْمُصَبِّحِ الْمَقْرَائِيُّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ بِأَرْضِ الرُّومِ فِي طَائِفَةٍ من المجاهدين، عَلَيْهَا مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ، إِذْ مَرَّ مَالِكٌ بِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، وَهُوَ يَمْشِي على قدميه، يَقُودُ بَغْلا لَهُ.

فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَيْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! ارْكَبْ بغلكَ، فَقَدْ حَمَلَكَ اللَّهُ.

فَقَالَ جَابِرٌ: أُصْلِحُ دَابَّتِي وَأَسْتَغْنِي عَنْ قَوْمِي، وَلقد سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: “مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ”.

فَأَعْجَبَ مَالِكٌ الخثعميّ بجواب جابر، وتابع سيره.

وأراد الأميرُ مالك أن يسمعَ المجاهدون كلام جابر ليقتدوا به، فلما ابتعد عن جابر، وصار بحَيْثُ يُسْمِعُ من حوله صوتَه، نَادى مالك بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! ارْكَبْ بغلك فَقَدْ حَمَلَكَ اللَّهُ!

وعَرَفَ جَابِرٌ ما يريده الأميرُ فردّ عليه قائلًا: أُصْلِحُ دَابَّتِي وَأَسْتَغْنِي عَنْ قَوْمِي، وَقد سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: “مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ” . فلما سمع المجاهدون كلام جابر نزلوا عَنْ دَوَابِّهِمْ، فَمَا رئي يومٌ أَكْثَرَ مَاشِيًا من ذلك اليوم. {السنن الكبرى، للبيهقي: 9/162}.

يقول العلامة ابن النّحاس: لقد كان جابر بن عبد الله يمشي على قدميه أثناء خروجه للجهاد لكي يغبّر قدميه في سبيل الله، لينال الأجرَ العظيم من ذلك.

ولأجل هذا كره العلماءُ للخارج مجاهدًا في سبيل الله التلثّم وتغطية الأنف والفم، لئلا يدخله الغبار.

وقاسوا هذا على كراهيةِ السواك بعد الزوال للصّائم، لأنّ السواكَ قد يُزيل خلوف فم الصائم، وخلوف فم الصائم أطيبُ عندالله من ريح المسك.

وكذلك يُكره التلثّم، لأنّ اللثامَ يمنع دخول الغبار في أنفِ وفم المجاهد، ودخوله سببٌ لتحريم المجاهدِ على النار، كتغيير القدمين بغبار الجهاد: “مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ”.

فطوبى لك أيها المجاهد المغوار، إنّ الغبار الذي تغبّر به قدمك وجسدك، يحرّم عليك النّار، فما أكبر أجرك، وما أعظم جزاؤك وثوابك الذي كتبه الله لك، فهنيئًا لك يا بطل، ومريئًا لك يا مجاهد هذا الأجر وذلك الجزاء.