جلال الدين حقاني العالم الفقيه والمجاهد المجدّد (8)

أ. مصطفى حامد المصري

 

# ضابط سوفيتي:”لا يمكن هزيمة “المتمردين” بواسطة جيش يفر من المعركة، وجنود ميليشيا لا يؤدون واجباتهم”.

# الوفود الإسلامية تجاهلت جبهات القتال وركزت على دعم سياف زعيما لأحزاب بيشاور.

# يونس خالص: الإخوان العرب أفسدوا كل شيء، وبعد كل زيارة لهم تظهر لدينا مشاكل لم تكن موجودة قبلا. واللجنة العسكرية للاتحاد تحولت إلى لجنة لدفع أجرة نقل الأسلحة بالخيل والبغال.

# حقاني رفض منصب نائب رئيس اللجنة العسكرية لأنها تحولت إلى لجنة لدفع نفقات نقل الأسلحة إلى الداخل، ويتوجه لبدء معركة فى الأورجون رغم معارضة سياف.

# قائد حكمتيار في أورجون يصر على منصب قيادة العمليات، ويفتح الطريق أمام النجدات السوفيتية.

# المباحثات بين مسعود والسوفييت انتهت بعقد هدنة وصفها قائد ميداني بأنها طعنة في الظهر.

# استعداد باكستاني وعالمي لقبول حكومة مشتركة “شيوعية/إسلامية” بقيادة حكمتيار، والشيوعي بابراك كارمل، لفرض السلام على الجميع ووقف “الحرب الأهلية”.

# نقاش مع ضباط الاتحاد حول تصنيع الذخائر، وحقاني يصف المشروع بأنه ” الأهم في الوقت الراهن”.

# دروس في النقد الذاتي مع برهان الدين رباني في مدينة “وانا” جنوب وزيرستان.

 

أحداث عام 1982م زودتنا بالعديد من الإشارات الهامة على المستوى الأفغاني والمستوى العربي. فمن تجربتنا المباشرة في أطراف خوست استنتجنا أن خوست يمكن فتحها بل أن السوفييت يمكن دحرهم من أفغانستان كلها.

وهكذا فإن الانتصارات ـ حتى الصغير منها ـ تعطي دفعات معنوية هائلة. وفي المقابل كانت القوات الشيوعية تنهار معنوياتها بنفس المقدار. وفي تصريح نادر قال أحد الضباط السوفييت للصحافة: “لا يمكننا هزيمة هؤلاء المتمردين بواسطة جيش يفر من المعركة وجنود ميليشيا لا يؤدون واجبهم على الوجه الأكمل). وهو تصريح يصلح لأن يقوله ضابط أمريكي الآن في عام 2019 وفي ليجاه أيضا قصفت طائرات الهليكوبتر مراكز المجاهدن بنحو 3600 صاروخ في المعركة الأخيرة فقط ! وأسقط المجاهدون إحدى هذه الطائرات ـ وربما أكثر من واحدة ـ ووجدوا جثث متفحمة لنساء في واحدة منها.

لا ندري حتى الآن السر في وجود هؤلاء النساء في الهليكوبتر، ولكن الحادث نفسه استفز مشاعر المجاهدين وسكان المنطقة.

 

ثورة في الأورجون

مع بداية عام 1983م كان المجهود الإسلامي الشعبي منحصراً في جمع التبرعات العينية للمجاهدين الأفغان. ومقولة أن الأفغان ليسوا في حاجة إلى الرجال كانت هي السائدة ويروج لها الإخوان المسلمين وباقي العاملين على الساحة الإسلامية الشعبية.

وصلت إلي بيشاور في ربيع ذلك العام لأجد الضجيج واللغط أعلى من أي عام سبق. والوفود الإسلامية الوافدة في قمة نشاطها. لقد جمعت السعودية أبرز الشخصيات الإخوانية مع بعض السلفيين وعدد من أبرز ضباط استخباراتها وكونت (لوبي) إسلامي شعبي، يضغط من أجل تثبيت زعامة سياف للجهاد في أفغانستان، وأيضا للضغط إعلاميا وشعبيا على ضياء الحق حتى يتوقف عن مساعدة الأحزاب الأخرى.

رغم أن ضياء الحق كانت له حساباته المختلفة، ويعتبر حكمتيار هو الورقة الباكستانية الثابتة والأكيدة على الساحة الأفغانية.

ومع هذا نجحت الضغوط السعودية باستخدام الأموال لتسكين خواطر قادة الأحزاب الأفغانية وباستخدام القيمة الدينية للكعبة المشرفة، فجذبت السعودية ووفدها الإسلامي زعماء الأفغان إلى داخل الكعبة كي يقسم الجميع على البقاء في الاتحاد وعدم الخروج عليه وعلى طاعة زعيمه سياف والقسم على حل المنظمات التابعة لهم والإندماج كليا في الاتحاد. وقد وقع القادة على بيانات تفيد بذلك، وقامت السعودية والإعلام الإخواني بنشر تلك البيانات علي أوسع نطاق ممكن.

بالطبع لم يكن ضياء الحق راضيًا عما حدث، والقادة الأفغان كانوا في غاية الامتعاض. وما أن حصلوا على الأموال التي وزعها عليهم الوفد الإسلامي ومسؤولي السعودية لقاء التوقيع على أوراق الاتحاد، حتى توجه الزعماء جميعًا ـ ما عدا سياف طبعًا ـ إلى ضياء الحق كي يخبروه بأن ما حدث ليس إلا مجاملات دبلوماسية للوفود العربية، فلا يأخذ مثل ذلك التهريج السعودي مأخذ الجد.

ولكن الصراع الداخلي بين المنظمات صار أكثر حدة، ليس فقط في مجال الحرب النفسية وحرب الشائعات في بيشاور والخارج، بل أن الصدامات المسلحة شهدت منذ ذلك الوقت اتساعا ونموا كبيرا وألقت المنظمات الرئيسية معظم جهدها الداخلي في تنمية الصراع والقتال الداخلي.

لم يكن الإخوان أو السعوديين أو الوفود الإسلامية التي بدأ عددها يتزايد وكمية الأموال التي تحملها لسياف تتعاظم، لم يكن يخطر ببالهم ـ أو أنهم تجاهلوا عمدًا ـ مسألة الاتصال المباشر بالجبهات وكأن ذلك في اعتبارهم من الموبقات.

حتى سياف نفسه كان بعيدًا جدًا عن الجبهات أو العناية بشأنها. كان غارقا حتى أذنيه في الصراع مع زملائه قادة الأحزاب وكل همه منصب على تجفيف مواردهم المالية الخارجية، أي الاستحواذ منفردا على نهر الأموال المتدفق من جزيرة العرب. كان ذلك يمكن فهمه لو أن سياف توجه بتلك الأموال ـ التي أكسبته قوة سياسية ومؤيدين وجذبت رائحتها عشرات القادة في الداخل، فبايعوه وأعينهم بالطبع على خزينته الممتلئة ـ لو أنة توجه بتلك القوة المالية والسياسية نحو جبهة القتال لكان ما يفعله معقولا ومبررا.

 

 

منعطف في معركة الأورجون

مع وصولي إلى بيشاور وجدت الشيخ يونس خالص متبرما ويضج بالشكوى من سياف والقادة والعرب. وأفاض معي بالشكوى قائلا: إن “الإخوان العرب” أفسدوا كل شيء وأصبح الجهاد مهددا بالفشل من جراء تدخلهم. هم يأتون ويذهبون وفي كل مرة يخلقون وراءهم جبالا من المشاكل لم تكن موجودة أصلا. إنهم يحاولون شراءنا بالمال. قبل أن يعقدوا بيننا الاتحاد الأخير وزعوا علينا الشيكات وكأنها رشوة حتى نقبل بسياف. ولما جلسنا معهم وبدأت أنتقد سياسة سياف تدخل أحدهم لمنعي من الكلام، وأخرجت الشيك من جيبي ورميته إليه قائلا: “إذا كان هذا الشيك سيمنعني من الكلام فأنا لا أريده”. لقد جعلونا نقسم داخل الكعبة على الاتحاد وقبل أن نخرج من باب الحرم المكي بدأت الخلافات بيننا. ليس بيننا اتحاد وكل زعيم يعمل لمصلحته ولحزبه الخاص.

أنا رئيس اللجنة المالية وليس من صلاحيتي استلام أموال التبرعات، وليس من صلاحيتي طلب كشوفات الصرف من رؤساء اللجان ـ الذين هم رؤساءالأحزاب ـ لقد أخذ كل منهم المال لنفسه ولحزبه، تقسمت بينهم الأموال ولم يصل شيء للمجاهدين.

مثلا: اللجنة العسكرية التي يرأسها رباني صرفنا لها أكبر مبلغ من الميزانية وهو 260 مليون روبية باكستانية واتفقنا مع رباني أن يدفع للمجاهدين أجرة انتقال السلاح إلى داخل أفغانستان.

ولكنه دفع فقط لهؤلاء التابعين لحزبه (الجمعية الإسلامية) وعندما جاء له مجاهدو الأحزاب الأخرى قال لهم إن الميزانية قد نفذت. والنتيجة أن قوافل المجاهدين التي تنقل السلاح جلست على الحدود ترفض التحرك إلى الداخل بدعوى أنها لا تملك أجرة النقل}.

قابلت الصديق القديم مولوي جلال الدين حقاني. كان أيضا في بيشاور وقد كلفه سياف أن يكون نائبا لرباني في اللجنة العسكرية. كان حقاني غير راض عن اللجنة العسكرية التي لاهم لها إلا دفع أجرة نقل الأسلحة بالبغال والخيل. فهي لجنة نقليات وليست لجنة عسكرية.

اضطر حقاني لمغادرة بيشاور رغم عدم موافقة سياف. فقد كان لدى حقاني برنامج للعمليات ضد مدينة أورجون في ولاية باكتيكا الواقعة إلى جنوب ولاية باكتيا (وتربطهما نفس السلاسل الجبلية والوديان بل ونفس القبائل).

تمكن حقاني من الحصول على نصف مليون روبية باكستانية من سياف لتمويل العمليات في الأورجون. وكنت برفقة حقاني وهو يغادر بيشاور كى أحضر تلك العمليات.

على بعد حوالي 40 كم من بيشاور تقع قرية (دارا آدم خيل) التي تديرها القبائل الباكستانية وتتخذها مركزا لتصنيع وبيع الأسلحة، ثم المخدرات والبضائع المهربة.

كان لحقاني أصدقاء أقوياء من تجار (دارا) كانوا على استعداد لإقراضه معدات وذخائر بالملايين، على أن يؤجل الدفع إلى حين ميسرة. لم يخرج حقاني من (دارا) إلا وقد فرغ جيبه تماما، اشترى مدفع واحد مضاد للطائرات (14.5مم) وذخائر للمدفع المذكور ولمدفع الدوشكا الموجود بالجبهة. إضافة إلى ذخائر خفيفة ومنظاراً لمدفع ميدان. وخرج مديونا آخر النهار، ولكنه كان سعيداً بتلك الإضافات الجديدة.

كان معنا في الرحلة ثلاثة شخصيات عسكرية ممتازة. الأول الرائد (جولزراك) المدرس السابق في الكلية الحربية والشاعر والمؤلف الأديب. والثاني الضابط محمد أختر الذي طرد من الجيش وسجن عدة سنوات مع سياف بسبب انتمائه الإسلامي. والثالث ضابط المدفعية سراج الدين، وقد كان قوي البنية متجهم الوجه ولا أذكر أنني رأيته مبتسما. وانضم إلينا رابع هو الضابط معافي خان، كان هو أيضا قوي الجسم ولكنه خجول لطيف المعشر ودود مع كل الزملاء.

والأخير استمرت معرفتي به حتى نهاية الحرب حيث أصبح قائدًا بارزًا من قادة حقاني. أما الثلاثة الآخرون فقد كانت تلك بداية عملهم مع (الاتحاد) وتحت قيادة سياف. كان سراج الدين ومعافي خان كلاهما من رجال المدفعية وكانت مهمتهما تشغيل أحد المدافع لمساندة المجاهدين. أما جولزراك ومحمد أختر فكلاهما كانت مهمته استشارية وأيضا لجعل هذه المعركة باسم الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان. وأظنها كانت المرة الأولى ـ وربما الأخيرة ـ التي يحاول سياف أن يدعم معركة عسكرية ليست نابعة من تنظيمه، ولكنه حتى ذلك الوقت كان يعتبر حقاني أقرب حلفائه. ويكفي أنه السبب المباشر في انتخابه رئيسا للاتحاد عام 1980م كما أنه من أكبر الدعاة إلى الاتحاد بين فصائل المجاهدين.

مع الضباط الثلاثة أجريت نقاشات كثيرة ممتعة أفادتني كثيرًا في التعرف على أحوال الجيش قبل الانقلاب الشيوعي وتصرفات الضباط المعادين للشيوعية في الجيش وكيف دبروا عدة محاولات انقلابية فشلت جميعها بسبب الارتجال وسوء التنظيم. كما رتبوا الكثير من عمليات الفرار مع جنودهم وعتادهم وانضموا للمجاهدين وتأثرت كثيرا بقصص التطهيرالدموي داخل الجيش الأفغاني. وللحقيقة فإن السوفييت استطاعوا تكوين كوادر عالية التأهيل داخل قطاعات الجيش والمخابرات والحزب أو الأحزاب الشيوعية.

وكان الانقلاب الشيوعي عام 1978م خاتمة سلسلة أعمال دؤوبة ومنظمة ينفذها الشيوعيون الأفغان تحت توجيه مباشر من مسؤوليهم في السفارة السوفييتية في كابل. وكان للمسلمين بعض المجهود التنظيمي داخل الجيش، خاصة من طرف حكمتيار، ولكنها كانت سيئة وبدائية لذا كشفت بسهولة وقمعها الشيوعيون بوحشية بالغة.

 

عرقلة الفتح:

كان من المفروض أن ينهي الوفد العسكري الاتحادي بالتعاون مع حقاني مباحثات مع قادة المنطقة من الأحزاب المختلفة بهدف شن هجوم موحد على مدينة أورجون. طالت المباحثات كثيرا رغم اتفاق معظم القيادات على العمل بشكل مشترك تحت قيادة حقاني. ولكن قائد حزب إسلامي حكمتيار رفض هذا الاتفاق وأصر أن يكون هو القائد العام. كان ذلك القائد حديث السن والتجربة ولم يكن موضع ترحيب من الآخرين لأسباب متعددة ولكنه أصر. هذا القائد ويدعى (خالد فاروقي) وافق في نهاية الأمر أن يمنع النجدات العسكرية الشيوعية من دخول المنطقة حيث أن موقعه على التلال والجبال المشرفة على الطريق تمكنه من ذلك، ورغماً عن سهولة العملية لكون الطريق قد تم تلغيمه بكثافة. فقد ضاعت عدة أشهر في تلك المباحثات حتى بدأت المعارك مع دخول الشتاء. انضمت دبابتان إلى المجاهدين، في إحدهما ضابط كبير يدعى “نظر محمد” من قبيلة زدران وعلى درجة من القرابة مع الضابط الاتحادي جولزراك. ( فيما بعد انضم نظر محمد إلى حزب سياف وعميلا مزدوجا للقوات الحكومية. فكان من الأسباب الرئيسية فى سقوط جبال ستى كاندو وعبور الجيش السوفيتى إلى خوست لأول وأخر مرة ـ فى تلك الحرب وذلك فى شتاء عام( 87 ــ 1988 ).

استخدم المجاهدون الدبابتين في فتح الحصن الذي كنا نشتبك معه. ثم هاجم المجاهدون المدينة نفسها واقتحموا نصفها، وتهيأ النصف الآخر للاستسلام لولا أن حدثت مفاجأة.

جاء الخبر أن القوات الروسية قد عبرت المناطق الملغومة وهي في طريقها إلى المدينة. أصدر حقاني أوامره إلي المجاهدين بالانسحاب فورًا من الوادي والصعود إلى قمم الجبال. لقد بدأت القوات الروسية حملة مطاردة شرسة للمجاهدين، وكانت الثلوج قد غمرت المنطقة وجعلت حياة المجاهدين لا تطاق. فليس لديهم مراكز إيواء فالطيران يطاردهم في كل مكان والهيلوكبتر توجه نيران الصواريخ والمدفعية. وتسرب المجاهدون إلى خارج المنطقة، ولم يتبق إلا حقاني وعدد محدود جدا من المجاهدين. وانتشرت إشاعة بأن الروس سوف يقومون بعمليات إنزال خلف المجاهدين لقطع طريق اتصالهم مع باكستان. لقد كانت تجربة عسيرة بالنسبة لحقاني، ولكنها لم تكن الوحيدة في حياته من هذا النوع.

كان سبب هذا الانقلاب أن خالد فاروقي ترك مراكزه فوق الجبال وغادر المنطقة بسبب البرد والثلج وبدون أن يخطر حقاني بذلك. فأوقع بذلك هزيمة مؤلمة بالمجاهدين وأضاع عليهم نصرا لا شك فيه.

مثل هذه الحوادث تكررت بشكل لا يترك لدينا شك في أنها كانت مرتبطة بالصراعات الحزبية والأحقاد الشخصية وأحيانا بأوامر من باكستان كما سنرى تفصيلا في مناسبات لاحقة سوف نتناولها. إن رفض فاروقي للاتفاق أخر المعركة عن موعدها المقرر عدة أشهر حتى بدأت في موسم الثلوج الذي لا يناسب المجاهدين بأي شكل ولكنه يناسب العدو بشكل مثالي.

 

التصنيع العسكري:

كان الضباط الثلاثة أذكياء ومثقفين على غير عادة ضباط الجيش. وبقدر ما كانت أحاديثي معهم مفيدة ومفعمة بالأمل إلا أنها انتهت بالدخول إلى أبواب مشاريع عملية أدت إلى تبديل مساري مع سياف والاتحاد، بل أثرت إلى درجة بالغة على تواجدي في أفغانستان وحتى نهاية الحرب، وربما إلى وقتنا الحالي. ولنبدأ القصة من أولها.

بينما نحن في الجبهة والمناوشات مع العدو على أشدها وكان نجم الموقف هو مدفع الدوشكا وراميه العجيب الذي صار مضرب الأمثال في الصبر والصمود والدهاء، فقد كان مشتبكا بمفرده مع حصن رئيسي للعدو، ومع الهيلوكبتر الذي يداهمه من آن لآخر ثم مع المدفعية التي تباغته على فترات متقطعة.

صار الرجل مضرب الأمثال في موقعه المنعزل، ولا يطيق أحد من المجاهدين أن يصبر معه يوما واحدا أو يومين. بينما هو راسخ كالجبل يشتبك بمفرده مع جيش كامل، فأثار حماس الجميع وكانت تذهب إليه وفود المجاهدين للتهنئة وتقدم له الدعم من بعيد خاصة ضد مشاة العدو إذا حاولوا التقدم للقضاء عليه. وفجأة توفقت الدوشكا وتقهقر الرامي إلى الخطوط الخلفية. فقد نفذت الذخائر. عم الحزن صفوف المجاهدين لتوقف هذه الاشتباكات الرائعة والمثيرة، وبدأ الطيران بأنواعه يكنس المنطقة موقعا موقعا. استغرق الأمر حوالي أسبوع حتى استطاع مولوي (محمد حسن)، قائد الموقع أن يجد عدة صناديق ذخيرة. هنا تساءلت على استحياء لشعوري أنني أتطرق إلى أسرار عسكرية فسألت الرائد جولزراك ـ وقد كان أقرب أفراد المجموعة إلى نفسي ـ سألته: (ألا يصنع الاتحاد ذخائر للأسلحة الأساسية؟). وفي الحقيقة كنت أتوقع أن سياف قد بدأ منذ مدة في شيء مثل هذا.

ولكنني فوجئت بتأكيد جولزراك أن مثل هذا الشيء غير موجود بل أنه ـ على خطورته ـ لم يطرح للبحث ولو لمرة واحدة !

وهنا تدخل باقي الضباط واتسعت المناقشة لتشمل الوضع السياسي للقضية الأفغانية إضافة إلى وضعها الداخلي سياسيا وعسكريا، وكانت حقا مناقشة مستفيضة، بل ممتعة ومفيدة والأهم أننا خرجنا في نهايتها بقرار ومسودة مشروع لتصنيع الذخائر على أن أتولى بشخصي مفاتحة سياف وإقناعه وبدء العمل معه في المشروع.

وذلك لما يعرفونه من قوة علاقتي به ولكوني عربي ـ وهذه هي المفاجأة ـ فسوف أستطيع تحريك الموضوع أكثر من أي واحد منهم رغم أنهم من الطاقم العسكري للاتحاد! وذلك للمكانة الخاصة التي يحظى بها العرب لدى سياف!

كانت مبررات العجلة في ذلك الأمر راجعة إلى الموقف السياسي العالمي من قضية أفغانستان، إضافة إلى تطورات داخلية خطيرة.

 

الأمم المتحدة وباكستان ، لحل القضية:

ففي 22 أبريل 1983م استطاع المبعوث الخاص للأمم المتحدة لدى أفغانستان أن يتوصل إلى اتفاق بين حكومتي كابل وإسلام آباد. يقضي الاتفاق بالسعي عبر مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين وبواسطة الأمم المتحدة إلى إقرار تسوية سياسية لمشكلة أفغانستان من أجل وضع أساس دائم لحسن الجوار بين البلدين.

كانت ضربة سياسية غير متوقعة اهتز لها وضع الجهاد وبدأت تظهر أولى معالم التآمر الدولي على المجاهدين، وبواسطة باكستان المحضن الأساسي للأحزاب والمجاهدين. وكان التوقيت في حد ذاته دعما سياسيا لنظام كابل الذي يحتفل سنويا بيوم الثامن والعشرين من أبريل لذكرى الانقلاب الشيوعي.

فظهر الأمر كأنه هدية أعياد الميلاد تهديها الأمم المتحدة للنظام الشيوعى. وكانت أول إشارة عن حالة العداء المكتوم الذي تكنه المنظمة الدولية للأفغان وقضيتهم الجهادية. طبعا حاول أرباب الجهاد أن يردوا بطريقتهم التهريجية على ذلك التحدي الدولي فجاء الإعلان عن الاتحاد السباعي الذي تحدثنا عنه منذ قليل والذي نظمته الاستخبارات السعودية والإخوان المسلمون وأفراد آخرون لا ينقصهم الإخلاص ولا الأموال، ولا السذاجة أيضا.

وكان الإعلان عن قيام الاتحاد (الورقي) في 22 مايو 1983م. (الموافق التاسع من شعبان 1403هـ).

ولا شك أن الاتحاد المزعوم كان تفاقما للأزمة السياسية التي يعيشها الجهاد منذ نشأته. وجاءت الخطوة الدولية ببدء المفاوضات لتزيد الأزمة سوءا وتفتح مزاد البيع والشراء في قضية الشعب الأفغاني بل قضية الجهاد الإسلامي نفسه.

داخليا كانت هناك كارثة لا تقل سوءً. فبعد حملات بانشير التي يقال أنها وصلت إلى سبع حملات عنيفة قام بها السوفييت لتدمير قواعد مسعود في بانشير. هذه الحملات أسفرت مؤخرًا عن مباحثات ثنائية بين مسعود والجنرالات السوفييت انتهت بإعلان هدنة بين الطرفين. وكانت قنبلة أحدثت دويًا عنيفًا في أوساط المجاهدين في الداخل، ولغطا في بيشاور التي لا ينقصها اللغط.

بعض القادة المخلصين في الجبهات أخبرني وقتها بأن هدنة مسعود إنما هي طعنة في الظهر وبداية النهاية للجهاد، وفي الداخل كانت تعليقات المجاهدين تدور حول هذا المعنى.

تحدثت مع ضباط الاتحاد… وكان تقييمنا أننا أمام مؤامرة دولية وانهيار داخلي عند مسعود قد يكون مؤامرة داخلية كما يعتقد البعض. إذن عاجلا أو آجلا فسوف تقطع المساعدات الخارجية القادمة عبر باكستان، بل إنها قد تغلق الحدود في وجه المجاهدين في محاولة لفرض تسوية سياسية لقضيتهم لا توافق أهدافهم الإسلامية.

وزاد الطين بلة تسريبات روجتها الصحافة العالمية عن استعداد باكستاني لقبول حكومة شيوعية إسلامية مشتركة، يكون فيها بابراك كارمل الزعيم الشيوعي الأفغاني رئيسا للبلاد، ويكون حكمتيار الزعيم الأصولي المتشدد رئيسا للوزراء.

وبهذا يكون الرجلان القويان قادران على فرض السلام على جميع الأطراف ووقف (الحرب الأهلية في البلاد!).

كانت تلك أول إشارة، ولم يصدقها أحد خاصة نحن من السذج المتحمسين، فمهما كانت تحفظاتنا على قادة الأحزاب فلن يقبل أيا منهم بالمشاركة في السلطة مع الشيوعيين، وكم أثبتت السنوات التالية مقدارغبائنا.

المهم كان استنتاجنا الأساسي أنه لا بد من السعي نحو الاكتفاء ذاتيا من الذخائر المهمة وتصنيعها داخل المناطق المحررة من أفغانستان تحسبا لاحتمال إغلاق الحدود مستقبلا عند إقرار تسوية سياسية. وقلنا أنه حتى في حالة فشل مثل تلك التسوية أو تأخيرها، فإن امتلاك المجاهدين تلك القدرة التصنيعية والاكتفاء الذاتي في الأساسيات سوف يقوي موقفهم إزاء باكستان وأي طرف خارجي يحاول الضغط عليهم أو التأثير على قرارهم. كانت استنتاجاتنا منطقية ومعقولة وتحمس الجميع لها لدرجة أنهم تعجلوا ذهابي إلى بيشاور لبحث الأمر مع سياف والبدء فيه فورا.

كما أن الجبهة هي أفضل مكان لقضاء شهر رمضان، كذلك فإن أمتع أيام العيد تكون هناك. خاصة إذا لم يهاجم العدو. قضينا يومين من المرح ومسابقات الرماية. وبما أنني كنت صاحب الفكرة فقد اضطررت إلى تمويل برامج الجوائز. استطعنا الحصول على بعض البيض والحلوى المخزونة منذ العهد الملكي.

ولكن، نسيت أن أقول أيضا أن الجبهة هي أفضل مكان تكتشف فيه أن حتى أبشع المأكولات التي ترفضها في حياتك العادية تجدها أشهى من طعام الملوك. ودعت الجميع… مودعا ذلك الجو القدسي… مقبلا بكل أسى نحو بيشاور ثم بلاد العرب.

كان عليّ أن أقابل حقاني في مدينة ميرانشاه. وأتى معي أيضا مولوي محمد حسن لتعزية حقاني الذي توفيت أخته في شهر رمضان… وقد ترك الجبهة فجأة عندما علم بحالتها وحضر وفاتها… وما أكثر الحالات التي تلقى فيها حقاني التعازي.

 

رباني والنقد الذاتي:

(وانا) مدينة جبلية وهي عاصمة الجزء الجنوبي لمنطقة وزيرستان الحدودية، كما أن ميرانشاه هي عاصمة الجزء الشمالي. والمسافة بينهما تقطعها السيارة العادية في ثمان ساعات.

قضينا الليلة هناك في بيت ريفي ضخم يملكه أحد الأفغان ويستضيف فيه المجاهدين أثناء عبورهم رغم أن أكثر الأحزاب افتتحت لها بيوتا خاصة في المدينة. جلسنا في غرفة الضيافة وما هي إلا ساعة حتى سمعنا طلقات غزيرة تملأ السماء نورًا والأرض ضجيجا.

(لقد وصل الأستاذ رباني) هكذا أخبرنا مضيفنا. وما هي إلا دقائق حتى وجدت الرجل يجلس إلى يساري هادئا وقورا خفيض الصوت. رحبت به بالعربية ففرح كثيرا لكوني عربي فلم يكن هذا وارداً في ذلك الوقت، أي وجود العرب في تلك الأماكن واندهش أكثر عندماعلم أنني قادم من الأورجون. وبدأ بيننا حديث طويل.

وبما أننا نجلس على الأرض في بيت طيني وفي منطقة قبلية نائية تهب عليها نسمات الجهاد من أفغانستان فقد تخيلت أنه حديث من القلب خاصة أن الرجل فاجأني بكمية من الصراحة و(النقد الذاتي) لم أتوقعها أو أطلبها منه. انتقد رباني العرب وتدخلهم غير المدروس في شؤون الأفغان وأنهم يسببون من الأضرار أكثر مما يقدمون من الفوائد. وأن الاتحاد غير قائم عمليا وأن المشاكل بين المنظمات تتفاقم بسبب محاولات العرب فرض سياف زعيما للاتحاد، وقال: “نحن فاشلون ولا نستطيع أن ندير مكتبا في بيشاور… فكيف ندير دولة في أفغانستان؟”. ما زالت جملته تلك تدور في ذهني وأنا أشاهد ما يفعله الآن في كابل كرئيس للدولة هناك، وكيف أنه استبقى كل الشيوعيين المتبقين من حطام النظام السابق، واستخدمهم في نفس مواقعهم في قيادة الجيش والدولة. وكيف أنه يتحالف بشكل كامل مع بقايا جناح (بارشام الشيوعي) بينما يتحالف غريمه ورئيس وزرائه حكمتيار مع جناح (خلق الشيوعي).

في نفس ليلة وصولنا إلى ميرانشاه قابلنا حقاني الذي تحدث معنا بطريقته المعهودة عندما تداهمه الأحداث الشديدة. لا يبتسم مطلقا، يتكلم بهدوء وتركيز شديد. كنت أغبطه على تلك القدرة. كان يضع جدارا من الصلب البارد بين عقله وبين عواطفه. قدمنا له التعازي أولا، ثم الشكل النهائي للعرض الذي سوف أقدمه لسياف. فقلت له: أولا إن المشروع الاتحادي في الأساس فهذه فرصة لتقوية الاتحاد… وجعله اتحادا جديا يتولى مشاريعا جهادية حقيقية.

ثانيا أن تتولى شخصية إسلامية معروفة ومقبولة ومحترمة وجهادية الإشراف المالي والإداري على المشروع.

هذه الشخصية تتولى الدعوة إلى المشروع وجمع التبرعات له والإتفاق مع الكفاءات الفنية والإدارية في العالم الإسلامي كي تقدم خدماتها للمشروع… ولا أجد من تتوفر فيه تلك الصفات غير الدكتور عبد الله عزام. ثالثا وجود مثل هذه الشخصية يضمن (إسلامية) المشروع وينجو به من الحزبية.

فهو سيضمن مشاركة الكفاءات الأفغانية في المشروع أيا كان انتماؤها الحزبي. كذلك يضمن توزيع انتاج المشروع وفوائده على المجاهدين مهما كانت أحزابهم أو مناطقهم.

وافقني حقاني على كل ما قلت، بل أنه تحمس بشدة وقال: هذا أهم مشروع في مرحلتنا الراهنة، وقد كنت على وشك التحرك نحو الأورجون ولكن سوف أرجئ ذلك حتى تتصل مع سياف وتخبرني تلفونيا بالنتيجة.

زادني كلامه حماسا حتى طار من عيني النوم في تلك الليلة وتحركت مع أول ضوء نحو بيشاور.