شهداؤنا الأبطال: الشبل المغوار يحيى (أمير حمزة)

أبو يحيى البلوشي

 

لمّا توجّه المسلمون إلى بدر، خرج غلام اسمه عمير بن أبي وقاص، وهو في السادسة عشرة من عمره، وكان يخاف أنّ يردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغر سنّه؛ ولذلك كان يتوارى في الصفوف، ويتحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مجتهدا أن لا يراه أحد، فسأله أخوه الأكبر سعد بن أبي وقاص عن ذلك، فقال: أخاف أن يردَّني رسول الله وأنا أحبُّ الخروج، لعل الله يرزقني الشهادة، وكان كذلك، فأراد رسول الله أن يرده لأنه لم يبلُغ مبلغ الرجال، فبكى عمير، ورقَّ له قلبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه، وقُتل شهيدا في الغزوة.

في يوم أحد، ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الغِلمان لصغرهم، فرد سمُرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابني خمس عشرة سنة، وشفع أبو رافع لابنه وقال: يا رسول الله! إن ابني رافعا رامٍ، فأجازه النبي وعُرض على رسول الله سمرة بن جندب وهو في سن رافع، ورده رسول الله لصغره، فقال سمرة: لقد أجزتَ رافعا ورددتني، ولو صارعتُه لصرعتُه، ووقعت المصارعة بينهما، فصرع سمرة رافعا فأجيز وخرج وقاتل يوم أحد.

ولما انکشف المشركون یوم أحد، ضرب حنظلة فرس أبي سفيان بن حرب، فوقع على الأرض، فصاح وحنظلة يريد ذبحه، فأدركه شداد بن الأسود، ويقال له: ابن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح، فأنفذه، ومشى إليه حنظلة بالرمح وقد أثبته، ثم ضرب الثانية فقتله، فذكر ذلك لرسول الله فقال: إني رأيت الملائكة تغسِّله بين السماء والأرض بماء المزن، في صحاف الفضة، فقال رسول الله: فاسألوا أهله ما شأنه، فسألوا صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله: فلذلك غسلته الملائكة.

عندما نسمع قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنينهم إلى الشهادة، ونقرأ أعاجيب وخوارق في قصصهم، من خروج الفتية إلى ساحات المعارك وتركِ الرجل زوجته صباح ليلة زفافه للرحيل إلى ساحة القتال، ثم نرى إخلاد المسلمين إلى الأرض في العصر الراهن، وتخلّفهم عن الجهاد، وقعودهم عن التضحيات ولا نرى ذلك الشوق إلى الجهاد والحنين إلى الشهادة ولا تلك العزة التي كنا نملكها قبل أربعة عشر قرنا؛ نظن أن دور التضحيات قد تمّ، وأن النساء عقمن أن ينجبن من يغامر في سبيل الله ويشتاق إلى الشهادة منذ صغره، ويسطّر ما سطّره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن دور أحفاد عمير بن أبي وقاص وحنظلة بن أبي عامر قد تمّ ولا نجد من يتبع آثارهم.

لكني أريد أن أقول: إن هذه الأمة رغم ضعفها الذي نخر في أساسها اليوم، ورغم نسيانها لتاريخها وأمجادها، فإنها ما زالت ولا تزال تنجب رجالا شجعانا وشبابا أبطالا وفتية مغاوير يطلبون الموت مظانه ويضحّون بملذات الدنيا؛ مرضاةً لله تعالى ودفاعا عن حرمات المسلمين.

الشهيد اليافع؛ يحيى، بطل من أحفاد الصحابي الجليل حنظلة وعمير بن أبي وقاص، وهو من الذين أحيوا سنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلنوا -ببطولاتهم- للعالم أجمع بأن هذه الأمة ما زالت حية تحيي الشعوب والأمم وتسعى لاستعادة عزها ومجدها، وبأن العدو اللدود مهما اغتر بعدّته وعتاده، وبالعملاء والخونة حوله، فإن هذه الأمة زاخرة بأبطال يبذلون الغالي والنفيس في سبيل الله ولا يبالون.

 

أبصر النور شهيدنا الفذ في دار الهجرة، في أحضان أسرة مؤمنة غيورة صبورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أسرة مستعدة للتضحيات وللفداء، وكان والد الشهيد ووالدته من محبي الجهاد ومن المشتاقين للتضحية بأنفسهم وأموالهم وأبنائهم في سبيل الله.

وُلد الشهيد وهو وحيد أسرته من الأبناء، فأحبه أبواه ووفّرا له فرصا تصنع له مستقبلا رائعا.

نشأ الشهيد يحيى (أمير حمزة) في هذه الأسرة الطيبة على الفطرة والغيرة والبطولة وعلى حب الدين والقيام على حدود الله والهيام بالعبادات، وكان الشهيد منذ صباه يهتم بالصلوات والصيام ويحرص على ما أمر به الدين القويم من العفاف.

عاش الشهيد خمسة عشر سنة من عمره وكانت تؤلمه جروح الأمة المكلومة وأحزانها، وكان يتكلم دوما عن أزمات الأمة الإسلامية مع الشباب والشيوخ. ذكر أحد أصدقاء الشهيد أنه كان يقول: “إن المجاهدين يبذلون دماءهم ومهجهم في سبيل الله، والمسلمون في أفغانستان في أزمات بسبب المحتلين، ونحن نجلس في بيوتنا على سرر ناعمة، لا نؤذى في الله ولا تقرصنا في سبيله تعالى نملة”. ووصف صديق الشهيد يحيى بأنه جمرة أو أحر من الجمر لوعة واضطراما لأزمات الأمة الإسلامية، فما مضت أيام قلائل إلا ودخل الشهيد ساحة الجهاد والتحق بقافلة المجاهدين.

 

الشهيد يدخل ساحة الجهاد

كان الشهيد يقلب فكرة الالتحاق بالمجاهدين في ذهنه، فعزم وتوكل على الله واستأذن أبويه فأذنا له، رغم أن الآباء والأمهات غالبا لا يأذنون لأبنائهم بالجهاد في سبيل الله وفي سبيل نجاة الأمة، ولكن هذه الأم الصبورة المجاهدة المربية وهذا الأب الغيور العبقري أذنا لابنهما الوحيد بأن يلتحق بالمجاهدين، فودّع الشهيد أبويه في سن مبكر، حيث لم يكد يبلغ ١٦ ربيعا، وترك خلفه الدنيا وكل ما له صلة بها. ولا ننسى أن نذكر أن الشهيد قبل يومين من انطلاقه نحو ساحة الجهاد، دعاه أحد ليعمل له مقابل أجرة كبيرة، لكنه ترك العمل واحتسب الأجر عند الله عز وجل.

 

الشهيد وسماته البارزة وصفاته العالية

كان الشهيد ذا خلق حسن، يحب الدعابة وكان يشرق وجهه كالشمس ويتلألأ كالقمر لابتساماته المتتالية، وكان متواضعا رحيما بالمؤمنين وشفيقا على الفقراء، وكان يحب الفقراء ويحب أن يجالسهم ويشاركهم في طعامهم.

 

الشهيد يُحيي سنة الصحابي الجليل؛ حنظلة رضي الله عنه

كما ذكرت من قبل قصة الصحابي الجليل، حنظلة بن أبي عامر، فاليوم أريد أن أذكر قصة حفيد من أحفاده؛ ألا وهو الشهيد يَحيى.

تزوج الشهيد، وما لبث أكثر من ١٧ يوماً حتى التحق بركب المجاهدين، وترك عشيقته ليُحيي سنة الصحابي العظيم؛ حنظلة بن أبي عامر الذي ترك زوجته صباح ليلة زفافه، وهكذا استطاع أن يُثبت أن هذه الأمة ما زالت تنجب عباقرة أفذاذا يتركون ملذات الدنيا خلف ظهورهم.

 

استشهاده:

قبل استشهاد الشبل يحيى بأيام، أراد أن يرحل إلى خاشرود ليلتحق بالمجاهدين، فبدأ يودع الجميع ويطلب منهم الدعاء، ويوصي كل صغير وكبير بالدعاء له أن يستشهد في سبيل الله عز وجل، فقبل الرحمن رجاء الشهيد ودعاء أحد عباده.

وأخيرا، ألقى الشهيد عصى الترحال في 17/3/1440هـ، حيث قصفته طائرة العدو، فسقى أرض خاشرود بدمائه الغالية، وطارت روحه مع الشهداء ليتخذ مكانه في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة بإذن الله.

اللهم تقبل شهادتهم وألحقنا بركبهم يا رحمن يا رحيم.

 

أم الشهيد الصبورة المربية وأبوه البطل

لا غنى عن البيان أن لمساعي أم الشهيد في نشأة ابنها الشهيد على البطولة وعلى حب الجهاد كان له تأثيرا عظيما. وكما ربّت صفية بنت عبد المطلب ابنها العبقري؛ الزبير بن العوام على الفروسية والرجولة، وربّته على احتمال الشدائد، هكذا ربت أم الشهيد ابنها.

إن هذه الأم بالإضافة إلى أنها مربية فذة بمعنى الكلمة، فهي صبورٌ أيضا، فقد صبرت عند استشهاد ابنها وفرحت، وهي في يوم استشهاد ابنها الوحيد أحيت سنة الخنساء رضي الله عنها.

وأما والد الشهيد فكان يفتخر بابنه في حياته وبعد استشهاده.

روي عن والد الشهيد أن أحد أقربائه جاء ليتكلم معه ناصحاً إياه بمنع ابنه عن الجهاد، وذكر أنه إذا لم يمنعه، فسيموت في هذا الطريق. وبعد استشهاد الشهيد، جاء ذلك الرجل وقال: ألم أنصحك بمنع ولدك عن هذا الطريق، فها أنت اليوم فهمت كلامي ومات ابنك في هذا الطريق، فأجابه والد الشهيد بقوله: إن ابني عاش أسداً ضرغاماً، ومات أسداً حرّاً فلا أبالي بموته، بل يغمرني السرور والفرح لاستشهاده في سبيل الله.