شهداؤنا الأبطال: رجل العقيدة وبطل الجهاد؛ الحافظ محمود -تقبله الله-

أبو يحيى البلوشي

 

عشنا في هذه الدنیا حیاةً طيبةً، وأحببنا إخوانًا لم تلدهم أمهاتنا، ولكنهم كانوا أحبّ إلينا من أشقّائنا، أحبوا لقاء الله فارتحلوا إليه، وبقينا نحن نواجه فتن الزمان؛ لكنه لا مجال للحزن والكآبة إن تفرّقنا في الدنيا، فإن واصلنا درب إخواننا الشهداء، فكما جمعنا الرحمن في هذه الدنیا إخوانا متحابين؛ سيجمعنا لا محالة إن شاء الله في الفردوس الأعلی ولا فراق هناك أبدًا.

لكن المحزن أن نترك طریقهم فنسلك سبیل أهل الضلال فیفرق الله بیننا وبینهم بالجنة والنار، أعاذنا الله من ذلك‌. اللهم اجمعنا مع الشهداء في الفردوس الأعلی.

ومن هؤلاء الإخوان الذين أحببناهم في الله وصاحبناهم ردحًا من الزمن؛ ذاك البطل الأبي الذي نحن بصدد كتابة سطور من حياته الجهادية في هذه الحلقة وهو المجاهد البطل الحافظ محمود رحمه الله.

أبصر المجاهد المغوار الحافظ محمود، النورَ وفتح عینیه علی الدنیا في دیار الهجرة بإیران في تاریخ ۵/۱۱/۱۳۷۵ هـ.ش، في أسرة مؤمنة مجاهدة.

ولد الحافظ وتربی في أحضان أسرة تكبدت من مصائب الهجرة وواجهت أزمات متتالیة، وعاشت بعیدا عن الوطن حیاة حافلة بصنوف الآلام. هذا والوطن كان تحت سطوة المحتلین طوال العقود الماضیة، فبدءا من الاحتلال السوفييتي، وبعده ما إن تنفس الشعب الصعداء تحت ظل حكم الإمارة الإسلامیة حتی جاءت أمریكا بقضها وقضیضها لتدمر القری والمدن وتلقي أستار الاحتلال الغاشم عقدین من الزمن علی أفغانستان وتجر بعده أذيال الخيبة والخسران وتنسحب منها ذليلة خاسرة.

هاجرت أسرة الحافظ مع من هاجر زمن الاحتلال السوفييتي إلی إیران، کما هاجر آلاف من الشعب الأفغاني إلی باكستان، فولد هناك وبدأ الدراسة في المدارس الدينية الكبیرة لأهل السنة، الزاخرة بالعلماء الكبار، أصحاب الفضيلة والفضل والعلم والتقى، فتعلم العلم هناك سنوات ونهل من مناهل نورهم الصافي العذب، وأدرك ما یجري في الوطن، فكان یتتبع أحوال بلاده زمن الاحتلال ومدی تقدّم المجاهدين وعملیاتهم ضد المحتلين وأذنابهم.

 

بعد سنوات رجعت أسرة الحافظ إلی أفغانستان، فواصل البطل المجاهد دراسته في ولاية نيمروز، وبدأ یشارك في الجهاد أیام الإجازة السنویة، بتحريض من عمه الشهيد المولوي رحمت الله؛ الذي كان من المجاهدين السابقين في محافظة نيمروز.

بدأ حافظ حیاته الجهادية بعدما تأهل لركب الجهاد في سبیل الله، وبعد سنوات من الدراسة في نيمروز، رحل إلی ولاية فراه ودرس هناك سنة، فما إن أكمل دراسته في تلك السنة، حتی فرّق الجهاد بينه وبين الدراسة والعلم، فترك الدراسة.

نعم ترك الدراسة ولبّی نداء الله ورحل إلی ميادين الجهاد تاركا أسرته وأهله، ودراسته وكتبه، ليكون رمزًا للعقيدة الصارمة الصامدة وأسوة للمجاهدین الغرباء‌، أوما سمعتم قول الشاعر الثائر؛ إقبال اللاهوري رحمه الله حیث يقول:

من آن علم و فراست به پر کاهی نمی‌گیرم

که از تیر و سپر بیگانه سازد مرد غازی را

أي: أنا لا أقيم وزنًا لذلك العلم والحكمة اللذين تجردان المجاهد من نباله ودرعه.

 

ترك الدراسة وما ترك العلم، بل واصل دراسة بعض الكتب في مدیریة بهرامتشة وكان یطالع كتبا في موضوعات مختلفة ومتنوعة.

بدأ حله وترحاله في میدان الجهاد من بهرامتشه إلی خاشرود وتشخانسور ومدیریة كنغ (کنگ) فرغم أنه شارك في المعسكر الابتدائي، إلا أنه اشترك في دورات التدريب للأسلحة الثقلية وصنع الألغام ومعرفة البارود وصناعته، وبعد مدة من رحلته الجهادية، عندما فتح الله علی أیدي المجاهدین بعض المناطق وصارت بعض المدیریات کبهرامتشة ودیشو وغیرها آمنة للمجاهدین، واصل کفاحه في الخط الأمامي لخاشرود (في مكان للمجاهدين بقرب مديرية غرغري، القریب من ثكنات العدو بقدر كیلومترٍ) ومديريتي تشخانسور وكنغ وکان یشارك في عملیات زرع الألغام في الخط الأمامي لمدیریة خاشرود،‌ جنبا إلی جنب مع الشهید البطل المقدام حافظ محمد تقبله الله في العليين.

 

صلتي بحافظ محمود

قبل ثلاث سنوات من فتح البلد، لاقیته في الخط الأمامي في خاشرود وتعلق قلبي به في أول مجلسي معه، لما سمعت من كلماته العذبة وتعبیراته النقية الرائعة‌ حول الجهاد والمجاهدين ولأنه كان مهتم للأمة وحاملا لعقيدة تقوي قلبه وعقله، وتشحذ همته نحو المعالي، وأیضًا كان أستاذا لنا في دورة تعليم اللاسلكي والألغام وزرعها. درّسنا -وإلى جانب التدريس- كان یعلمنا العقيدة التي لا بد أن یحفظها ويعيها كل مجاهد ويحملها في قلبه، فمنذ ذاك الوقت عرفته وأحببته كمجاهد صارم صامد وكأستاذ شفيق وذي علم، وأفتخر به في حياتي بأنه أستاذي‌. صلتي بحافظ، ليست كصلة الطالب مع أستاذه فحسب، بل كانت صلة أخ بأخيه المسلم الحبيب الأكبر منه‌، رحمه الله.

كان الحافظ، ماهرًا وذا خبرة في السلاح ذي المنظار بالرؤية الليلية، حيث أرسِل مرة مع مجموعة من مجاهدي خاشرود إلی فارياب، لیشتركوا في العملیات ويعلموا المجاهدين هناك استعمال السلاح ذي المنظار الليلي وعقد دورات لتعليمهم، فكان من بین هؤلاء المجاهدين؛ الشهید البطل المقدام حافظ محمد تقبله الله والشهید الأبي، الشاب الألمعي عامر دانشجو (ابن خالتي وصديقي منذ الصغر) فوصلوا إلی فارياب وكافحوا المحتلين شهورًا وعلّموا المجاهدين استعمال هذا السلاح وسطروا أروع بطولات في تلك المنطقة، لم ینسهم حتی الآن مجاهدوا فارياب.

مكثوا هناك شهورًا، فاستشهد هناك أخي في الله، الذي أشتاق لقياه في جنان الخلد وأطلب من الله أن يوفقني للسير علی خطاه؛ فجرح الأخ عامر دانشجو والأخ حافظ محمد و حافظ محمود، فتشاوروا ورجعت المجموعة إلی خاشرود وواصلوا درب الجهاد هناك‌، ومن أبرز بطولات حافظ محمود مع حافظ محمد، هو أنهما كانا يسعيان للتنكيل بالعدو بمدیریة كنغ.

آنذاك كانت للعدو صولة وجولة في مديرية كنغ، فكان الحافظ رحمه الله وحافظ محمد ومجموعة أخرى من مجاهدي خاشرود بالمرصاد للعدو في كنغ، فمرة کانوا یزرعون لغمًا ومرة یرصدون ثكنات العدو، وهكذا بدأوا یسعون لقتال أعداء الله وبسط سیطرة المجاهدین في هذه المنطقة، إلا أن حافظ محمود لم یبق لیواصل الطریق، فأسر من جانب أعداء الله.

 

إن للحافظ، صفحات مختلفة في میادین الجهاد، لقد جرب الجراح في سبیل الله، فما من جرح في سبیله عز وجل، إلا ویأتي صاحبه یوم القیامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وجاهد كأفضل مجاهد صاحب همة راسیة وعزم یناطح الجبال، وهمة وثابة، وجرب أیضا الأسر في سبیل الله.

أُسِر الحافظ بعد أن جرحه العدو في رجله، في منطقة هور بمدیریة تشخانسور في الشهر الأول من سنة ۱۳۹۹ ه‍ـ.ش، وبقي معتقلا وأسيرا كأسد مفترس في زنازين العدو شهورا في نيمروز، وبعده نقل إلی بلتشرخي، وبقي هناك مدة ثم أطلق سراحه بفتح كابول.

 

وفاة الحافظ محمود رحمه الله

أما وفاته، فأنقل ما کتبه الأخ صارم محمود إثر وفاته:

ليس من الضروري أن تموت شهيدًا وتتناثر أشلاؤك في الحرب لتفوز وتفلح. الفلاح هو الاستقامة على المبادئ والمعتقدات، إلى آخر ساعات الحياة، والفوز أن تعيش لله ولأجل الله، تهمّك قضايا أمتك، وتشغل بالك، وتنغص عليك حياتك، فتكون دائم الفكر، متواصل العمل، دؤوب السعي، فمرة تهاجر، وتارة تحارب… فتخطب وتكتب وتربّي فلا تكلّ ولا تملّ ولا تسأم ولا تتوانى، فحياتك كلّها سعي متواصل وإعداد وجهاد مستمرّان…

إن الأخ الفقيد، والمجاهد البطل محمود رحمه الله لم يتلقى الموت في الحرب ليبسم في وجهه ويستقبله قرير العين لكنّه فاز وربّ الكعبة!

فاز؛ لأنه استقام على المبادئ فلم يثنِه الأسر ولا الجراح ولا الخطوب. وأنا شهيد من الأشهاد أشهد بأن الأخ محمود كان ذا سعي متواصل، وحماس دافق، وشجاعة منقطعة النظير، وكان ذا إخلاص وصدق، وكانت حياته عقيدة وجهاد. إن وفاة الأخ محمود إثر حادث انقلاب سيارة كان محزناً للغاية، وقد فاجأنا نبأ وفاته، فرحمه الله وتقبل منه جهاده وجراحه وأسره وصبّر أهله وذويه. انتهی کلامه.

توفي الأخ حافظ محمود إثر انقلاب السیارة بتاریخ ۱۶/۱۰/۱۴۰۲هـ.ش، في طريق الرجوع من محافظة تشخانسور إلى مرکز المحافظة، فرحل إلی لقاء الله وهو جاد علی الحق، ثابت علی العقيدة الصحيحة وأنا شهید على ذلك، فكل من شهد مسؤول عند الله عزوجل.

تقبله الله في العليين وغفرله ورحمه. اللهم لا تفتنا بعده.