شهداؤنا الأبطال: فارس البندقية والقلم الشهيد الكاتب (سياهسوار البلوشي)

أبو يحيى

 

إن الحرب بين الحق والباطل لم تزل على قدم وساق، وإن أعداء الشريعة لم ولن يعرفوا الملل والكسل، فمادام هناك راية للحق ترفرف، وثغرة تؤوي المجاهدين، فسيظلون يخططون ليباغتوا أهل الحق في ثغورهم، وينكّسوا عليهم رايتهم. كما أن أهل الحق لم یناموا يوما عن ردّ صاعهم بصاعين، ولم يتخلفوا يوما عن مقارعتهم، والوقوف في صفوف المقاومة ضدهم، وهذه حقيقة يصرّح بها سبحانه وتعالى في كتابه: “وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا”.

قبل عام استعد أعداء الشريعة لشن حملة قاضية حسب ظنهم على منطقة “خاشرود”، حيث كشّر المحتلون عن أنيابهم وبدأوا بالإقبال على الأراضي المطهرة في خاشرود مع المنافقين من بني جلدتنا؛ فأقبلوا بغثهم وسمينهم وبرخيصهم وثمينهم، وتقدموا ليستأصلوا شأفة الحق من هذه القطعة المخضبة بدماء الشهداء، وليقتلعوا جذور الجهاد ويجعلوها أسطورة في صفحات التاريخ.

فما لبثوا كثيرا إلا ورأوا أمامهم أسودا لا قبل لهم بها، وفوارس قضوا عمرهم في الحروب والمدلهمات، وارتضعوا لبان الشدائد العاتية، والمصائب الفتاكة، رجال لا تلهيم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ولا تلويهم عن سبيله عز وجل، كواسر مازالت مناهم أن يخضبوا الأرض بدمائهم وهم في خدمة هذا الدين وأن يعلوا كلمة الله عزوجل فوق كل مكان عليّاً. فقُتل إثر هذه الغارة العنيفة رجال من أعظم الناس مكانة عندالله وعندالناس (نحسبهم كذلك والله حسيبهم) واستشهد عدة من أبطال هذه الأرض المباركة بعد مغامرة واقتحام شديد وإثر الخوض في معركة شديدة، وكان من بينهم الحِبّ الحبيب والمفكر الأريب والشاعر اللبيب “أبو الدرداء” الشهير بـ”سياهسوار” رحمه الله، الشاعر المتدفق حيوية وعاطفة وحماسة لدين الله عز وجل.

أبصر شهيدنا المفكر النور في دارالهجرة بإيران ليكون أسوة عمليةً ونبراسا حقا للمثقفين ورجال العلم والجامعات وليكون أنموذجا مثاليّا للشاعر الأبي “محمد إقبال” الباكستاني رحمه الله.

بدأ (خسرو دهواري) الشهير بـ”سياهسوار” حياته في أحضان أسرة مثقفة، والتحق بالمدرسة النظامية وهو ابن سبع سنوات، فبدأ حياته الدراسية وتعلّم العلم ليمهّد الطريق لخدمة شعبه بقلمه وعلمه، فبدأ يكتب في المواقع ليتكلم بلسان الكتابة عن أزمات مختلفة واضطرابات متنوعة للمجتمع وأرزاء لم يتفوه أحد بكلمة حولها، ولقد امتزجت العاطفة والشعور بكلماته وبات مختلطا بكتاباته، فكان يكتب بدافع الحرقة في قلبه، وباعث النار التي تشتعل بين جنبيه.

مرّت على شهيدنا المقدام “سياهسوار” المغوار (تقبله الله) في ديار الهجرة سنوات عديدة حتى أحسّ قلبه بحرقة لا مثيل لها من قبل، كان يشعر بجرح غائر لا يندمل بريشة القلم، وغليل لا يشفيه حبر الدوات على الأوراق، شعر بأن الأمة تحتاج إلى الدماء، ولا ينصر دين الله إلا جماجم القتلى وأشلاء الجرحى، وألهم بأن البلاد لا تفتح إلا بعد أن تروى بالدماء، ولا يمكن ازدهار الأمة الإسلامية على القمم الشامخة إلا بذروة الإسلام والجهاد، ومن جمع بين السيف والقلم فهو أعظم أجرا وأكبر منزلة عند الله ممن يحرك ريشة قلمه فقط.

فهاهو الصراع قد وقع بين الحق والباطل، بين ملائكة الرحمن وجنود الشيطان. وكان البعض يشعلون في قلبه الشوق إلى المعمعات وإلى سنابك الخيول ورعود السيوف، وآخرون يخوّفونه من بقاء الأهل بلا عائل، لكن الله مالك القلوب وتدور القلوب بين إصبعيه فقلّب قلبه إلى الحروب الضارية، وإلى ميادين الفروسية ليكون خيرسلف لمن اتبعه، فترك الأهل والولد في الثلاثينات من عمره، وهاجر إلى أرض العز والشرف، ميدان الرجال والأبطال، هاجر إلى أفغانستان ليجمع بين حبر الأقلام ودماء السيوف، ليكون من العالمين العاملين، من الذين يستعلون على الدنيا وعلى مافيها من الرخيص والنفيس، ويعزفون عن الشهوات، وينكبّون على البنادق في الخنادق؛ يقبضون الجمر ليحتفظوا بالثغور وليحيوا الضمائر الميتة، ولا يكونوا من المسلمين الذين يقضون أيامهم في سبات عميق ويعيشون في لامبالاة عن بؤس الأمة الإسلامية، لئلا يوافق حالهم قول النبي عليه السلام إذ يقول: مَنْ أَصْبَحَ لا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ.

أقبل على ميادين الجهاد وهو شاب، له کأي إنسانٍ شهوات بشرية، وميولات نفسية، ورفاق وأصحاب، وأسرة تتلهف له وهو يتلهف لها، وعلاوة على ذلك كان له قلم شلال، وكان رجلا مثقفا ذا علوم وفنون، كان بإمكانه أن يرتزق منها ويعيش بجنب أهله قرير العين مرتاح البال، بل وكان له أن يذب عن الشريعة بقلمه بعيدا عن ساحات القتال بمسافات مبررا لنفسه قعوده، ولكنه لم يفعل ذلك، ولم تنحرف نفسه عن درب الجهاد ناحية إلى الراحات قيد شبر، بل ضحّى بجميع ذلك؛ بأسرته، ورفاقه، ولذاته، وراحته، فلم تستطع الدنيا ولا بهرجتها بأن تثنيه، بل ولم تغرِه بعدما عرضت نفسها بجميع زخرفها ولمعانها عليه، فجعلها موطئ الأقدام واتجه إلى الله ليلقاه مخضبا بالدم وممزعا ممزقا ولسان حاله يقول:

 

فلست أبالي حين أقتل مسلما   على أي شق كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ    يبارك في أوصال شلو ممزعي

بدأ الشهيد البطل حياته البطولية من جديد وشدّ الرحال للالتحاق بالرجال والخوض في معارك عنيفة لا تصبر لشدتها قلوب الرجال، فالتحق بهم وبدأ بنشاطات مختلفة، فجمع بين السيف والقلم وبين خدمة الأمة بما استطاع، فكان في إحدى يديه السيف وفي أخرى القلم، يوم تراه يخوض في المعارك ويشد السير نحو الأعداء ليعمل السيف في رقابهم، ويوم آخر تجده في زاوية يكتب عن الأمة الإسلامية ويحرض الشباب على الجهاد والدمع يهطل على خديه كهطول الأمطار، ولو استمعت إلى تسجيلاته الصوتية التي يتكلم فيها عن أصدقائه الشهداء، وعن بطولاتهم لتعجبت من عاطفته الفياضة.

 

لقد غمرتني الحيرة والعجز عن وصف شعره واشتعال العاطفة في أشعاره، لا أقول: إنه كان شاعرا صاحب دواوين يقرظ الأشعار كالشاعر العبقري محمد إقبال، ولكن عندما يبدأ بأشعاره الممتزجة بالشعور؛ ستشعر بالألم الذي تشعره في سويداء قلبك من كلمات محمد إقبال وأشعاره.

لقد كان الشهيد البطل يألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف، كان يعامل مع المجاهدين كأخ كبير ذي شفقة لهم، يحرضهم على عبادة الله عز وجل ويحرضهم على الصبر في ميادين القتال والنضال، ويظهر حبه لهم ليشتاقوا أكثر لصحبته وإخائه.

أما عن حبه للمجاهدين فماذا أقول، وكيف أعبر عن حبه والكلمات تعجز عن حملها. عندما اسشتهد صديقه الحنون أنس تقبله الله في “فراه” كاد أن يتفجر حزنا وأسى عليه، لكن رضي بقدر الله وصبر ليلتحق به، فما مضت أيام إلا والتحق ثلاثة رجال بركب الشهداء، منهم الشهيد الكاسر أيوب، والفارس المجيد “نعيم الله” القدوري، فقد اشتد حزنا عليهم وصبر واحتسب، وبعد أيام قلائل شهد ارتحال الشهيد الأبي؛ سلمة بن الأكوع زمانه؛ “أسامة” ببرك، فانفجرت أحزانه واشتعل قلبه وبكى بكاءً لم يبك مثله من قبل. وعندما تستمع إلى تسجيل صوتي له في هذا الأوان، لاشتعلت كاشتعاله هو ولبكيت لو كان بين حناياك قلب.

لقد خدم (سياهسوار) الساحة بقلمه بما لا يتسع المقال لذكر جميعه، ولقد كانت له يد مرفوعة وخبرة وبراعة في وسائل الإعلام، فكان لا يهمل ولا يمهل ويسعى ويجتهد في نشر الإسلام، وذياع صيته في العالم من هذا الطريق، وكان يقابل إعلام العدو مقابلة عنيفة ويرد عليه ردا شديدا.

حمل بإحدى يديه القلم وبالأخرى البندقية، ليذب عن الشريعة في كلتا الجبهتين، ويكيل العدو الصاع بالصاعين، ويحاربه من أعلى الرأس وحتى أخمص القدمين. فكما أنه كان مجاهداً في الثغور يصوب فوهة بندقيته نحو رؤوس الأعداء؛ كان قلمه يصول في ميدان الكتابة ليحز بقلمه الحاد رؤوس الشبهات والشكوك، ويفند ما يختلقه الأعداء، وما يفبركه فسابكة العدو صباح مساء.

فتاقت نفسه أخيرا إلى الشهادة، فتمنى الشهادة من أعماق قلبه، وصدق الله في سؤله؛ فصدقه الله واختاره شهيدا ليلقاه وهو راض عنه وضاحكا إليه، فسقط يوم السبت في حزام المجاهدين بمديرية خاشرود شهيدا متلطخا بدمائه. فرحمه الله ورفع درجاته في بحبوحة جناته.

قضى كاتبنا الألمعي نحبه في الله في حملة جوية جبانة شنتها القوات الأمريكية على حزام مجاهدينا المتين بمديرية خاشرود بمحافظة نيمروز

وألقى كاتبنا العملاق عصى الترحال مستريحا إلى الأبد بعدما ذاق ردحا من الزمن وعثاء الطريق وتجشم علقمها.