عبدالله ابن المبارك…شجاعة نادرة وخبرة عسكرية

الكاتب “محمد داود الحقاني”

 

ليس من نافلة القول ومكرر الكلام: أن الأمة الإسلامية مازالت تجود بشخصياتٍ عظيمة وعلماء عباقرة وأبطال ومجاهدين وضعوا خناجرهم في أعناق الجبابرة والمتغطرسين والمتكبرين، وقلبوا كراسيهم التي تبوؤوها بتواطئهم مع اليهود والخونة وعبدة الدراهم في حفلات المجاملة والمماطلة ومؤتمرات التزييف والأكاذيب والأراجيف؛ فكانوا شوكة مؤلمة غصّت بها حناجر الأعداء. وهم زيادة على ذلك لم يقتصروا على جانب واحد طيلة حياتهم، فلم ينحصروا في الانكباب على الكتب أو التعلم أو حلقات التعليم فحسب! -كما هو المعروف عندنا- بل جمعوا بين العلم وتطبيقه، وأحيوا السنن المنسية، وجددوا الذكريات الماضية وأعادوا للأمة الإسلامية مجدها المفقود منذ قرون، ثم إنهم قد خاضوا غمار المعارك والغزوات فلم ينفضوا منها أياديهم، ولم يقعدوا دون الوصول إلى أهدافهم إلا وقد فتحوا ميادين القتال والأراضي المقدسة، والمواطن الطيبة المتيمنة. وإضافة إلى ما سبق أنك -أيها القارئ- إذا أردت البحث عن أسماء هؤلاء الأفذاذ في طبقات المحدثين لوجدتها تلتمع وتجلو في عِقدهم، وإذا أردت البحث عنهم في فهارس علم الرجال والجرح والتعديل وبالأخص: علوم السنة النبوية، لوجدتهم في طليعة الرجال الذي ذادوا عن السنة النبوية، وذبّوا عن حريمها، وبتعبير أوجز: إذا كنت تتمنى أن تتطلع إلى البنيان الإسلامي المتكامل في العقيدة وفي التوحيد وفي التعبد والتزهد لتجد نفسك تقف على عتبة باب عبد الله بن المبارك؛ -طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه- بما أنه لم يترك أي جانب من جوانب الحياة -فردية كانت أو اجتماعية- إلا وقد جرّبه وذاق حلوه ومره و خيره وشره.

ويروقني في هذا الصدد أن أتطرق لذكر كلمة قالها محمد عثمان جمال في كتابه (عبد الله بن المبارك الإمام القدوة) فأفاد وأجاد مع شيء من التغيير والتعديل حسب ما يقتضيه المقام: “كان الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك رضي الله عنه العالم العامل والمؤمن القوي، فقد كان مع علمه الغزير وزهده العجيب وورعه وتقواه من أكبر المجاهدين، ومن أرباب السيف كما كان من أرباب القلم والقرطاس، وقد كان إماما في ساحة الجهاد كما كان إماما في محراب المسجد، وذلك لأن العلم والتقى والزهد والورع ليست من مبررات القعود عن الجهاد والرباط في سبيل الله كما اعتاد المسلمون عليه في عصرنا الحاضر، أو كما نرى بعض أدعياء العلم والزهد في عالمنا المعلصر بل كل ذلك يؤكد الجهاد ويدفع إليه ويجعله أوجب وآكد” ..(١) هذا
ويقول عنه العلامة الذهبي: “الإمام الحافظ شيخ الإسلام فخر المجاهدين قدوة المجاهدين صاحب التصانيف النافعة أفنى عمره في الأسفار حاجا ومجاهدا وتاجرا… والله إني لأحبه، وأرجو الخير بحبه؛ لما منحه الله من التقوى والعبادة والجهاد في سبيل الله وسعة العلم والإتقان والمؤاسات والفتوة والصفات الحميدة”.

ولله در إسماعيل بن عياش حيث صور لنا الشيخ ابن المبارك بصورة جيدة وأثنى عليه ثناء عاطرا فقال: “ما على وجه الأرض مثل عبد الله ابن المبارك ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك” (٢).

هذا وسنتحدث في هذا المقال الوجيز عن مواقف هامة وصفحات جهادية مع ذكر جانب يسير من خبرة عسكرية وبطولة نادرة عن حياة هذا البطل الذي خلد ذكره في صفحات التاريخ، والذي هو موضوع مقالنا في هذا العدد..
فمما لاريب فيه أن عبد الله بن المبارك كان يتمتع في أعماله الجهادية بشجاعة نادرة وخبرة عسكرية مع الإلمام الجيد بفنون المبارزة، وتدابير الحرب وتدريبها، والعجب العجاب أنه كان يؤدي هذه الأعمال خفية، وينجزها في صمت وهدوء لا يعرفها أحد من أقرانه ولا من معاصريه…لا كما يفعله اليوم كثير من الناس السذج الضعاف الذين يصغرون الكبير ويكبرون الصغير، ويقدمون المؤخر ويؤخرون المقدم، فأحيانا تجدهم متظاهرين على منصات الشهود وعبر الإعلام والشبكات العنكبوية وكأن خدماتهم قد بلغت الذروة العليا من الكمال، ولكن بعدما تمضى عليهم مدة غير طويلة فإذا بهم يتراجعون عن القضايا التي تعرضوا لتحليلها في بادئ الأمر، فتذبل أزهارهم وتبقى حياتهم بلا إنجاز تذكاري حري بأن يكتب في دواوين التاريخ، {وأما الزبذ فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} ودعك عن هذا  وذاك و لنعد إلى ما كنا بالأصل عنيناه: وهو أن ابن المبارك قد امتثل لقول الرسول -صلى الله عليه السلام-: في أعماله الجهادية (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم) وتحضرني في هذا الصدد أبياته التي أنشدها، وقد برزت من خلالها شخصيته المخلصة:

 

بغض الحياة وخوف الله أخرجني

وبيع نفسي بما ليست له ثمنا

إني وزنت الذي يبقى ليعدله

ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا (٣)

 

“وقد كان يحضر القتال، ويبلى بلاء حسنا فإن كان وقت القسمة غاب فقيل له في ذلك، فقال: يعرفني الذي أقاتل له” (٤).

وثمة مواقف كثيرة كلها تدل دلالة واضحة على أن ابن المبارك قد امتاز بشخصه الكامل المتزن القوي البارع في الحروب وعند التقاء الصفين.

*الموقف الأول: هو ما ذكره صاحب كتاب “شخصيات استوقفتني” نقلا عن “سير أعلام النبلاء” وهاك نصّه: روى الذهبي عن عبد الله بن سنان، قال: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرسوس فصاح الناس: النفير النفير فخرج ابن المبارك مع المقاتلين، فلما التقى الصفان خرج رومي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال يا فلان، إن قتلت فافعل كذا كذا … ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالجه ساعة فقتل العلج، وطلب المبارزة فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج، وطلب المبارزة فكاعوا -جبنوا- عنه، فضرب دابته واخترق الصفوف ثم غاب فلم نعلم عنه شيئا ثم رأيته في الموضع الذي كنت فيه، فقال لي: يا عبد الله حدثت عني أحدا وأنا حي… وذكر كلمة …(٥)

فياله من موقف عظيم في غاية العظمة! وغريب في أقصى الغرابة! وقد يتحير القارئ بمجرد قراءة هذا المنظر المدهش إذ أنه كيف استطاع مقاومة ستة رجال وحده هو؟ ولولا رُئي بالعين، وسمع بالأذن، وألف بالقلم، وخطب باللسان، لقال القائلون: إن هذا يستحيل!! فهذا وإن دل على شيء فهو إنما يدل على أن ابن المبارك قد امتاز من بين العلماء بالتدريب الجيد والاطلاع الوسيع بتداريب الحرب..

*الموقف الثاني: وهو أغرب مما سبق بنا ذكره آنفا من حيث إنه يحمل في طيه معاني الحيوية والشعور الإسلامي والغيرة الدينية والشجاعة والقوة النادرة التي قلما يتصف بها الأبطال الآخرون -إلا ما شاء الله- وهو كما يلي: “روى الذهبي عن عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة فخرج إليه رجل فطارده ساعة إلى أن طعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو فيما خُيِّل إلي عبد الله ابن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه عن الناس بكمه فأخذت بطرف كمه وحذبته فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنّع علي…(٦)

ومن ثمة يقول عنه صاحب كتاب العبر: “كان رأسا في الشجاعة ويحج سنة ويغزو مرابطا في سبيل الله في الثغور سنة” (٧).

ولعل هذا هو العمل الوحيد الأساسي الرئيسي (كفاحه المستمر عن الأمة الإسلامية) الذي بسببه قد غفر الله له مغفرة، وأسكنه فسيح جنانه!  ويؤيد ما ذكرناه قول فضيل ابن عياض: “رأيت ابن المبارك في المنام، فقلت: أي العمل أفضل؟ قال: الامر الذي كنتُ فيه، قلتُ: الرباط والجهاد؟ قال نعم، قلت: فما صنع بك ربك؟ قال غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة”(٨).

وفي نهاية المطاف يجدر بنا أن نقف وقفة يسيرة عند النتائج العظيمة التي تحصلنا عليها من خلال هذا المقال، وهي أن العكوف على العلم والتعبد والتزهد لا ينفي أن ينخرط الرجل في سلك العلماء الذين إذا وصلوا إلى الثغور والجبهات اجتمع المجاهدون حولهم، يتلقون منهم العلم، ويكتبون عنهم الحديث النبوي الشريف كما يتعلمون منهم الشجاعة والبسالة والجرأة والبطولة، وأولى بنا أن نردد ذكريات سلفنا الصالح والأبطال الذين أخلصوا دينهم لله وإنتاجاتهم  وبطولاتهم النادرة الجهادية التي تعتز بها المكتبة الإسلامية حتى نقدر على ممارسة الحروب العسكرية التي مازالت مستعرة في ديارنا، والتى أشعل فتيلها من قبل دونالد ترامب وعبدة الدراهم وخونة الأمة، وهذه تمنياتي فياليتني هل بلغت ما أحلم به؟!

_________________________
(١) عبد الله ابن المبارك الإمام القدوة، لمحمد عثمان جمال، صفحة رقم: ٢١٦. الناشر: دار القلم دمشق، الطبعة الرابعة، ١٤١٩ه‍- ١٩٩٨م
(٢) المرجع السابق.
(٣)شخصيات استوقفتني، د. سعيد رمضان البوطي، صفحة رقم: ٥٨. والمرجع السابق صفحة رقم: ٣٠٣، شذرات الذهب، (١/ ٢٩٦) وفيات الأعيان، (٢/ ٢٢٩)
(٤) المرجع الأول السابق، صفحة رقم: ٢٢٠، وذيل الجواهر المضيئة، (٢/ ٥٣٤)
(٥) المرجع ذاته، صفحة رقم: ٦٦- ٦٧، وسير أعلام النبلاء، المجلد الثامن صفحة رقم: ٤٠٨.
(٦) المرجع السابق.
(٧) تقدمة الجرح والتعديل صفحة رقم: ٢٧٨.
(٨) سير أعلام النبلاء، المجلد الثامن.