مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق

أبو محمد

 

إنّ كتاب « مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق» كتابٌ عظيمٌ في فضل الجهاد والمجاهدين، ألفه الإمام العالم المجاهد الشهيد أبو زكريا: أحمد بن إبراهيم بن محمد، الشافعيّ، الدمشقيّ، الدمياطي، المعروف بابن النحّاس المتوفى سنة (814 ﻫ)، شهيدًا في منطقة دمياط في مصر.

وقد عاش الإمامُ الجهادَ حالة واقعة في حياته، حيث نشأ في دمشق نشأة جهادية، ومارس الجهاد فيها عمليًّا، ولما انتقل إلى مصر وأقام في دمياط حوالي عشر سنين، جاهدَ فيها جهادًا صادقًا عمليًا، وكان يقود أهل دمياط وما حولها في جهاد الصليبيين، وصد غاراتهم، وختم الله حياته الجهادية بالشهادة، واتخذه شهيداً، حيث استشهد في معركة “الطينة” قرب دمياط سنة 814هـ.

قال الإمام ابن حجر العسقلاني في (إنباء الغمر بأبناء العمر) عن هذه المعركة: «وفي ربيع الآخر من سنة ثمانمئة وأربع عشرة للهجرة وصلتْ طائفة من (الجنوية) – نسبة إلى مدينة جنوا في إيطاليا التي كان يخرج منها الصليبيون لمحاربة المسلمين- إلى الإسكندرية، فقاتلهم أهلها، وأسروا منهم كثيرين، وقتلوا منهم كثيرين… وسار هؤلاء (الجنوية) إلى (الطينة) وسَبوا منها نساءً وصبيانًا، وكانت فيها وقعة كبيرة، وخرجت طائفة من أهل دمياط لنجدة أهل الطينة، وكبيرهم محيي الدين ابنُ النحّاس، وكان ملازمًا للجهاد بثغر دمياط، وفيه فضيلة تامة، وجمع كتابًا حافلاً في أحوال الجهاد، فقُتِل في المعركة، مقبلاً غير مدبر…»

وبهذا جمع الإمام ابن النحّاس بين العلم والعمل، والدعوة والجهاد، وكان في مقدّمة المرابطين المجاهدين، وقد ختم الله حياته بالشهادة، التي طالما تمنّاها وحرص عليها، وسأل الله أن يرزقه إياها.

وبهذا كان لكتابه مذاقٌ خاصٌ، وتأثير خاصٌ، ومعلوم أنّ العالمَ الكاتبَ يكتب الله لكتبه القبول، لأنه كتبها مرتين: مرة بمِدادِ العالم، ومرّةً بدماء الشهيد، وكان ابن النحّاس ممَّن تحقق فيه وفي كتابه هذا الوصف الكريم!
والذي دفع ابن النحاس إلى تأليف كتابه هو ما رآه من وجوب الجهاد على مسلمي زمانه، بسبب الهجوم المغولي والصليبي عليهم، ولكنهم انصرفوا عنه، وتثاقلوا ونكصوا عن ميدانه، فأراد ابن النحاس أن يشحذ هممهم، فألف لهم هذا الكتاب لتحقيق هذه الغاية. وألفه في حوالي عشرة أشهر، قبل استشهاده بسنتين.

 

يقول رحمه الله تعالى  في سبب تأليف الكتاب:

” ولما رأيت الجهاد في هذا الزمان قد درست آثاره فلا ترى، وطمست أنواره بين الورى، وأعتم ليله بعد أن كان مقمرًا، وأظلم نهاره بعد أن كان نيّرًا، وذوى غصنه بعد أن كان مورقًا، وانطفأ حسنه بعد أن كان مشرقًا، وقفلت أبوابه فلا تطرق، وأهملت أسبابُه فلا ترمق، وصفنت خيوله فلا تركض، وصمتت طبوله فلا تنبض، وربضت أسوده فلا تنهض، وامتدّت أيدي الكفرة الأذلاء إلى المسلمين فلا تقبض، وأغمدت السيوف من أعداء الدين، إخلادًا إلى حضيض الدعة والأمان، وخرس لسان النفير إليهم فصاح نفيرهم في أهل الإيمان، وآمت عروس الشهادة إذ عدمت الخاطبين، وأهمل الناس الجهاد كأنهم ليسوا به مخاطبين، فلا نجد إلا من طوى بساط نشاطه عنه أو اثّاقل إلى نعيم الدنيا الزائل رغبة منه، أو تركه جزعًا من القتل وهلعًا، أو أعرض عنه شحًا على الإنفاق وطمعًا، أو جهل ما فيه من الثواب الجزيل، أو رضي بالحياة الدنيا من الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.

أحببت أن أوقظ الهمم الرُّقَّد، وأنهض العزم المقعد، وألين الأسرار الجامدة، وأبين الأنوار الخامدة، بمؤلف أجمعه في فضل أنواع الجهاد والحض عليه وما أعدّ الله لأهله من جزيل الثواب عنده وجميل المآب لديه، وما ادّخر لعباده المرابطين والشهداء، وما وعدهم به من الكرامة في جنته دار السعداء. فاستخرت الله سبحانه وألقيت إليه مقاليد الإذعان، وبرأت إليه من الحول والقوة وما يعتري الإنسان من النسيان.

مع أن فهمي قاصر وباعي قصير، وعزمي متقاصر وجناحي كسير، وهمي متكاثر وشغلي كثير، وعجزي ظاهر ومالي ظهير، لكن الرب سبحانه عند القلوب المنكسرة وإذا رجاه المقصر ستر وصمه وجبره، وهو حسبي وكفى.  وسميته :” مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام”.

رحمَ الله الإمامَ العالم، والمجاهد المرابط، والدّاعية المصلح، والمقاتل الشهيد ابن النحّاس رحمةً واسعة، وجزاه عن دينه وأمته خير الجزاء.