عذراً يا أطفال الشام

سعد الله البلوشي

عندما أكون مرهقاً من مطالعاتي وكتاباتي اليومية، ألذّ شيء يكون لدي في هذه الأثناء أن أخرج من مكتبتي نحو غرفة الجلوس لألعب مع بُنيّتي الصغيرة بعدما آمر أمّها بإعداد الشاي الأخضر، وأفضل لعبة عندنا في المنزل عادةً «طار الحمام حطّ الحمام» وهي بسط اليدين على الأرض، والخصم يتحفّز لضربهما فيسرع صاحب اليدين إلى رفعهما في الهواء قبل نزول الضربة عليهما ثم تحط اليدان وهكذا بالتبادل.

وهذه اللعبة ليست لعبة جديدة؛ بل قد جعل محمود درويش هذا الشعار محور قصيدة محكمة البناء من أجمل قصائد الشعر الحديث، وأخرجها عن سذاجة تلك اللعبة القروية وعمّق دلالاتها.

وفي هذه الأثناء تتوقف طفلتي عن اللعبة، وتحدق بعينيها وتسأل: أبتاه! ما هذا الصوت المرعب؟

أتعجب وأقول: أي صوت تقصدين، فإني لا أسمع حسيساً أو ركزاً؟ تقول: لا يا بابا، اسكت تماماً واسمع جيداً من جديد فستسمع صوتاً، وهذا الصوت يزعجني في المنام أيضاً.

أجمع خاطري، وأرهف سمعي وأشحذه لأفهم ماذا تقصد بنيتي.

إي نعم؛ يا حبيتي! إنه صوت تلكّ الساعة الجدارية، انظري هذه العقربة تتحرك فتخلف هذا الصوت، وإن خفتِ فلا عجب، فقد خاف قبلكِ أبوكِ من هذا الصوت عندما كان طفلاً مثلك.

أجل؛ عندما كنتُ صغيراً ولا أدري أكنتُ في السادسة من عمُري أم في السابعة، أصابني سُهاد وأرقٌ في إحدى الليالي، فلم أعرف طعم النّوم والكرى حتى مضى هزيع من الليل، فكان هنالك شيء لا أدري ما هو، يتكّ في البيت تكّاً منتظماً، فتارةً يخطرُ ببالي أن بُعْبُعاً يتقدّم نحوي شيئاً فشيئاً يريد أن يخنقني أو يضربني.

يا سلام! ما هذا الذي يصرّ على إزعاجي ويحرمني الراحة والنّوم، ماذا أفعل!؟

عشتُ برهةً بين القلق وهاجس الخوف، أرى أشباحاً تفلق كبدي، وتسرق مني الراحة والاطمئنان والهدوء، فيا تُرى هل جربتم ذلك أم لا؟

فالطفل الصغير لا يتحمّل قلبه هذه الهواجس المخيفة، ولا الأشباح المرعبة، لأنه يحمل بين جنبيه قلباً لطيفاً صغيراً، يسكن بالهدوء والراحة لا الخوف والقلاقل.

أظنّ بأنني ما اكتشفت هذا السرّ إلا بعد مدّة طويلة، بأنّ الذي كدّر صفو خاطري هو هذه التكّات التي كانت تصدرها الساعة الجدارية التي كانت تخلع قلبي الصغير بكل تكّ، وأحسبها بعبعاً.

ههنا أبتعد عن طفلتي وأتصوّر مدى خوف بُنيتي الصغيرة بمخاوف أطفال حلب الذين هم في سنّ الورود والبراعم، فهم لا يرون أشباحاً بل يستيقظون -إن لم يقتلوا- على أصوات براميل الطغاة ونيران البغاة، فقد تستيقظ طفلة ولا ترى أباً أو أماً أو إخوة و أخوات، كلهم قتلى أو جرحى تحت الأنقاض.

أطفال سوريا عموماً -وحلب على وجه الخصوص- ربما نسوا ألعاب الصغار، فليس لي إلا أن أقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وآهٍ على أمة مات ضميرها.