غزة التي أسقطت الأقنعة

رِحاب

 

في الحين الذي تستقبلُ فيه معظم بقاع العالم الإسلامي شهر رمضان المبارك بالاستزادة من العبادات والطاعات والنوافل والاعتكاف في بيوت الله طالباً لمرضاته، تستقبلُ غزة هذا الشهر العظيم بذروة سنام الإسلام؛ الجهاد في سبيل الله، أجلّ العبادات وأسماها، إذ تجاهد -نيابة عن الأمة الإسلامية- دفاعاً وحماية لدينها ولعرضها ولأرضها ولشرفها، وبذلت في هذا السبيل ما أمكنها من أسباب الأرض، ولسان حالها:

 

وَما العَيشُ؟ لا عِشتُ إِن لَم أَكُن *** مَخُوفَ الجَنابِ حَرامَ الحِمى

إِذا قُلتُ أَصغى ليَ العالَمونَ *** وَدَوّى مَقالي بَينَ الوَرى

 

فحتى ساعة إعداد هذا المقال، بلغ عدد الشهداء -بإذن الله- الذين ارتقوا نتيجة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني المجرم في قطاع غزة منذ أكثر من خمسة أشهر؛ 31,112 شهيداً، و72,760 جريحاً، جُلّهم من الأطفال والنساء.

عشرات الآلاف من الأناسيّ، لكل واحدٍ منهم قصته وأحلامه وأمانيه وأفراحه وأتراحه وهمومه ومطامحه وحركاته وسَكَناته وذكرياته وضحكاته ومدامعه و…، قتلتهم وأسكتت أنفاسهم يد الاحتلال الصهيوني المصبوغة بدماء أجدادهم وآبائهم، قبل دمائهم!

 

ما أسقطَ شيءٌ الأقنعة عن حكومات الغرب ومؤسساته ومنظماته التي تزعم حيادها ودفاعها عن حقوق الإنسان وما كشف قُبْحَ وبشاعة وجوههم؛ كما أسقطها وكشفها مؤخرًا الشعب الفلسطيني في غزة الذي يُباد ويُهجّر منذ 157 يوماً ويُنكّل به ويُقتل بشتى أنواع القتل؛ قصفًا وتجويعًا وقنصًا. فلم تكتفِ هذه الحكومات والمنظمات بالصمت عن المجازر المروّعة التي أوغلت فيها يد الاحتلال الصهيوني، لا! بل إنها رحّبت بهذه المجازر كثيراً وصفّقت لها ووصفتها بـ”الدفاع عن النفس”! وأطلقت يد المحتل الصهيوني ليعربد كيفما شاء، ما دام أداتَها وعصاها الغليظة في منطقة الشرق الأوسط.

وفي لحظة تجلٍّ نادرة وتاريخية، يعبّر فيها العالمُ الغربي عن مكنون حقيقته وجوهره بمنطوق لسانه، بعيداً عن سِمَتِه المعتادة في النفاق والكذب والدجل وبيع الشعارات الجوفاء والكلمات الفارغة لجموع المُغفّلين والحمقى؛ يقول (بايدن) تعبيراً عن هذه الحقيقة، صراحةً وبكل صدق: “ليس هناك خط أحمر تجاه إسرائيل (ونحن نقول: الكيان الصهيوني)، ولن أتخلى عنها أبدًا، ولن أقطع عنها الأسلحة”!

لا بأس يا بايدن! لا تقطع دعمك عن الكيان الخبيث الذي زرعتموه -عنوة وقهراً- في قلب عالمنا العربي الإسلامي؛ لأنه -طال الزمان أم قصّر- ستقطعه أيادي المجاهدين القادمين من رحم الغيب، الذين لم يتلوثوا بثقافة الذل والخنوع، المتنزّهة نفوسهم عن القابلية للاستعمار الفكري فضلاً عن الاستعمار الفعلي، ليعيدوا الأرض المباركة طاهرة من دنس بني صهيون ورجسهم، كما كانت بالفعل.

 

يظُنّ الكيان الصهيوني الغاصب -وبئس الظن- أنه بإمعانه في البطش والوحشية والهمجية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ سيُرهب هذا الشعب -والشعوب العربية القريبة جغرافيًا بطبيعة الحال- وسيُثنيهم عن مقارعته ومقاومته وتحرير البلاد من احتلاله! ولكن التاريخ والشواهد والوقائع جميعها تؤكد حقيقة واحدة؛ ألا وهي: أنّ المقاومة والمقارعة والنِزال في علاقة طردية أبداً مع الظلم والبطش والقهر؛ فلا يزدادُ ظالمٌ في ظلمه، إلا وازداد مقاومٌ في مقاومته، وهذا القانون لا يسري فقط في عالم المُستَبِدّ والمُستَبَدّ به؛ بل يسري حتى في عوالم أخرى مختلفة تمام الاختلاف.

فروح الشريفِ الأبيّ يُذكيها ويُشعل نارها ويُضيءُ نورها، أمران؛ الرغبة في نيل وافر الأجرِ والكرمِ الذي أعدّهما الله -عز وجل- للمجاهين والشهداء، ثم الاقتصاص والثأر من الجائر الظالم، لا سيما وإن طالت وعظُمَت فاتورة ظلمه وجوره.

 

فَكَيفَ اِصطِباري لِكَيدِ الحُقودِ! *** وَكَيفَ اِحتِمالي لِسَومِ الأَذى!

أَخَوفاً!؟ وَعِندي تَهونُ الحَياةُ *** وَذُلّاً!؟ وَإِنّي لَرَبُّ الإِبا

 

يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: “إن العواصف الجوية والأعاصير تجرّ معها غالبًا سيولًا هائلة من الماء، سيولًا تترك وراءها في البلد الذي تجتاحه الخراب والموت، ولكنها تترك أيضًا على وجه الأديم طميًا تتجدد به الحياة في هذا البلد، فتنشط وتنمو فيه الطبيعة الجديدة بأنواع النبات والحيوان المتجدد. فكذلك شأن الأحداث الكبرى في التاريخ: إنها تجرّ وراءها الموت والخراب، وتخلفُ طميًا مخصبًا، طميًا من دماء الشهداء والأبطال، ولكنها تُخلّف أيضًا طميًا من نوع آخر تخلفه في العقول، حيث تترك بذوراً تنبعثُ منها الأفكار التي تغير مجرى التاريخ ووجه العالم”.

 

ولا أنسى في هذا المقام أن أذكّر كل فردٍ من أفراد الأمة الإسلامية بما يقعُ على عاتقه في هذه الأحداث الأليمة التي يتعرض لها المسلمون في قطاع غزة، من وجوب نُصرة إخوانه ومؤازرتهم بكل ما استطاع إليه سبيلاً، بالقلم وبالمال وبالدعاء.

بالقلم؛ فيكتب -باللغات التي يُتقنها- عن ما يتعرضون له من إبادة جماعية وتهجير مُتعمّد، وبإعادة نشر الصور والمقاطع المرئية التي توثّق جرائم الكيان الصهيوني، وبالذبّ عن المجاهدين لاسيما مع وجود اللجان الإلكترونية المنظّمة التي تحاول النيل من المقاومة الفلسطينية.

وبالمال؛ فينفق من ماله لإخوانه الذين باتوا يموتون بردًا جوعًا -كباراً وصغاراً- بسبب حصار الاحتلال الصهيوني لهم. ولن يُعدم الصادق -بالبحث والتحرّي والجِدّ- طريقة موثوقة لإغاثة إخوانه ومدّ يد العون لهم بالمال والطعام والكِساء.

وبالدعاء؛ فيُلحّ على الله تعالى ويتحرّى مواطن إجابة الدُعاء في هذا الشهرٍ الفضيلٍ، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللَّهَ حيِىٌّ كريمٌ يستحي إذا رفعَ الرَّجلُ إليْهِ يديْهِ أن يردَّهما صفرًا خائبتينِ”.