الإمارة الإسلامية دبلوماسية حكيمة ورسائل واضحة

صادق رحمتي

 

منذ تسلم الإمارة الإسلامية زمام الأمور؛ اهتمت بالأمور الداخلية والتغلب على التحديات التي تعيشها البلاد منذ فترة بعيدة، كما أنها لم تغفل عن الأمور الخارجية والدبلوماسية والعلاقات الدولية؛ بل جعلت هذه الأخيرة نصب عينها منذ البداية، وكثّفت -من أجلها- الجهود في وزارة الخارجية. حيث أنّ موضوع الدبلوماسية يعتبر من القضايا الأساسية لدى الإمارة الإسلامية، ليس فقط على صعيد المنطقة، وإنما على الصعيد الدولي أيضًا. وأعلنت منذ البداية أنّ سياستها قائمة علی أساس “السياسة الخارجية المعتدلة” مع جميع الدول، وأنّ التعامل يكون علی أساس الاحترام المتبادل، وعدم التدخّل في شؤون أفغانستان.

لقد أولت الإمارة الإسلامية المجال السياسي اهتماماً خاصاً؛ الأمر الذي كان العالم يستبعده عنها، ويعتبره مستحيلًا، ظنًّا منه أن ليس لديها خبرة في ذلك، وأنها ستفشل في هذه المهمّة في مدة غير بعيدة، لكن جاء الأمر على عكس ذلك تمامًا وخلاف التوقعات؛ لا سيما نجاح الإمارة الإسلامية في المبادرة الدولية للتعاون الإقليمي التي عقدت بالعاصمة كابول، والاستعداد للحضور في اجتماع الدوحة في قطر بشروطٍ عينتها، والتي لم يتم قبولها، وهاذان الإجراءانِ أظهرا مدى تفوق دبلوماسية إمارة أفغانستان الإسلامية وبراعتها. ولا تزال أعمالها مُكثفة قائمة على قدم وساق، وسط جهود كبيرة من قبل وزارة الخارجية والقائمين عليها، والتي تستحق الثناء والإشادة.

ومن أهم ما حدث في سلسلة هذه التعاملات والدبلوماسيات، وأثار غضب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، هو تسلم الرئيس الصيني (شي جين بينغ) أوراق اعتماد المولوي بلال كريمي سفيرًا ومفوضًا لأفغانستان لدى جمهورية الصين الشعبية، حيث رحّب الرئيس (شي جين بينغ) باعتماد السيّد كريمي سفيرًا وممثلا خاصًا لدى الصين، وتمنّى له النجاح في عمله، وبعد الحفل المذكور بدأ السيّد كريمي مهمّته رسميًا في السفارة الأفغانية الرئيسية لدى بكين.

هذا الحدث بحدّ ذاته، يعد نجاحًا كبيرًا في عالم السياسة، وأنه اعتراف من هذه الدولة بالإمارة الإسلامية. وإن دلّ على شيء فإنما يدل على أن هناك العديد من دول المنطقة والعالم لديها الرغبة الكافية في التعامل والتعاون الرسمي مع الإمارة الإسلامية، وأنها حريصة على وجود علاقة واضحة ورسمية معها في مختلف المجالات، لا سيما وأن العلاقة غير الرسمية قد تمنع أو تحدّ مصالحها.

والإمارة الإسلامية، بكونها دولة مقتدرة، رفعت جميع الموانع ووفّرت كافة الأسباب، وخلقت بيئة آمنة للاستثمار وفتح السفارات، واستفرغت جهودها لكسب الثقة. وهاهي اليوم تستضيف ممثلين خاصين وسفراء للدول، وتستعد غدًا لتفاعل أكبر، على مستوى الوزراء، ما دام ذلك يصب في صالح أفغانستان والمنطقة.

 

كان أبرز ماجاء في مبادرة كابول للتعاون الإقليمي هو تأكيد ممثلي وسفراء الدول المشاركة على تطوير العلاقات التجارية، وزيادة المساعدات لأفغانستان، واحترام اختيار شعب أفغانستان بشأن الحكومة، وضرورة تفاعل دول الجوار والمنطقة مع أفغانستان، وسياسة التعامل الإيجابي معها بطرق مختلفة، ومواصلة تطوير العلاقات مع الحكومة الأفغانية على أساس حسن الجوار. وأعرب المشاركون عن سعادتهم تجاه الإنجازات الإيجابية التي حققتها الإمارة الإسلامية في المجالات الأمنية والاقتصادية وغيرها، وأشادوا بهذه الإنجازات، ورأوا أنه من الواجب على العالم أن يتعامل معها، وأكدوا أيضًا على  أن تعيين السفراء الجدد إلى أفغانستان من قبل عدد من الدول يصب في مصلحة البلدين، وسعيهم إلى تذليل السبل لتحقيق الخير والمنفعة المشتركة من خلال المشاورات التي تكون أفغانستان نقطة اتصال فيها.

وليست هذه التأكيدات سوى اعتراف مبطن بحكومة إمارة أفغانستان الإسلامية، وإن لم يكن صريحًا، ولعل بعض الاعتبارات السیاسية أو الخوف يمنع هذه الدول من التصريح به، ولكن سيأتي ذلك اليوم بإذن الله.

 

ولغياب الإمارة الإسلامية عن الاجتماع الأممي بشأن أفغانستان في قطر، عدة رسائل إلى العالم، نحللها في الأسطر التالية:

  • أنّ المجتمع الدولي هو الذي لا يرغب في حل مشكلات أفغانستان، وليس لديه موقف واضح تجاه الموضوع. ومنظمة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يسيران في مسار مكرّر، جعل الأوضاع أكثر تعقيدًا، ولم يكن لصالح الشعب الأفغاني، ولم يحمل سوى اسم أفغانستان. بينما الإمارة الإسلامية، خلال عامين ونصف، قامت بما يقع على عاتقها بشكل أفضل، وتعاملت مع منظمة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على أحسن وجه ممكن.
  • أثبتت الإمارة الإسلامية بأنّها تعلّمت من الأحداث الماضية، واعتبرت من الاجتماعات التي عُقِدت بشأن أفغانستان في العقود الأربعة، ولن تلبي أي نداء كما لبت الحكومات السابقة والتي كان يرأسها رجال همهم الوحيد استئثارهم بالحكومة ولا يهمهم الشعب ولا مصالح البلاد وكانوا يلبون كل نداء وُجّه إليهم ولا يبالون أو يدرسون عواقبه.
  • أدركت الإمارة الإسلامية بأنّ أمثال هذه الاجتماعات تضمن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وأنّ هذه الدول تبحث عن أهدافها الخاصة، وإعادة المكانة التي ضاعت في غزو أفغانستان. وكما يُقال في المثل الشعبي: لا تصطادُ قطةٌ فأراً لوجه الله.
  • أن الإمارة الإسلامية أوضحت -بهذا القرار- أنها تسير مسارها المحدد، ولن تساوم على استقلالها ومصالح شعبها، مهما كان الثمن، وأن على العالم أن يدرك أن الإمارة الإسلامية لا تضع قدميها في موضع زلت فيه الأقدام، وخابت فيه آمال الشعب، وأنها هي النائب الحقيقي عن أفغانستان والطرف الرسمي في أي اجتماع، وحضور الغير يعني أن هناك آخرون يعتبرون أنفسهم مسؤولين، دون تحمل أي مسؤولية تجاه ما يجري في البلاد.
  • لابد أن يعترف العالم بحقيقة الواقع في أفغانستان، متخذين قراراً يناسب هذا الواقع، فأفغانستان اليوم ليست أفغانستان الماضية، وليس رجالها الرجال السابقين، ولا حكومتها الحكومة السابقة، ولا شعبها يفكر مثل السابق، كل شيء انقلب فيها. فالمتوقع من العالم، بما فيه الدول ومنظمة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وجميع الأطراف ذات الصلة، أن يقبلوا ويسايروا التغير الجذري الجديد في أفغانستان، وأن لا يكرّروا الأخطاء السابقة، وأنّ يكونوا على يقين من أن الشعب الأفغاني لن يقبل أبدًا بأن يفقد سيادته وعزته بقبول الأحكام المفروضة عليه مرة أخرى، ولن يقبل أبدًا بأن يعرّض استقلاله للخطر، فهو شعب مؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين.

 

وأعتقد أنّ الإمارة الإسلامية، بجهود جهازها الدبلوماسي، وتفاعلاتها الإيجابية، لا سيما جهودها الأخيرة، حققت الإنجازات التالية:

أولا: تمكنت من إبراز صورتها الحقيقية إلى العالم، والتي تم طمسها قسريًا في العقود الثلاثة الماضية منذ تشكيلها و تأسيسها، بسبب الإعلام المزيف المضلل، والذي صور للرأي العام عنها أنها حكومة جاهلة بما يجري في العالم، لاسيما بما يتعلق بالدبلوماسية والتعامل والاقتصاد. أما اليوم، وبعد الجهود التي بذلتها وزارة الخارجية، خَفّت الحدّة والشدة وتغيرت الأذهان والأفكار، خاصة لدى المنسوبين إلى السياسة والمسؤولين في دول المنطقة والعالم، وهي التي دفعت بهم إلى التعامل والتعاون الرسمي وغير الرسمي مع الإمارة الإسلامية في المدة.

ثانيًا: لقد أدرك الجميع من خلال هذه الجهود المبذولة -بما فيهم السياسيون وأصحاب السيطرة- أنّ السياسة التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية التابعة لها تجاه الإمارة الإسلامية، ولاتزال تصر عليها، تصب في المصالح الأمريكية، وليس فيها نفع للدول الأخرى، خاصة لدول المنطقة ودول جوار أفغانستان، وما قامت به الصين، كونها من القوى العالمية والإقليمية، من اعتماد سفير الإمارة الإسلامية لديها؛ جاء مثالا واضحًا في هذا المجال.

ثالثًا: ثبت أنّ أمريكا والدول المتحالفة لها ارتكبت خطأ استراتجيا ومصيريا في غزو أفغانستان، حيث فقدت به هذه الدول مكانتها في المنطقة والعالم، وخسرت ثقتها بين الشعوب، وبالتالي فتحت الأبواب لقوى جديدة في المنطقة والعالم؛ خطأ تأريخي أطاح بها إقليميا ودوليا، ودمّر شوكتها وقدرتها في المنطقة.

رابعًا: أوضحت الإمارة الإسلامية للجميع بأن لديها استراتيجية واضحة، وهي تسير فيها سيرها العادي المتوازن، دون تراجع عن قيمها وثوابتها، وأنها قامت بدورها البناء في عالم التعامل والتعاون والدبلوماسية، وأن على العالم أن يقوم بدوره البناء، وفقاً للموازين الدولية والمواثيق العالمية وعملا بما يدّعيه بين فترة وأخرى.

خامسًا: غيّرت الإمارة الإسلامية بهذا القرار المصيري مجرى الاجتماعات التي ستعقد بشأن أفغانستان، وأثبتت أنّ شعب أفغانستان لا يغترّ بما يجري خلف الكواليس، وأنه بلغ مبلغًا كبيرًا من المعرفة بالألعاب السياسية ولاعبيها. والأعجب أنّ هؤلاء اللاعبين ساروا في مسارهم القديم البالي جاهلين أو متجاهلين، وهذا يعني أنهم فشلوا في اتخاذ السياسة تجاه أفغانستان وخسروا في أهدافهم وغاياتهم.

سادسًا: إنّ سياسات الولايات المتحدة في كافة التطورات التي تشهدها المناطق المجاورة لأفغانستان، تركز دائمًا على الحفاظ على مصالحها والنهوض بها، ولا تهمّها مصالح شعب أفغانستان والمنطقة، ولذلك كان من الواجب أن يُقطع هذا الدور الباطل الذي أزعج الشعب الأفغاني، وأرهقه منذ أربعين عامًا، فقطعته الإمارة الإسلامية في حينه ومكانه، ونالت بذلك الثناء والإشادة في الداخل والخارج.

 

لو وزنّا هاذين الإجرائين بميزان النصر والهزيمة لأدركنا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي هُزموا مرتين في شهر واحد؛ المرة الأولى في مبادرة كابول للتعاون الإقليمي، والمرة الثانية بعدم حضور الإمارة الإسلامية اجتماع الدوحة بشأن أفغانستان، وستكون لهم الهزيمة تلو الهزيمة والخسارة بعد الخسارة ما داموا متمسكين بسياساتهم القديمة الفاشلة.

ولهذا فإن على المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة وجميع الدول إعادة النظر في هذا الأمر بجدية؛ ذلك أن الشعب الأفغاني جرب هذا الأمر مرارًا وتكرارًا، وتجرّع مراراته بأشكال مختلفة، والعالم يعلم جيدًا أنّ ما يبحث عنه الغرب والمجتمع الدولي لا يمكن تنفيذه في بلد كأفغانستان، حيث أنّ لها ميزاتها وخصائصها، ولا بد أن تتخذ القرارات حسب تلك الميزات والخصائص، وإلا سيكون ذلك فقط كالنفخ في قربة مثقوبة.

وأخيرًا فإن الإمارة الإسلامية أوضحت في تصريحاتها وبياناتها الرسمية مرارًا وتكرارًا أنها تود وتسعى إلى إقامة علاقات إيجابية مع الجميع على أساس الاحترام المتبادل.

وأنّ رسالتها رسالة سلام وثبات، ورسالة وفاق ووئام، ورسالة تعاون وتفاعل، وهي مستعدة للتعامل الإيجابي وبناء العلاقات الدبلوماسية القوية مع جميع الدول في إطار الاحترام، لاسيما وأنها عملت على جميع المواثيق، واتخذت خطوات عملية في ذلك، وأظهرت للجميع حسن النية، فمن المفترض أن تتخذ الأطراف الأخرى خطوات نحو العمل بالمواثيق، فما حدث  في اجتماع قطر لم يكن إلا تكرار المكرر والسير في الاتهامات، فهو كان باسم أفغانستان ولكنه كان لصالح أمريكا والدول التابعة لها، ولم يعد بالنفع على شعب أفغانستان، كما لم تعد الاجتماعات السابقة بالنفع عليه.

وترحب الإمارة الإسلامية بأي مبادرة تؤدي إلى رفع مستوى العلاقات. والأمر متروك للمجتمع الدولي لإعادة التفكير بشكل جدي في هذا الأمر.

ومما لابد من الإشادة به والتنويه إليه هو أن وزارة الخارجية التي أتت بهذا الكم الرهيب من الإنجازات والنجاحات، يرأسها رجل حكيم ذو معرفة كبيرة بما يجري في السياسة؛ وهو الشيخ أمير خان متقي -حفظه الله- وله شخصية فريدة تحتاج إلى مقال مستقل، وبحث مفرد، بارك الله في جهوده وأطال الله بقاءه.