فقه الجهاد – الحلقة 11

حكم اشتراط إذن الإمام في الجهاد

إعداد: فضيلة الشيخ ابن أبي يوسف حمّاد حفظه الله تعالى

 

حكم الجهاد عند عدم وجود الإمام :
قال ابن قدامة:في المغني 9/167:

“فإن عُدِم الإمام، لم يؤخر الجهاد; لأن مصلحته تفوت بتأخيره. وإن حصلت غنيمة، قسمها أهلها على موجب الشرع”.

قال الجويني في غياث الأمم :1: 279: (عند كلامه على خلو الزمان عن الإمام):

أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ولكن الأدب يقتضى فيه متابعة أولى الأمر ومراجعة مرموق العصر كعقد الجمع وجر العساكر للجهاد واستيفاد القصاص في النفس والطرف فيتولاه من الناس عند خلو الدهر عن الإمام طوائف من ذوى الخبرة والبأس .

وقال : فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي خبرة وكفاية ودراية فالأمور موكولة إلى العلماء فحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى سواء السبيل وصار علماء البلاد ولاة العباد.أهـ.

و ذالك لأن الحكم بوجوب استئذان الإمام والرجوع إليه إنما يتعلق بإمام موجود، لأنه كما ذكر الفقهاء أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم وقربهم وبعدهم .أما وقد عدم الإمام، فإن انتفاء هذه المصالح لا يصح أن يكون سبباً لتعطيل فرض الجهاد أو تأخيره، لأن الجهاد كما ذكر ابن قدامة”مصلحته تفوت بتأخيره” (ينظر: المغني:9/167و176).


وعلى هذا فمصلحة الأمة في حال عدم الإمام أن تقوم بفريضة الجهاد مع أمراء الجهاد، مع وجوب المسارعة إلى إقامة الإمام العام، وقد يكون في قيام الأمة بالجهاد قطعٌ لأطماع أعدائها المتربصين بها، وعونٌ على اجتماع الأمة وإقامة الإمامة، والله أعلم .

 

هل تتنزل جماعة المسلمين منزلة السلطان إذا عُدم؟

قال العلامة عبدالرحمن رحمه الله في الدرر السنية : 7/97:

” فإذا كانت هناك طائفة مجتمعة لها منعة، وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه لا يسقط عنها فرضه بحال، ولا عن جميع الطوائف وليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الجهاد يسقط في حال دون حال، أو يجب على أحد دون أحد.

وفي فقه المالكية أن جماعة المسلمين تتنزل منزلة السلطان إذا عدم، وعليه من الفروع مالا يكاد يحصى، كمسألة من غاب زوجها وهي في بلد لا سلطان فيه، فإنها ترفع أمرها إلى عدل من صالحي جيرانها، فيكشف عن أمرها ويجتهد لها، ثم تعتد وتتزوج، لأن الجماعة في بلد لاسلطان فيه تقوم مقام السلطان . (ينظر:منح الجليل:1:356،4:224،وفتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك:4: 421)

مع أن هذا من وظائف الإمام، أو نائبه الذي هو القاضي، التي لايباشرها غيره مع وجوده، ومع ذلك لم يتوقف الأمر فيها على وجوده، فكيف بالجهاد الذي يصح أن يباشره غيره مع وجوده دون إذنه كما تقدم .

استثنى الفقهاء بعض الحالات التي يجوز فيها الخروج لجهاد الطلب دون إذن الإمام، منها:

 

حكم الخروج لجهاد الطلب إذا ترتب فوات مصلحة على إذن الإمام :
1- بأن يترتب على الإذن –مثلاً-فوات فرصة للنكاية بالعدو، وقد قال بهذا المالكية، والشافعية، والحنابلة .

2- أو يترتب على الإذن حصول ضرر بالمسلمين، كأن يتقوى العدو بوصول المدد، ونص عليه الأحناف،.
فإذا علم المسلمون أنهم يتضررون بترك القتال كأن يتقوى عدوهم بوصول المدد إذا تركوا قتاله فلا إذن للإمام.
و ذلك لما رواه سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه – قال:”خرجت من المدينة ذاهباً نحو الغابةحتى إذا كنت بثنية الغابة لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، قلت: ويحك ما بك؟ قال: أخذت لِقَاح النبي – صلى الله عليه وسلم – . قلت: من أخذها؟ قال: غَطَفان وفَزَارة . فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه، يا صباحاه، ثم اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها فجعلت أرميهم وأقول:أنا ابن الأكوع … واليوم يوم الرضَّع
فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا، فأقبلت بها أسوقها، فلقيني النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش وإني أعجلتهم أن يشربوا سقيهم فابعث في إثرهم . فقال: يا ابن الأكوع ملكت فأَسْجِحْ، إن القوم يُقْرَون في قومهم”(رواه البخاري).

ففي الحديث دلالة على عدم وجوب الإذن إذا ترتب عليه فوات فرصة للنكاية بالعدو نظراً لضيق الوقت، وبعد محل الإمام . فإن سلمة لم يكتف برد القوم فحسب، بل اشتد في طلبهم دون إذن لمصلحة ظاهرة تفوت بالتأخير وهي استرجاع ما استولوا عليه من الأموال. (ينظر:الفتاوى الهندية 2/192،وحاشية قليوبي وعميرة 4/218،والإنصاف 4/151).

 

حكم الجهاد عند ظهور فسق الإمام،و إستئذانه:

ذهب جمهور الفقهاء إلي طاعة الإمام غير العدل،في أمر الجهاد ولم يفرقوا بين الطاعة والاستئذان،إلا أن بعض المالكية اشتراطوا عدالة الوالي المستأذن، فقالوا:”ويلزمهم ذلك إن كان الوالي عدلاً”. ومع أن المالكية يرون طاعة الإمام غير العدل، إلا أنهم يفرقون بين الطاعة والاستئذان .
يقول ابن رشد:”فإنما يفترق العدل من غير العدل في الاستئذان له، لا في طاعته إذا أمر بشيء أو نهى عنه ; لأن الطاعة للإمام من فرائض الغزو، فواجب على الرجل طاعة الإمام فيما أحب أو كره، وإن كان غير عدل ما لم يأمره بمعصية”( ينظر:مواهب الجليل 3/349).

ولكن يمكن أن يناقش تفريق المالكية بين الطاعة والاستئذان بأنه تفريق غير ظاهر، وذالك لأن النصوص جاءت مقررة لطاعة الأمراء مطلقاً، ولم تقيد الطاعة بوصف العدالة، ولم تفرق بين فعل الجهاد مع الفساق وفعله مع العدول الصالحين، لماروي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:”الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً”( رواه أبو داود).

وعمل الصحابة – رضي الله عنهم – وكذا عمل التابعين ومن بعدهم،أيضاً يؤيد هذا في جهادهم وفتوحاتهم بعد عصر النبوة مع بعض الأمراء. قال الإمام الجصاص في أحكام القرآن: 3/175:

“وقد كان أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق، وغزا أبو أيوب الأنصاري مع يزيد … فإن الفساق إذا جاهدوا فهم مطيعون في ذلك … ولو رأينا فاسقاً يأمر بمعروف وينهى عن منكر كان علينا معاونته على ذلك، فكذلك الجهاد، فالله تعالى لم يخص بفرض الجهاد العدول دون الفساق، فإذا كان الفرض عليهم واحداً لم يختلف حكم الجهاد مع العدول، ومع الفساق”.
قال ابن قدامة: المغني 9/165:

“ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطع الجهاد، وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم، وظهور كلمة الكفر، وفيه فساد عظيم … فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول، يغزى معه، إنما ذلك في نفسه”.

قال ابن قدامة: في المغني :10: 366:

ويغزى مع كل بر وفاجر يعني مع كل إمام قال ابو عبد الله وسئل عن الرجل يقول : انا لا أغزو ويأخذه ولد العباس إنما يوفر الفيء عليهم فقال : سبحان الله هؤلاء قوم سوء هؤلاء القعدة مثبطون جهال فيقال : أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم من كان يغزو ؟ أليس كان قد ذهب الاسلام ؟ ما كانت تصنع الروم؟،… قال أحمد :لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه إنما ذلك في نفسه .

ويروى عن النبي صلي الله عليه وسلم:”إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ” .أهـ

 

قال العلامة صديق حسن خان،في الروضة/333:

“الأدلة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلاً بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله على عباده المسلمين من غير تقيد بزمان أو مكان أو شخص أو عدل أو جور”.

وإذا كان الشارع قد شرع الجهاد مع العدل والفاسق ؛ فالأصل اشتراكهما في الحقوق من وجوب الطاعة والاستئذان، لأن عموم الفسق لا يكون سبباً مجرداً لسقوط الطاعة والإذن، لكن يبقى النظر في الفسق الذي ينافي مقاصد الجهاد أو يعود على فريضة الجهاد بالنقض، كأن يعلم من حال الأمير محاربة الجهاد، أو تعطيله، أو عزوفه عنه لا لمصلحة المسلمين بل لانغماسه في الدنيا، فقد نص غير واحد من فقهاء الشافعية على عدم اعتبار إذنه في هذه الحالة، فقالوا:”إن كانت المصلحة في الغزو، لكن تركه الإمام وجنده بإقبالهم على الدنيا، أو امتنع من الإذن فيه، أو كان انتظار الإذن يفوت مقصوداً لم يكره بغير إذنه”(( كذا في حاشية قليوبي وعميرة 4/218).
وعبر بعضهم بقوله:”أو غلب على الظن أنه إن استؤذن لم يأذن”( أسنى المطالب 1/188).
قال الشربيني في مغنى المحتاج 4/220:

استثنى البلقيني من الكراهة صوراً:

أحدها: أن يفوت المقصود بذهابه للاستئذان .

ثانيها: إذا عطل الإمام الغزو وأقبل وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهد .

ثالثها: إذا غلب على ظنه أنه لو استأذن لم يأذن له .

وقد استثنى الحنفية ما إذا كان في رأي الإمام هلاك ظاهر لا يخفى فلا يحرم خروجهم .( ينظر:شرح السير الكبير 1/167).

في الموسوعة الفقهية:16: 136:

صرح جمهور الفقهاء بأنه يغزى مع أمير جيش ولو كان جائرا ارتكابا لأخف الضررين؛ ولأن ترك الجهاد معه سوف يفضي إلى قطع الجهاد، وظهور الكفار على المسلمين، واستئصالهم وظهور كلمة الكفر، ونصرة الدين واجبة . وكذا مع ظالم في أحكامه، أو فاسق بجارحة، لا مع غادر ينقض العهد.

وفي هذه الحالة يتوجه عدم اعتبار إذن الإمام، لأن من مقاصد الشارع من الجهاد حماية الأمة وإعزاز الدين وكسر شوكة الكافرين، فإذا عاد الاستئذان على هذه الأمور بالنقض علم أنه غير معتبر شرعاً .
           ومع هذا …. فإنه لا بد من التأكيد على الرجوع إلى أهل العلم من ذوي الرأي الموثوقين في تقرير حال الإمام، وعدم الانسياق وراء اجتهادات أو أهواء أفراد الناس،درءاً للمفاسد التي قد تنجم من التوسع في هذا الأمر.

 

…………………………………………………………………

(ينظر: شرح السير الكبير 1/167، الفتاوى الهندية 2/192، مواهب الجليل 3/349، أحكام القرآن لابن العربي 1/581، الأم 8 / 379، أسنى المطالب 1/188، الإنصاف 4/151، المغني 9/176) الموسوعة الفقهية الكويتية:16: 136