وقفة في موسم الخیر

الحمدلله رب العالمین، والعاقبة للمتقین، والصلاة والسلام على سید الأنبیاء والمرسلین، خاتم النبیین، محمد وعلى آله وصحبه أجمعین، ومن تبعهم بإحسان ودعا بدعوتهم إلى یوم الدین.
وبعد:
شهر رمضان المبارك إما سبعمائة وعشرون ساعة، وإما ستمائة وست وتسعون ساعة، ولكن كل ساعة وكل لحظة ودقیقة من هذا الشهر المیمون ثمینة وغالیة.
وهذا الشهر الكریم من منن الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنین، حیث تفتح لهم أبواب الجنة وتغلق أبواب النار، وتسلسل مردة الشیاطین وینادي منادٍ من السماء: « یا باغي الخیر أقبل ویا باغي الشر أقصر».
فالسعید من أخذ حظه الوافر في هذه الأیام والساعات، وما فاتته برهة من الزمن إلا وهو قائم یصلي، أو یذكر ربه، أو یتلو من القرآن، أو یأمر بالمعروف وینهى عن المنكر، أو مكباً على سائر الخیرات والحسنات.

فأيُّ مسلم یعیش في أي بقعة من أرجاء المعمورة یعي بأن رمضان شهر للخیرات والحسنات، وینشرح صدره بعبادة الله، ویطمئن قلبه بذكر الله، وتتعبد جوارحه بأمر الله، وتهفو نفسه لرحمة الله، فیمتنع عن الأكل والشرب من السحر حتى الغروب، وعند الغروب یقبل على مائدة الله سبحانه وتعالی، ویتقلب في أعطاف النعم شاكراً ساجداً حامداً.
فرمضان هو الصیام والقیام، ولذا قال النبي – صلی ‌الله ‌علیه ‌وسلم: « من قام رمضان إیماناً وإحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إیماناً وإحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه ».[ رواه مسلم]
وكما أنه یجب على الصائم الإمتناع عن المفطرات ینبغي له كذلك أن یحفظ جوارحه من جمیع المحظورات وما فیه حرمة، وإلا فلا فائدة في تجشم الظمأ والجوع؛ لأن الصوم إنما جعل لكسر النفس عن الشهوات والذنوب والمعاصي فإذا لم یزل الإنسان متبعاً هواه عاكفاً على معصیة ربه، فلیعلم أنه لم یصم رمضان بل هو في صورة صائم جائع یتكبد الظمأ والعطش، لقوله صلی ‌الله ‌علیه ‌وسلم: « كم من صائم لیس له من صیامه إلا الجوع، وكم من صائم لیس له من قیامه إلا السهر». [رواه البزاز والبیهقي]
وكما قال الشاعر:
إذا لم يكن في السمع مني تصامم     وفي مقلتي غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظمأ    وإن قلت: إني صمت يوماً فما صمت

ونحن الآن في غرة هذا الشهر المبارك، الذي غصت كتب الحدیث والأخلاقیات في ذكر فضائله ومحاسنه.
فالذي بات في هذه الأیام الخالیة مكباً على الخیرات، وعاكفاً علی الحسنات نِعم ما فعل واقترف، وجعل سهمه رابحاً، وأما الذي فاتته هذه الفرص الذهبیة فإنه سیستطیع إذا بذل شیئاً من الجد. فإن الأیام الباقية تحمل یوماً عظیماً، في لیلة القدر، وهي خیر من ألف شهر.
وقد جاء في حدیث طویل نقتطف منه بعضه: «وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَيَهْبِطُ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ الْمَلَائِكِةِ إِلَى الْأَرْضِ ، وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَخْضَرٌ ، فَيَرْكِزُهِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ، وَيَنْشُرِ أَجْنِحَتَهُ ، فَتَتَجَاوَزُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ ، وَيَبُثُّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَلَائِكَةَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ ، فَيَحْضُرُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ وَمَشَاهِدَ الْمُصَلِّينَ وَالدَّاعِينَ ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَعَهُمْ ، وَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِمْ ، وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِمْ ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعْشَرَ الْمَلَائِكِةِ : الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ ، فَيَقُولُونَ : يَا جِبْرِيلُ ، مَا صَنَعَ اللَّهُ رَبُّنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ بِأُمَّةِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ إِلَيْهِمْ فَعَفَا عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ إِلَّا لِلْمُدْمِنِينَ عَلَى الْخَمِر وَالْعَاقِّينَ لِآبَائِهِمْ وَأُمُّهَاتِهِمْ وَالْقَاطِعِينَ لِأَرْحامِهِمْ وَالْمُتَشَاحِنِينَ . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْمُشَاحِنُ ؟ قَالَ : الْمُصَارِمُ » .( الحدیث ) [رواه الشیخ ابن حبان والبیهقي واللفظ له – الترغیب والترهیب ج 2 ص 100.]
وقال صلی‌ الله‌ علیه ‌وسلم: « من اعتكف عشراً في رمضان كان كحجتین وعمرتین ».[ رواه البیهقي]
فالاعتكاف له فضل عظیم، وأجر كبیر كما جاء في حدیث آخر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا فُلانُ أَرَاكَ مُكْتَئِبًا حَزِينًا ، قَالَ : نَعَمْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ لِفُلانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ، لا وَحُرْمَةِ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَفَلا أُكَلِّمُهُ فِيكَ ، قَالَ : إِنْ أَحْبَبْتَ ، قَالَ : فَانْتَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : أَنَسِيتَ مَا كُنْتَ فِيهِ ، قَالَ : لا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : ” مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ وَبَلَغَ فِيهَا كَانَ خَيْرًا مِنِ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ ، وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلاثَ خَنَادِقَ أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ ” – أي بین الأرض والسماء –. [ رواه الطبراني في الأوسط والبیهقي واللفظ له. والحاكم مختصراً، وقال صحیح الإسناد] .
وشهر رمضان شهر الخیر والحب والتواصل، شهر كان فیه الرسول صلی الله علیه وسلم أجود ما یكون، بل كان أجود من الریح المرسلة.
فتذكر – أخي المسلم – أن لك الآلاف من الإخوة والأخوات ربما لم یجدوا لقیمات یأكلوها عندما یحین موعد الإفطار، ويتطلعون إلی أیدي الخیّرین والمحسنین.
وهذا صدی صوت المصطفی – صلی ‌الله ‌علیه ‌وسلم یخترق حواجز الزمان منادیاً، من فطّر صائماً كان له مثل أجره من غیر أن ینقص من أجر الصائم شيء.
إیاك ثم إیاك – أخي المسلم – أن ينسلخ منك الشهر المبارك، وأنت حتی الآن متلوث بدنس أموالك.
ونسأل الله سبحانه وتعالی أن یجعل أعمالنا صالحة ولوجهه خالصة، وماذلك علی الله بعزیز.