معالم في طريق الدعوة (4)

خصائص الدعوة الإسلامية: [3- الدعوة الحق 4- الرحمة 5- الوسطية]

محمد بن عبدالله الحصم

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فما زال حديثنا يتواصل في خصائص الدعوة الإسلامية وذكرنا منها -في الحلقة 3- خصيصتان، هما: الربانية والعالمية. ونذكر في هذا المقال بعضها أيضا فمنها:

الخصيصة الثالثة: (أنها الدعوة الحق)

فجميع الأنبياء بعثوا بالهدى ودين الحق، ودينهم واحد وهو الإسلام فهذا الأصل تتفق عليه الرسل جميعا، وإنما الخلاف في الشرائع، وبعد أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أبطل كل الشرائع سوى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي الشريعة الحق التي نسخت جميع الشرائع، وغيرها أصبح باطلا لا يقبله الله عز وجل، قال سبحانه: “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين”.

فبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يسع أحد من أصحاب الديانات الأخرى، وإن كان أصلها صحيحا إلا الدخول في دين الإسلام وشريعة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار”.

وهذا أمر لا خلاف فيه، وقد جعل العلماء من نواقض الإسلام من ظن أن أحدا يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

الخصيصة الرابعة: الرحمة

فهذه الشريعة رحمة للعالمين، فهي رحمة عامة للجميع الإنس والجن، المسلم والكافر، الأرض والسماء، الماء والهواء، حتى البهائم العجماوات جاء هذا الدين برحمتها، ورحمة كل شيء.

فأحكام هذا الدين كلها تدور على الرحمة، بل حتى الحدود التي ظاهرها القتل أو القطع أو الجلد هي رحمة من جميع النواحي، فهي رحمة بالجاني لأنها تطهره من الحد الذي أصاب، ومن تبعته يوم القيامة فيلقى الله وقد برئ من هذا الأمر وتطهر منه، قال صلى الله عليه وسلم: “فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له”. وذلك لأن عذاب الآخرة أشد وأبقى.

ورحمة بالمجتمع وحِمْيَة له من الفساد من ناحية تخليصه من هذا العضو الفاسد، أو بصلاحه وطهارته من هذه المعصية، ولأن فيها من الردع والزجر ما ليس في غيرها.

بل حتى أحكام الجهاد قائمة على الرحمة، فنحن نجيِّش الجيوش لغزو الكفار، لماذا؟ لكي نأخذ أموالهم أو نهتك أعراضهم ؟!.. لا.. بل ليدخلوا في هذه الرحمة وتعمهم هذه النعمة، وليحصل لهم الاهتداء التام في الدنيا والنجاة من الجاهلية المتمثلة في كل نظام غير الإسلام، ولينجوا من النار وليخلدوا في النعيم المقيم في الآخرة.

فنحن نبذل مهجنا لمصلحتهم الدنيوية والأخروية، والدليل على ذلك أنهم لو أسلموا لعصموا دماءهم وأموالهم وأعراضهم، والاعتداء عليهم بعد ذلك كالاعتداء علينا ولهم مالنا وعليهم ما علينا، ولك في حديث أسامة عبرة..لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله، من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟..” الحديث [متفق عليه].

وأما البهائم فكذلك جاء الإسلام برحمتها ولها باب في كتب الفقه في النفقة على البهائم وأنه لا يجوز تجويعها أو تحميلها فوق طاقتها، أو تضييعها وعدم القيام بشأنها، أو جعلها غرضا، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا»، وفي الحديث عن عبدالله بن جعفر أن بعيرا رأى النبي صلى الله عليه وسلم فَحَنَّ وذرفت عيناه فقال عليه الصلاة والسلام لصاحبه: “إن هذا البعير شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه” [رواه أحمد وأبو داود]. وحديث الحُمَّرَة التي جاءت تفرش لرسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: “من فجع هذه بولدها ؟ ردوا إليها ولدها”.[ رواه وأبو داود عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه].

وقال الله جل جلاله في وصفه لخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم”. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قيل: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ادع على المشركين، قال: صلى الله عليه وسلم: “إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة”. وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: “إنما أنا رحمة مهداة” [رواه البيهقي والدارمي وغيرهما وصححه الألباني]. فهو رحمة للعالم أجمع حتى الكفار، لأن الله رفع عن من لم يؤمنوا به ما كان يعاقب به الأمم السابقة من الأخذ والاستئصال، صلوات ربي وسلامه عليه ما أرحمه، وما أحرصه على هداية الناس واستجابتهم للحق.

ورحمة بالمجتمع وحِمْيَة له من الفساد من ناحية تخليصه من هذا العضو الفاسد، أو بصلاحه وطهارته من هذه المعصية، ولأن فيها من الردع والزجر ما ليس في غيرها.

 

الخصيصة الخامسة: الوسطية

قال تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”. وتنوع تفسير العلماء لهذه الكلمة؛ فبعضهم قال: الوسط العدول، والبعض قال: الخيار، والبعض قال: الوسط هنا هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. وقد رجح إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري رحمه الله هذا المعنى الأخير فقال: قال أبو جعفر: وأنا أرى أن “الوسط” في هذا الموضع، هو “الوسط” الذي بمعنى: الجزء الذي هو بين الطرفين مثل “وسط الدار”… وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم “وسط”، لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه – ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها. [ تفسير الطبري (3/ 142)].

فالوسطية إذن واقعة بين إفراط وتفريط، فالجانب العدل هو الوسط، وليست هي البينية المطلقة كما يظنه بعض الناس فلا يكون بين حلال وحرام، ولا بين حق وباطل، بل هو حق بين باطلين، واعتدال بين انحرافين، فليس التوسط مثلا هو الحال بين المتمسكين بالشرع والمتساهلين فيه، بل بين المتساهلين والمتنطعين الذين يجعلون ما ليس بواجب واجبا، أو لا يقبلون الأعذار المعتبرة شرعا، أو يعاملون من ترك سنة كمن أخل بركن الدين، أما المتمسكون فهم الوسطيون بين طرفي الانحراف: الغلو وهو الإفراط والتساهل وهو التفريط.

قال شيخ الإسلام رحمه في العقيدة الواسطية عن وسطية أهل السنة: “بل هم الوسط في فرق الأمة؛ كما أن الأمة هي الوسط في الأمم: فهم وسط في: باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل «الجهمية»، وبين أهل التمثيل «المشبهة»، وهم وسط في: باب أفعال الله تعالى بين «القدرية»، «والجبرية»، وفي: باب وعيد الله بين «المرجئة»، وبين «الوعيدية» من «القدرية» وغيرهم، وفي: باب الإيمان والدين بين «الحرورية» «والمعتزلة»، وبين «المرجئة» «والجهمية»، وفي: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين «الروافض»، وبين «الخوارج».

وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في عقيدته: “ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقال تعالى: (ورضيت لكم الإسلام دينا)، وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس”.

ويقابل الوسطية مصطلحا الإرهاب والتطرف، وهما مصطلحان اتخذهما اليوم أعداء الإسلام من الكافرين والمنافقين سببا للطعن في شرائع هذا الدين، كما اتخذوا من الوسطية بعد أن حرفوها سببا لتمييع الدين، فكل ما لا يوافق أهواءهم يسمونه إرهابا أو تطرفا، وكل ما يوافق أهواءهم ويحقق أهدافهم جعلوه من وسطية الإسلام وسماحته.

فجعلوا الجهاد ونصرة المظلومين إرهابا، وجعلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزام المرَأة الحجاب، والولاية عليها تطرفا.

وجعلوا الغناء والاختلاط غير المبرر بين الرجل والمرأة في التعليم والعمل، وسفر المرأة بدون محرم، وكسر قوامة الرجل وسطية، وهؤلاء بين كافر حاقد قد ظهر الحقد من مواقفه وفلتات لسانه، وبين منافق من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وكلا الفرقتين الوسطية والإسلام منهم براء وهم أعداؤه.