مع نبي الرحمة: عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة

د. فهد المرشدي – الألوكة

قال المصنف رحمه الله: (بَعَثَهُ الله إلى النَّاسِ كَافَّةً، وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾[1]، وأَكَمَلَ الله بِهِ الدِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾[2]، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ [3]).

الشرح الإجمالي:
كانت الأنبياء تبعث لأقوامها خاصة، أما نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فقد (بعثه الله) عز وجل (إلى الناس كافة)، فلا يسع أحد الخروج عن شريعته، (وافترض الله طاعته على جميع الثقلين)، وهما: (الجن والإنس)، (والدليل) على أنه مبعوث إلى الناس كافة (قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾) العرب والعجم، أهل الكتاب وغيرهم؛ (وأكمل الله به الدين)، أي: أكمل الله برسالته الدين، فكل من زاد في دين الله تعالى فقد افترى على الله كذباً، (والدليل) على أن هذا الدين كامل في شرعه وأحكامه (قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾)؛ وهذا من أكبر نعم الله على هذه الأمة؛ حيث أكمل لها دينها، فلا يحتاجون إلى دين سواه، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؛ ولمَّا أكمل الله الدين للنبي صلى الله عليه وسلم مات، (والدليل على موته صلى الله عليه وسلم) من القرآن (قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ )، وقد مات، وغُسِّل، وكُفِّن، وصُلِّي عليه، ودُفن صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة 11هـ، وجميع الخلق ميتون مثله[4].

الشرح التفصيلي:
قال المصنف: (بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس): فكل الناس يجب عليهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم، فالواجب على كل من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن به، ولا يسعه إلا ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)[5].

ثم ذكر المصنف الدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الإنس، وهو قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ ؛ وهذا عمومٌ ظاهر في بعثته إلى الناس جميعاً، فقوله: ﴿ جَمِيعًا ﴾ تأكيد لبعثته إلى الناس كافة. واسم الناس مأخوذ من (النَّوس) الذي هو الحركة والاضطراب، فيدخل في جملة (الناس) الجن والإنس معاً[6]؛ ويوجد دليل خاص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن، وهي آية الأحقاف، وفيها أن الله صرف إليه نفراً من الجن، وكان مما قالوا لما رجعوا إلى قومهم: ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[7]، فلم يكن هذا منهم إلا لـمَّا علموا أنهم مخاطبون بهذه الرسالة.

قال المصنف: (وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]): وهذه الآية دليل على كمال الدين وحياً من الله، وتبليغاً من رسوله؛ لأن الله جل وعلا أخبر في هذه الآية بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمُلَ بما بلَّغه، إذ الدين لم يُعرف إلا بتبليغه صلى الله عليه وسلم، فعُلم من ذلك أنه قد بلَّغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده[8]، وقد نزلت هذه الآية الكريمة يوم عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف يخطب في حجة الوداع، وكان نزولها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بواحد وثمانين يوماً؛ وهي شهادة من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على تبليغه لما أرسله به أتم تبليغ وأكمله، وبذلك جعله الله خاتم النبيين؛ لأن الخلق بعد هذا لن يحتاجوا إلى نبي غير نبيهم صلى الله عليه وسلم ليكمل لهم دينهم؛ كما أنهم لا يحتاجون إلى دين آخر؛ وذلك لكمال دينهم[9].

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «قد تمم الله سبحانه الدين بنبيه صلى الله عليه وسلم، وأكمله به، ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه، ولا رأي، ولا منام، ولا كشوف»[10]؛ ومن الأدلة على إكمال الدين حديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)[11] ؛ ولكمال هذا الدين وتمامه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل من فعل ما لم يأمر به، وزاد في دين الله ما لم يأت به الشرع، فإن عمله باطل ومردود عليه؛ لكمال هذا الدين، قال علـيه الصلاة والسلام : (مـن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)[12].

________________________________________
[1] سورة الأعراف، الآية [158].
[2] سورة المائدة، الآية [3].
[3] سورة الزمر، الآيتان [30-31].
[4] ينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (89)؛ وتيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالمحسن القاسم (188).
[5] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: وجوب إيمان أهل الكتاب برسالة الإسلام، رقم (240).
[6] ينظر: لسان العرب، لابن منظور، مادة (نوس)؛ وتعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (54).
[7] سورة الأحقاف، الآية [31].
[8] ينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (5 /155، 156).
[9] حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، أ.د. محمد بن خليفه التميمي (111).
[10] الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3 /826)، تحقيق: علي بن محمد الدخيل الله.
[11] أخرجه أحمد في مسنده، برقم (17142)؛ وأخرجه الحاكم في المستدرك: (1/96)، قال الألباني: «هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات معروفون غير عبد الرحمن بن عمرو، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عن جماعة من الثقات، وصحح له الترمذي وابن حبان والحاكم كما في “التهذيب”» “الصحيحة”: رقم (937).
[12] أخرجه البخاري في كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2697)؛ وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (17).