أخي الأسير..في كل محنةٍ منحة

أبوغلام الله

 

«هناك خلف أسوار السجون تدور فصول معركة كبرى، لا تقلّ أهمية عن معارك الأمّة مع أعدائها، ولا تقل ضراوة عن ضراوة المعارك الشرسة التي تدور رحاها في ميدان الجهاد المختلفة، ذلك أنّها معركة البقاء والكينونة، معركة العقيدة السامقة والانتصار للمبادئ بأغلى ثمن، إنها معركة يتجلى فيها طغيان وجبروت الظلم كالوحش يريد أن ينقض على فرسان العزيمة والإباء، جنود الإسلام الأسرى الأشاوس، ليرجعوا عن دينهم، فما يلبث أن يتقزم هذا الوحش لمهابة الطلّة، طلّة الإيمان الراسخ المتجذر، ذلك أنها طلّة تنورت من معين القرآن ومن هدي خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، فلم يعد يهم صاحبها موت ولا تعذيب، لم تعد تساوي عنده اللحظات العسيرة إلا زيادة أجر على الابتلاء.

فمن يقدر على هزيمة من يزيده الابتلاء ثباتًا واعتزازًا واستبشارًا. من لايزيده طغيان السجّان وظلمه إلى رقيا في مراتب الوصال السماوي وقربًا من ربّ السموات والأرض، فأي انتصار يجرأ على المنافسة».

وفي هذه العجالة أردتُ أن أشير إلى جانبٍ هامٍ من جوانب حياة المجاهد، وذلك عندما يقع في الأسر، فعليه أن يستغل حينئذٍ هذه اللحظات، ويستفيد منها على أحسن وجه ممكن، ويقتدي بالمجاهدين المثاليين الذين وقعوا في الأسر كيف قضوا حياتهم في الأسر.

ينقل أحد رفاق الشيخ المجاهد يوسف العييري رحمه الله عن حرص الشيخ رحمه الله لاغتنام أوقاته عندما كان أسيرًا ما يُثير العجب والعجاب، وفي نفس الوقت يكون خير قدوة للشباب المجاهدين الآخرين الذين يمضون أوقاتهم الآن في سجن العدوّ كي يستغلوا من هذه الفرصة، ويشتغلوا بحفظ القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

(ثم بعد ذلك انتقل الشيخ يوسف إلى سجن جماعي مع أهل السنة وبعد مضي وقت على هذه الحال أضرب الشيخ عن الطعام بسبب أنه يريد سجنًا انفراديًا حتى يتمكن من استغلال وقته ويخلو بربه، فلبي له طلبه ومكث في السجن الانفرادي سنة ونصف أو أكثر وبعدها أفرج عنه..

يقول لي الشيخ يوسف: لما سألته عن السجن الانفرادي وهل أصابه الملل؟

قال لي بالحرف الواحد: كنتُ والله لا أجد وقتًا أبدًا، حتى أنني لا أغتسل إلا للجنابة ولا أنام إلا قليلاً، وكنت أسابق الوقت..!!

وكان وقته في السجن الانفرادي حفظ وقراءة للكتب العلمية، فحفظ القرآن وضبطه وحفظ الصحيحين وانكب على القراءة والمطالعة في كتب أهل العلم، وفي يوم من الأيام قال له الجندي السجان:إنني والله أرأف بحالك وما أنت عليه..!

فقال له الشيخ يوسف: أنا والله الذي  لا إله إلا هو أرأف لحالك، ولتعلم أنه لو قيل لي سيكون اليوم ثمانية وعشرين ساعة فأنا موافق لأنني أبحث عن وقت يا مسكين ..!!

وذلك أن الجندي استغرب من حال الشيخ في القراءة والإطلاع حيث لم يكن يخرج للتشميس ولا غيره إلا للضرورة حرصًا على الاستفادة بشكل كبير من الوقت..

وكان يقول لي رحمه الله: (والله لقد كنت أعيش لحظاتٍ إيمانيةً ولذةً في السجن لا يعلمها إلا الله، ولما جاءني البشير بخروجي من السجن صرخت في وجهه من غير شعور: الله لا يبشرك بالخير!! وكان ذلك عن غير إرادتي وإنما لشدة ما أجده من النعيم في السجن والفائدة العظيمة في طلب العلم التي حصلتها في السجن).

ونقل مشعل الشدوخي قصّة قال: حدثت شيخي ذات مرّة عن التضحيات العظيمة التي قدمها مجاهدو الإمارة الإسلامية وعلى رأسها أميرنا الملا محمد عمر، وأخبرته بقصة القائد «الملا فاضل» الأسير في غوانتانامو منذ تسع سنوات (وأطلق سراح الشيخ بعدما قضى ما يقارب 13 سنة في الأسر)، وأنّ الأمريكان أكثروا عليه ذات مرّة في التحقيقات، ففي الصباح يدخلون عليه النساء لكي يفتنّه عن دينه وهو لا يتكلم معهن ولو بكلمة واحدة، وفي المساء يرمونه تحت هواء المكيف البارد جدًا، ويرشون عليه الماء ويرفعون الموسيقى الصاخبة، وأنهم استمروا معه على هذه الطريقة ما يقارب الأربعة أشهر، فكانوا يعيدونه من التحقيق قبيل المغرب بساعة وهو مرهق، فيدخل غرفته ويصلّي الظهر والعصر؛ لأنهم يمنعونه من الصلاة في غرف التحقيق ثم يأكل غداءه ويأخذ زاوية الغرفة ويبدأ بحفظ القرآن؛ فأشفقنا عليه، وخاطبناه وعزمنا عليه أن يرتاح هذا الوقت؛ لأنهم سيأخذونه إلى التحقيق الساعة العاشرة مساءً ولن يعيدوه إلى قبيل الفجر، وقد كان الملا فاضل يحب العرب ولا يرد لهم طلبًا، فلما رأى أننا أكثرنا عليه، قال لنا: لقد أمضيت الكثير من عمري في ساحات الجهاد، وقد شغلني الجهاد عن حفظ القرآن، وهذه فرصتي لأن أحفظه، وقد حفظت الآن ما يقارب الثلاثة عشر جزءً، وإني أريد أن أختمه فلاتحرموني من هذه الأمنية).

وما أجمل قول شيخ الاسلام في هذا المضمار عندما قال: (ما يصنع أعدائي بي، حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، جنّتي وبستاني في صدري، هو معي لا يفارقني).