كلمات كتبت على جبين الشمس

غلام الله الهلمندي

 

“إن الله وعدنا بالنصر، وأمريكا وعدتنا بالهزيمة، فسننظر أي الوعدين ينجز”.

إن هذه الكلمات التاريخية الذهبية أكّدت مصداقيتها بعد سبع سنوات من رحيل قائلها، إنها كلمات كان يعتبرها المخلصون في تلك الأيام بصيصا من الأمل، وبريقا من النور، ويحسبها المنافقون مجرد كلمة هوجاء، إنها کلمات تحمل وعدا یراه المنافقون شبه محال، ويراه الضعاف بعيدا، ويراه المخلصون قريبا.

إنها كلمات حفرت مكانها في جبين التاريخ، إنها كلمات يليق بها أن تكتب بماء الذهب، لا، بل يجب أن تكتب بماء الألماس، (إن كان له ماء). إنها كلمات زرعت في قلوبنا الأمل، وحملت لنا بشرى تقوي ساعدنا طوال الحرب ضد الاحتلال الأمريكي، وتنفخ فينا روح البطولة والتضحية. إنها كلمات تصوّر مشهدا خلابا من الطمأنينة والإيمان بالله والتوكل عليه، والثقة بالنفس. إنها كلمات تتفجر بالصدقَ والبراءة، تتفجر بالإيمان والهدى، تتفجر بالأمل والرجاء، تتفجر بالحرية والعطاء، تتفجر بالحب والحماس.

إنها كلمات فيها للمسلمين ولجميع الأحرار هدى ونور. إنها كلمات تفوح منها رائحة الإيمان والصمود والثبات والعز والرجولة والإباء. إنها كلمات يشتعل كل حرف منها نارًا، نارًا يستدفئ بها المؤمنون، نارًا يمشي في ضوئها المجاهدون، نارًا تحرق الأعداء. إنها كلمات ينبثق منها النور. إنها كلمات تبعث فينا الأمل. إنها كلمات تسطّر ملامح الصمود، ومعالم الحرية، وأسرار المقاومة.

كل أحد يعرف أنها كلمات نطق بها الملاعمر -رحمه الله- يوم كانت ملامح الصراع ومعالمه مجهولة تمامًا، يوم كانت السماء تمطر علينا قنابلَ الموت، كأنّ الرجل (لله درّه) كان يطلّ إلى عالَم الغيب، كلا، أبدًا،  لم يكن يعلم الغيب، (والله يعلم الغيب فقط) بل كان يملك إيمانًا لا يتزعزع، إيمانًا راسخًا رسوخ الجبال، كان يملك إيمانًا قويًا بنصر الله العزيز القدير، كان يعرف جيّدًا أن الحق يعلو حتمًا، وأن الباطل يزهق حتمًا، قد يجول الباطل جولة، ولكن العاقبة للإسلام دائمًا، كان يعرف أن عاقبة الاحتلال مظلمة سوداء، وأن الاحتلال دائمًا محكوم عليه بالهلاك والزوال، بينما الحق دائمًا محكوم عليه بالبقاء (إذا صح التعبير).

نطق الملا عمر بهذه الكلمات يوم كانت السماء تمطر علينا الصواريخ والقذائف بكثافة، يوم كانت السماء تمطر علينا دمًا ونارًا، يوم كانت السماء تمطر علينا خوفًا وموتًا، يوم كانت أدخنة القنابل تتصاعد إلى السماء وتناطح السحاب، يوم كانت البلاد تتهدم فوق رؤوس قاطنيها، يوم كانت السقوف تنقضّ عليهم، والأرض تتزلزل من تحتهم، يوم كانت النساء يُرمّلن، يوم كان الأطفال يمزّقون أشلاء على أعين آبائهم وأمهاتهم، يوم كانت المساجد تنتهك حرمتها، يوم كانت المستشفيات تدمّر على المرضى والممرّضين، والمدارس تهدّم على رؤوس الصغار.

إنها كلمات انفجرت من بين دوي المدافع وأنين المحتضرين، إنها كلمات قيلت في أجواء من الخوف والرعب واليأس، يوم كان الأطفال يُقصفون، وأشلاؤهم ومِزَقهم تسبح داخل برك من الدم، يوم كان الشيوخ والنساء والأطفال يندفعون خارج المدن والقرى بحثًا عن ملاذ آمن، لينجوا بأنفسهم، ولكن عبثًا، كانوا يفرّون إلى حيث لا يعلمون، بينما التعب يعيق خطواتهم، واليأس يقاتل معنويّاتهم، يوم كانت الصرخات المؤلمة والتنهيدات العميقة والتأوهات الموجعة متعاليةً في السماء، يوم كان الناس يعيشون القيامة الصغرى، يوم كانت مآسي الوطن وآلامه لا تعدّ ولا تحصى.

إنها كلمات نطق بها أميرنا الراحل يوم كنا أغرب الناس وأعجزهم على مستوى العالم، يوم كان اليأس يحارب قلوبنا، إنها كلمات نطق بها رجل من جنس الفولاذ، رجل عاش حياته كلها محاربًا في سبيل الله والحق ضد الروس والعملاء، ضد الظالمين والخونة، رجل ترعرع في حضن الحرب باحثًا عن الاستقلال والحرية، غير مبال بالجروح والآلام والتعب والسهر، رجل يؤمن بنصر الله وبعدالة قضيته.

من كان يصدّق هذه الكلمات في تلك الأيام؟

من كان يظن في تلك الأيام أن هذه الكلمات التي قيلت في خضم المعركة ستخلد في التاريخ للأبد؟

من کان يظن أن الإمارة الإسلامية ستصمد أمام أمريكا، وستصمد أمام حلف الأطلنطي؟

من كان يظن أن الشعب الأفغاني الفقير الأعزل يستطيع أن يقف في وجه المقاتلات الأميركية والصواريخ الأمريكية ندًّا لندٍّ؟

من كان يتصور أن هذا الشعب يستطيع أن يحارب أمريكا لمدة تقارب العشرين سنة؟

من كان يتصور أن هذا الشعب الذي أنهكته الحروب يستطيع أن يخلّد انتصارًا نوعيًا بسلاحه المفلول وعتاده القليل، انتصارًا أقرّ عين كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها؟

من كان يتخيل أنه يزيد في قائمة أمجاده مجدًا آخر، مجدًا عظيمًا يحار في تحليله المؤرخون عبر العصور الآتية؟