اذهبوا فأنتم الطلقاء

أبو فلاح

 

عادت الرياح (كما تعلمون ولو يحاول العدو أن ينكرها ولكن دون جدوى) إلى سفينتنا نحن أبناء الإمارة الإسلامية، عادت ولكن بعد الصبر على العقبات والثبات على التحديات وبعد البذل والتضحية والعطاء. وبالمقابل بدأت لحظات احتضار إدارة كابل التي طالما طغتْ وتجبّرتْ واستكبرتْ، إنها تلتقط أنفاسها الأخيرة، والحمد لله، لا تلوموني بأني أشمت بها وأفرح لموتها، فإن بعض الميتات حياة، أليس موت الشتاء حياة الربيع؟ أليس موت القاتل قصاصًا حياة للمجتمع؟ حصل ذلك بنصر الله لنا ثم بفضل صمود رجالنا واستبسال أبطالنا وذكاء قادتنا وإخلاصهم، وتضحيات شعبنا المقهور الجسيمة، والتفاف شعبنا الأبي حولنا في كل حين.

بدأت قوافل المستسلمين تأتينا بأرواحهم على أكفهم، وبأسلحتهم ومعداتهم على أكتافهم، وبسياراتهم ومصفحاتهم تحت أرجلهم وهم يقودونها بأنفسهم، وذلك ثقةً بنا واعتمادًا على صدقنا وعلى وفائنا بمواثيقنا، وعلى قدراتنا العسكرية، إيمانًا بأنّ المستقبل لنا نحن، وأن العاقبة للمتقين، وأن الهزيمة للعملاء الظالمين، وأن نهاية العملاء قد بدأت، وأنه لم يبق للعملاء خيار سوى الاستسلام أو الهروب أو القتل، لعلكم شاهدتم فيديوهات انتشرت خلال مواقع التواصل الاجتماعي انتشارَ النار في الهشيم، يستسلم خلالها جنود الإدارة العميلة أفواجًا، يستقبلهم أبناء الإمارة قادةً وجنودًا بالبشر والترحاب، يستقبلونهم وكأنهم رفاق تلاقوا بعدما باعد بينهم الزمان والمكان، أو كانهم فاتحون وليسوا مستسلمين. إنها قمة النصح يا جماعة، إنها ذروة الإصلاح، وهذا إن دلّ شيء فهو يدلّ على أنهم يريدون الإصلاح والنجاة من النار، قبل أن يريدوا الحكم والسلطة، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) “لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم” (متفق عليه).

إنها مواقف إنسانية مشرّفة نبيلة سيخلّدها التاريخ، مواقف تسيل منها المدامع لا إراديًا، ترى قياديًا من الإمارة يعانق جنود الإدارة العميلة الذين طالما ارتكبوا الجرائم ضدهم، يعانقهم واحدًا واحدًا ويبكي من فرط الشوق والفرح، هذا موقف عظيم تقشعر منه الجلود والأبدان وتلين منه القلوب.

 

طفح السرور عليّ حتى إنه  *** من فرط ما قد سرني أبكاني

 

لا ينسى التاريخ أبدًا أن الإمارة الإسلامية أصدرتْ عفوًا عامًا لجميع العساكر والجنود الذين عملوا لإدارة كابل شريطة الاستسلام، شريطة أن يأتونا نادمين على فعلتهم في ماضيهم. غفرت الإمارة الإسلامية (وهذا هو المتوقَّع منها) لقاتلي مقاتليها، ولم تنتقم لأفلاذ أكبادها من الذين وقفوا إلى جانب الأجانب المحتلين مدة عشرين سنة، وضربت بذلك أروع الأمثلة في التسامح وفي نبذ الأحقاد والخصومات وفي العفو عند المقدرة. لا ينسى التاريخ أنها فضّلت مصالح الشعب والوطن على مصالحها هي، بل إن الإمارة جزء لا ينفك عن الشعب، هي من الشعب والشعب منها، مهما حاول الإعلام أن يفرق بينها وبين الشعب، فكل شيء يعود إلى إصله في نهاية المطاف.

 

ما اعتمدت الإمارة الإسلامية قطُّ على الجانب العسكري فحسب، وإنما استخدمت أدوات مشروعة أخرى لتحقيق غاياتها، إن التاريخ سيحفظ لهم هذا الإنجاز الكبير، وهذا النصح المنقطع النظير. إنها صفحة مشرقة من تاريخنا المجيد فتحناها نحن وأضفناها إلى قائمة أمجادنا، فلا ننسى الأخلاق والعدالة والكرامة الإنسانية واحترام أحكام الشرع عندما تقرع طبول الحرب، ولا نسمح أن يستباح حمى العدالة أو أن يدنس قدسها، هذه سنّتنا.

انتصرنا في معركة مكارم الأخلاق. ومعركةُ مكارم الأخلاق من أشد المعارك، خضناها وخرجنا منها منتصرين رافعين رؤوسنا، خرجنا منها ونحن قدوة حسنة وأسوة طيبة، خرجنا منها متبعين لنهج الرسول (صلوات الله عليه وسلامه).

إن معركتنا معركة مبادئ، معركة الأخلاق، لا نقاتل من أجل الحصول على السلطة فحسب، لا نحب الغلبة، وإراقة الدماء بلا وجه، ولا نحب الكفاح إلا إذا احتجنا إليه، ولكن إن احتجنا إليه كان أساسيًا، كما الحياة نفسها، وما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وإنما نقاتل حاملين منارة العدل والحضارة، حاملين رسالة سماوية وشريعة إلهية، نقاتل من أجل إنقاذ الناس من لهيب النار، ومن العبودية، نقاتل من أجل تحقيق أهداف نبيلة وغايات سامية، نستميت في سبيل نشر رسالتنا، ومن استمات في سبيل نشر رسالته مات بعزة وكرامة أو ما مات أبدا.

ولكن العملاء خسروا هذه المعركة، معركة الأخلاق والقيم وأصبحوا عنوان الرذالة والسقوط الأخلاقي، ومن خسر هذه المعركة خسر كل شيء. ففي ناحية أخرى من المعركة، في إقليم “غزني” تم إشعال النيران في أجساد شهدائنا على أيدي العملاء، وتم التنكيل بهم، كأنهم لم يشبعوا من القتل، ولم يرتووا من الدماء، سقطوا (وهم ساقطون دومًا) عبر هذه الجريمة التي يتندى لها الجبين في مستنقع الرذالة، أكدوا بهذه الجريمة أنهم انهزموا نفسيا، وخسروا ما تبقى من معنوياتهم، من خسر في الحرب آخر قطرة من معنوياته، فعل ما يشاء. وأما الشعب فهو بعد أن أمضى أكثر من أربعة عقود في الحرب والخوف؛ توّاق ليوم تضع الحرب فيه أوزارها، ولا تعود إليها (أعني الأوزار) أبدًا.