التكفيرية الإفراطية

الشيخ نورأحمد إسلام جار (والي ولاية هرات)

 

التكفيرية قومٌ إفراطيون يكفّرون من خالفهم بأدنى شبهة؛ لا سيّما الأمراء ورجال السياسة ومشايخ التصوف، وله سببان: الجهل بمراد كلام الله على فهم السلف، والتشدّد في الحكم.

أول من فتح باب الفتنة على هذه الأمة قومٌ كانوا يعدّون أنفسهم عبّادًا وقراء وزهّادًا وعقلاء، فاعترضوا على ذي النّورين اعتراضاتٍ بلا دليل؛ حتّى انجرّت مشاجراتُهم إلى قتله رضي الله عنه حين قراءة القرآن، ثم اعترضوا على أسد الله الغالب في تحكيمه الحكمَيْن للمصالحة بينه وبين الأمير معاوية، وحكموا برغم قلة علمهم، بكفرهما رضي الله عنهما، وانجرّت مشاجراتهم إلى أن قتلوا جمعًا كثيرًا، وقُتلوا هم بيدِ خير النّاس في زمنه (الكرّار)، وبعض من نجى منهم (ابن ملجم المرادي) استطاع أن يقتل الكرّار حين قيامه لصلاة الفجر، ثمّ لم يزلْ فكرُهم موجودًا في أولادهم الروحيين، إلى أن خرجت طائفة تكفيرية منهم على الخلافة العثمانية العلية، فقتلوا المسلمين في الحرم وغيره، وكانت تلك الحركة من أعظم أسباب انهدام الخلافة الإسلامية، وخرجوا على مجاهدي الجزائر حينما قرب الفتح، فكفّروهم، ومنهم من خرج بالشام والعراق وأفغانستان باسم الخلافة، وأكثروا في قتل المسلمين، وأثاروا فتنة الرافضة والروس والعرب والعجم على المجاهدين، وكانوا أعظم سبب لاتفاق دول الكفر والبدعة على أهل السنّة وانهزام السُنّة، هداهم الله إن كانوا أهلا لها.

قصّة وعبر: روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ ـ رضى الله عنه ـ فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ‏.‏ قَالَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ‏.‏ فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً أَوْ رِجَالاً إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ‏.‏ قَالَ سَعْدٌ أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ‏.‏ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ‏.‏ فهذه خاتمة من اعترض على أميرٍ من أمراء الجهاد بغير حق في الدنيا والله أعلم بحاله في العقبى.

يقول هؤلاء التكفيريون بظاهر: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)؛ مع أنّ المراد منه: الكفرُ الأصغرُ باتفاق الأمّة. فقد روي عن ابن عباس تفسير الآية بالكفر الأصغر دون الأكبر، وهذا الأثر وإن كان ضعيفا سندًا؛ فهنا قرائن تدل على صحته وصحة إرادة هذا المعنى، منها ذهابُ تلاميذ ابن عبّاس كطاؤوس إلى هذا القول على ما رواه ابن جرير بسند صحيح، ومنها: أنّ الأثر تلقّته علماء الأمّة، ومنها: وجود نصوص أخرى تدل على أنّ الكفر قد يُطلق ولا يُراد به الكفر المخرج عن الملة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “اثنتان في النّاس هما بهم كفر: الطعن في النّسب، والنّياحة على الميّت”، وهذه لا تخرج عن الملة بلا إشكال، لكنّ قلة بضاعة من العلم، وقلّة فهم القواعد الشرعية العامّة؛ هي التي توجب هذا الضلال، ثم شيء آخر نضيفه إلى ذلك، وهو سوء الإرادة التي تستلزم سوء الفهم، لأنّ الإنسان إذا كان يريدُ شيئًا؛ لزم من ذلك أن ينتقل فهمه إلى ما يريده ثم يحرّف النصوص على ذلك، وكان من القواعد المعروفة عند العلماء أنّهم يقولون: استدلّ ثم اعتقدْ، ولا تعتقدْ ثم تستدلّ، فتضلّ، فالمهمّ أن الأسباب ثلاثة: الأولى: قلّة البضاعة من العلم الشرعي. الثانية: قلّة الفقه في القواعد الشرعية العامة. الثالثة: سوءُ الفهم المبني على سوء الإرادة. ا.هـ “فتنة التكفير”.

ومن القرائن: أنّ الأخذ بعموم الآية يلزم منه تكفير المسلمين في أي حادثة لم يعدلوا فيها بين اثنين؛ حتّى الأب مع أبنائه، بل والرجل في نفسه إذا عصى ربه، لأنّه لمّا عصى ربه لم يحكم بما أنزل الله في نفسه، لأنّ (مَنْ) و(ما) عامّة، ومن لم يعدلْ بين بنيه داخلٌ في عموم (مَن)، ومسألته التي لم يعدل فيها داخلة في عموم (ما). فالنّصوص الدالة على عدم كفر مثل هذا وكل عاص تكون صارفة للآية من الأكبر إلى الأصغر، لأجل هذا؛ أجمع العلماءُ على عدم الأخذ بعموم هذه الآية، إذ الخوارج هم المتمسكون بعمومها في تكفير أهل المعاصي والذنوب، ولم يلتفتوا إلى الصوارف من الأدلة الأخرى.

قال ابن عبد البر وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوراج والمعتزلة في هذا الباب،  واحتجوا بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله عز وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ا.هـ وقال: أجمع العلماء على أنّ الجورَ في الحكم من الكبائر لمَن تعمّد ذلك عالمًا به. ا. هـ. أمّا ظاهر الآية؛ فلم يقل به أحدٌ من أئمة الفقه المشهورين. بل لم يقلْ به أحدٌ قطّ. ا.هـ (تفسير المنار). وقال الجصّاص: وقد تأولت الخوارجُ هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود. ا. هـ (أحكام القرآن). واحتجّت الخوارج بهذه الآية على أنّ كلّ من عصى الله تعالى؛ فهو كافرٌ، وقالوا: هي نصّ في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر. ا.هـ (البحر المحيط).  مأخوذ من “البرهان المنير في دحض شبهات أهل التكفير والتفجير لعبد العزيز بن ريّس الريس.

ومن أقوى القرائن على أنّ المراد من الآية الكفر الأصغر: قوله تعالى في قصة سيّدنا يوسف عليه السلام: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ ) قال الثعلبي والبغوي والشوكاني والواحديّ والسمعانيّ والخازن وغيرهم: يعني: إنّ يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا حتّى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أنّ جزاء السارق الاسترقاق، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى. ا. هـ وجه الدلالة أنّ حكم الملك كان غير سنة يعقوب الذي أنزله الله، والظاهر أنّ يوسف عليه السلام كان مضطرًا لأن يحكم بحكم الملك إلا أنه تعالى ألهمه ليسألهم، وهذا وإن كان شرع لنا من قبلنا، لكنّ الكفرَ الأكبر لن يصدرَ عن أحدٍ من الأنبياء، بل لا يمكن أن يكون شيء كفرًا في ملة وجائزًا في ملة، نعم لو فسّر الكفر في الآية بالأصغر (الإثم) يسهل الأمر، فإنّ كثيرًا ممّا هو معصية في دين الإسلام كان جائزًا في شرع من قبلنا، كناح الأخت، فتنبه فإنه دقيق.

ومن القرائن قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ ) لأنّ المفهوم منه أنّ حكم داود عليه السلام لم يكن مصيبا، فلو كانت الآية جارية على إطلاقها مطلقا، لصدق على سيّدنا داود إن لم يحكم بما أنزل الله، بل الحكم المنزل ما صدر عن سليمان، فلا بدّ وأن نعتقد أنّ في الآية تخصيصات، وأنّها ليست بجارية على ظاهرها كما ذهب إليه جمهور الأمة.