الشهيد الهصور المقدام الملا يارمحمد رحمه الله

 

من أبطال الأمة الإسلامية وقادة الإمارة ورجالاتها الصادقين:

الشهيد الهصور المقدام الملايارمحمد رحمه الله

 

الحمد لله الذي شرع الجهاد والاستشهاد لرفع راية التوحيد، وجعله ذروة سنام الإسلام، والسبيل إلى إحيائه وتجديده، والصلاة والسلام على قائد المجاهدين القائل:« للشهيد عند الله ست خصال، يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الايمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الاكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوته خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين انسانا من أقاربه».( كذا خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجة والحدیث صحیح).

وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : أَنَّ رَجُلاً أَسْوَد أَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي رَجُل أَسْوَد مُنْتِنُ الرِّيح، قَبِيحُ الْوَجْه، لاَ مَالَ لِي، فَإِنْ أَنَا قَاتَلْتُ هَؤُلاَءِ حَتَّى أُقْتَلَ، فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ :«فِي الْجَنَّة». فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ :«قَدْ بَيَّضَ اللهُ وَجْهَكَ، وَطَيَّبَ رِيْحَكَ وَأَكْثَرَ مَالَكَ». وَقَالَ لِهَذَا أَوْ لِغَيْرِهِ: «لَقَدْ رَأَيْتُ زَوْجَتَهُ مِنَ الْحُور الْعِين نَازِعَتَه جُبَّة لَهُ مِنْ صُوف، تَدْخُل بَيْنَهُ وَبَينَ جُبَّتَهُ».(الحاكم ( 2463 ) كتاب الجهاد، تعليق الحاكم “هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه”، تعليق الذهبي في التلخيص “على شرط مسلم”، تعليق الألباني “صحيح”).

وعَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : أَنَّ رَجُلاً ناَدَى رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! مَنِ الشُّهَدَاء؟ فَقَالَ :«الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي الصَّفِّ الأوَّلِ، وَلاَ يَلْتَفِتُونَ بِوجُوههم حَتَّى يُقْتَلُونَ، فَأولَئِكَ يلتَقونَ فِي الْغُرفِ العُلى مِنَ الْجَنَّةِ، يَضْحَكُ إِلَيهِم رَبُّكَ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا ضَحِكَ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤمِن فَلاَ حِسَابَ عَلَيهِ». (المعجم الأوسط ( 3169 )، تعليق الألباني “صحيح”، صحيح الجامع ( 3740 ).

فالشهداءُ وقودُ الخلافة الإسلامية، وأرواحهم مِدادها، وقلوبهم في دنياهُم مُعَلقة بالحرية، وفي أُخراهم في حواصلِ طَيرٍ خُضرٍ زاهيّة، فهم جادوا بأغلى ما يملكون، فنالوا أجَلّ ما يتمنّون.

بالله علیكم هیا بنا نتلو حدیثاً آخر حتی نتلذذ بهذه الأحادیث فنحن لم نفز بدرجة الشهادة بعد، ومازلنا نتقلب علی سریر الحسرة، وفراش الولولة، لأننا لم نقدم شیئاً في سبیل الله بعد أو لأننا بعيدين كل البعد عن میادین القتال وساحات الاستشهاد، وأصابنا الوهن، والجبن وحب الدنیا وكراهية الموت في سبیل الله، فهیا بنا نتلو حدیثاً آخر علّ الله یرحمنا ویشحذ بمثل هذه الأحادیث هممنا.

عن مسروق رضي الله عنه قال : سألْنا عبد الله عن هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربهم إطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا .رواه مسلم ( 1887 )

الله أكبر الأحادیث واضحة، لأن من نطق بها كان متسما بصفة مبینة، بینها لنا المولی الكریم في محكم تنزیله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)) { سورة النجم}.

يحتاج المرء فقط أن یتفكر فیها ثم ما یلبث إلا أن ینطلق في سبیل الله يطلب الموت مظانّه.

فكثیر من الأبرار عندما امتثلوا بهذه الآیات والأحادیث اصطفاهم الله سبحانه وتعالی واجتباهم لصحبته، فها نحن نسعی في هذه العجالة أن نلمم ونلقي الضوء بكلمات بسیطة على سِيَر بعض هؤلاء العمالقة الذین نتحدی الدنیا برمتها أن تأتینا بأمثالهم ولكنها عاجزة، باستثناء أرض الجهاد والاستشهاد فإنها ملیئة -بحمدالله- من أمثال هؤلاء الأبطال الذین لو بذل جميع الكتّاب والأدباء مافي وسعهم لوصف بطولاتهم وإقدامهم وتهافتهم على الموت في سبيل الله لكلّوا وملّوا وتحیّروا أمام مقامهم الرفیع، ولأخذتهم الدهشة من أین یبدأوا ویشقوا طریقهم، فحروف اللغة العربية لن تكفيهم ولن تسعهم مفرداتها ومعانيها لتعبر عن هذه الثلة من الرجال العظماء الأفذاذ، فالكلمات ستبقى عاجزة قاصرة عن وصفهم، والأقلام التي تسعی لأن تكتب عن أمجادهم ستنفذ ويجف حبرها، قبل أن تنفذ أمجادهم، والأوراق التی تدبج عليها سيرتهم ستبقى قزمة أمام كبريائهم وشموخهم وأنفتهم.

فكیف بي وبأمثالي ونحن عاجزين عن البيان والتعبير بأن ندون سیرة هؤلاء الأبطال؟

الميلاد والنشأة:

بزغ فجر شهيدنا المغوار الملا يارمحمد بن الحاج خان محمد في عام 21/8/1959م في منطقة مرغان كيتشه بمديرية دامان بولاية قندهار وتربى الشهيد بين أحضان أسرته المجاهدة في بيت متواضع من قبيلة بوبلزي البشتونية الشهيرة.

وأصبح يرتاد المساجد منذ نعومة أظفاره، فشب وترعرع في ظلال بيوت الله نهل من معينها الصافي، وتزود بزاد الدعاة وانطلق نحو الجيل، وتعلم العلوم الابتدائية والإعدادية من علماء تلك القرية التي كان مسقط رأسه فيها، فكان مثالاً للطالب المجتهد الخلوق، وعندما كان يافعاً ثار الشيوعيون، فوقف الشهيد الباسل حياته الباقية للجهاد ضد الشيوعيين، فكان من الضاربين بيد من حديد عليهم، يلاحقهم في كل مكان لاجتثاثهم والقضاء عليهم.

 

جهاده ضد الزحف الشيوعي الغاشم:

إن المتتبع لجهاد الأفغان يلمس فيهم صفات المؤمنين الصادقين، الذين هم أهل الجهاد الحق، فقد ضربوا المثل الأعلى في الصبر، وتحمل المشاق بجانب التضحية والفدائية والاستبسال، فهم حقاً باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله.

فعندما حشدت روسيا قواتها على الحدود، واقتحمت أساطيلها البرية والجوية والبحرية أرض أفغانستان، واحتلوها في نصف يوم وأعدموا ( حفيظ الله أمين) وكان ذلك في يوم 27 من ديسمبر 1979م، وأعلنت أنها جاءت بدعوى من الحكومة الشرعية لمنع التدخل الباكستاني الإيراني، في الوقت الذي نصبوا عميلاً جديداً من عملائهم اسمه ( بابراك كارمل).

فانفجرت المقاومة الإسلامية في كثير من أنحاء أفغانستان ضد الحكومة الشيوعية التي أبادت حوالي 24 ألف مسلم في يوم واحد في محافظة هيرات غرب افغانستان، ووقف هذا الشعب المتجرد من السلاح، والذي لايملك إلا وسائل المقاومة البدائية أمام أعتى قوى الأرض آنذاك، و أشرس الجيوش المزودة بأحدث أسلحة توصل إليها العقل البشري.

ولكن بنصر الله وتأييده لقد شرب الجيش الروسي من يد الأفغان كأس الذل والعار الذي لحق بهم، وألبسهم الأفغان لباس الرعب إلى حد أنهم التمسوا الأبواب للخروج من أفغانستان، فلم يجدوا إلا باباً واحداً وهو باب الذل والهزيمة وضياع مجدهم البائد، وانحطاطهم أمام العالم كله.

فهؤلاء المسلمون رغم استضعافهم أداة إلهية قدرية؛ سيُجري الله تعالى بها سننه، ويحقق بها وعده بانتشار نوره وانتصار دينه، وانكسار أعدائه، [ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ]   ( التوبة : 33 ) .

وبطلنا الباسل أحد هؤلاء المغاوير الذين التحقوا بصفوف الجهاد ضد المحتلين، ويجدر بنا الآن أن نسرد ما قص الملا عبدالمنان أحد زملاء الشهيد حيال التحاق الشهيد بصفوف القتال، فيقول: لقد كان للمجاهدين مركز في جبل جغني بمديرية أرغستان بولاية قندهار وكانت زعامته مفوضة على عاتق عبدالرزاق والحاج الملا محمد الرباني، فالتحق ولأول مرة بهؤلاء المجاهدين وهو في ربيع الـ 20 عاماً، وهذه هي بداية انطلاقه للجهاد في سبيل الله ضد السوفييت، وكان إلى جانب ذلك كلما سنحت له الفرصة ذهب لينهل من معين العلم.

وعند بداية الهجوم المباغت على الأعداء، ساهم الشهيد الباسل في الإغارة على ثكنة في مديرية أرغستان، ثم قاتل الأعداء على الطريق السريع كابول – قندهار ومناطق كثيرة أخرى بولاية زابول. وكانت جل عمليات المجاهدين متمركزة على الطريق العام بين قندهار وقلات، فكانوا ينسقون بعد الحين والآخر هجمات مميتة ضد الأعداء على جوانب هذا الطريق ويكبدون العدو خسائر فادحة.

فبات المجاهدون يكمنون على جوانب الطرق السريعة في مناطق عدة كشهر صفا، وغشي، وخاران وخورازانه كوتي ومناطق أخرى، وكانوا يكبدون العدو خسائر فادحة حتى سميت إحدى المناطق هناك باسم [ منطقة السيارات المحروقة]؛ لأن كثيرا من سيارات العدو احترقت في هذه المنطقة بأيدي المجاهدين الأبطال.

ولم يكن هذا الأسد الهصور يتابع المهمات الجهادية وهو بعيد عن أرض المعركة مع أنه كان قائداً؛ بل كان دوما في مقدمة المجاهدين وعلى رأس عملهم وكان يتقن الفنون العسكرية، وكان له باع طويل في التخطيط للعمليات الجهادية وإطلاق الصواريخ على العدو، كما أتقن بعد ذلك استخدام سلاح استينجر، وله باع طويل في إسقاط طائرات العدو الشيوعي.

وللشهيد أعمال جهادية كثيرة لا تعد ولا تحصى، وحسبه أن الله حسيبه يعلم ما فعل لخدمة الإسلام والمسلمين ولترسيخ أقدام المجاهدين على أرض أفغانستان آنذاك.

 

في قبضة العدو:

ولكونه قائدا عسكرياً نشيطا في مختلف المواطن والميادين، وجنديا وفيا من جنود الإسلام، فقد نال حظاً وافراً من المحنة والابتلاء، وتجسد ذلك في تجربته الأولى في سجون الشيوعيين عندما اعتقل في حكومة نجيب في قرية بوتي الواقعة بين مدينة صفا ومديرية دامان، فاقتادوه إثر ذلك إلى سجن قندهار، إذ مكث قرابة سنة في سجونهم وعانى خلالها الكثير من مرارة التعذيب والقمع والاضطهاد، إلا أن هذه التجربة – رغم قسوتها وشدة مرارتها – لم تفت في عضد هذا القائد المقدام، أو تضعف من عزمه أو توهن من صموده وعناده للباطل، واستخفافه بكل أولئك الذين تنكبوا الدرب السوي، وفقدوا الذرة الأخيرة من ذرات الغيرة والبسالة والشهامة.

ثم بفضل الله خرج من السجن بمساعدة أحد وجهاء القبائل الذي يدعى حبيب آكا وكان رجلا صيّتا في مديرية أرغستان، وبعد التحرر من قبضة العدو عاد ثانية لقتالهم بقدرات جديدة ومستوى عال جداً.

وجدير بالذكر أن الشهيد الملا يارمحمد وقع مرة أخرى في قبضة العدو في عهد الإمارة الإسلامية، وذلك عندما هاجم الطالبان جنوب وجنوب غربي البلاد عام 1416هـ.ق، وأثناء الهجوم وقعت جماعة من المجاهدين في أسر ميليشيات أحمد شاه مسعود، وكان الشهيد الملا يارمحمد من ضمن هؤلاء الأسرى، فكانوا يتفنون في إيذائه وإخضاعه لأشد أنواع التعذيب، ولكن تلك المحن التي مرّ بها الشهيد الباسل لم تفت في عضده، ولم تجعله يتراجع عن مبادئه وأخلاقه ومقاومته، بل تمكن شهيدنا من جعل تلك الابتلاءات محطات إيمانية يتزود فيها الداعية لصولات وجولات في مقاومة البغاة.

وبعدما تجرع الشهيد الألم لمدة 6 شهور و4 أيام من الأسر في جبل السراج، أطلق سراحه في صفقة تبادل الأسرى مع ميليشيات مسعود وإسماعيل خان، ورجع إلى أحضان صفوف الإمارة الإسلامية. 

 

مسؤوليته العسكرية :

وعندما خرج الشهيد الملا يارمحمد من سجون الشيوعيين، رجع مرة أخرى إلى مياين الجهاد والقتال، وكان القائد عبدالرزاق المسؤول العام على جبهات أرغستان، وكان يرتب الجماعات على المناطق الختلفة، وبهذا الصدد عين الملا يارمحمد كقائد على جماعة المجاهدين في منطقة شيخزو بمديرية دامان.

فتوسعت مسؤوليات الملا يارمحمد على صعيد المناطق التابعة له، ونفذ أيضاً عمليات عدة على مطار العدو الذي كان أفراد العدو متحصنين فيه، كما استطاع أن يسقط طائرة ميغ العدو.

ويجدر بنا هنا أن نسمع من الملا عبدالمنان الذي كان شاهد عيان على هذه الواقعة، يقول الملا عبدالمنان: كانت طائرات العدو تقصف على مواقع المجاهدين بمقربة من المطار، وفي نهاية المطاف اكتشف المجاهدون المخابرة المركزية التي كانت تحذر الطيارين من أن يصيبهم المجاهدون، فقال أحد الطيارين إنه لايخاف من نيران المجاهدين وإنه سيقصف المجاهدين، فكانت هذه الطائرة قريبة من الأرض تريد قصف المجاهدين، فاستهدفه الملا يارمحمد بصاروخ استينجر وأسقطه، و أما الطيار الذي كان يُدعى عبدالأحد وكان قد سمع أصوات المجاهدين في المخابرة وقع أسيرا في يد المجاهدين حياً.

وبعد هذه العمليات بادر المجاهدون بهجمات واسعة على ثكنات العدو في منطقة ريغ، وكان للشهيد الملا يارمحمد دور بارز ومرموق في هذه الهجمات، وطهرت المنطقة من لوث العدو ورجسه.

 

جهاده ضد ميليشات دوستم:

وفي آخر أيام حكومة نجيب كانت الحروب ضد العدو مضطرمة وملتهبة في جميع أصقاع أفغانستان والعدو كان ينكص على عقبيه، وكانت المناطق الجنوبية قد طهرت من لوث العدو ماعدا المراكز، وعلى هذا الغرار كان مركز ولاية كلات في محاصرة العدو وكانت هجمات العدو على الشارع الرئيسي مستعرة.

وكان مجاهدو ولاية زابول وقندهار يهجمون بالتزامن على مركز مدينة كلات، وكان العدو قد كلف أحد قادته الذي كان يدعى عبدالجبار بأن يكسر الطوق الذي كان عليهم ويصل بنفسه إلى مركز كلات، وكان هذا الأخير مشهورا بقساوته وظلمه كزعيمه دوستم السفاح، كما أنه ذاع صيته وميليشياته بسفك الدماء، فبدأ هؤلاء هجماتهم على ضواحي ولاية قندهار.

وعندما عبر عبدالجبار مع مرافقيه بمساندة مئات الدبابات من منطقة شهر صفا، هجم المجاهدون في منطقة جلدك عليهم، وأمر الملا محمد رباني، الملا يارمحمد كي يهجم على العدو في منطقة شيرعلي خان ويسطو عليهم، فاستطاع المجاهدون أن يحاصروا ميليشيات عبدالجبار وقواتهم قريبا من منطقة صفا وعلى ضواحي كلات.

وبعد هذه الملاحم البطولية التي ساهمت فيها جماعات كثيرة من المجاهدين، هاجم الأبطال على العدو ونشب قتال ضروس عليهم، فقتل جراء ذلك عدد من ميليشيات العدو وأما الباقون لاذوا بالفرار، وبعد هذه العملية لم يبق للعدو شوكة في المنطقة، فإما عركتهم المعارك أو سقطوا أسرى بأيدي العدو.     

وكانت مسؤولية العمليات بمنطقة شيرعلي خان في مديرية شهر صفا ملقاة على عاتق الملا يارمحمد، وعلاوة على تكبيد العدو الخسائر، استطاعوا أن يسقطوا طائرة حربية للعدو، كما هبطت إحدى المروحيات إثر التخبط في منطقة المجاهدين، فأسر المجاهدون الطيار وثلاث أخرون كانوا على متنها.

 

الذكاء الحاد:

يقول الملا عبدالمنان : طلب القائد عبدالرزاق من المجاهدين كي ينقلوا هذه المروحية إلى مركز المجاهدين في أرغستان، ولكن كانت طائرات العدو تحوم في السماء آنذاك وتقصف دوماً، والمجاهدون كانوا لطائرات العدو بالمرصاد، فلا بد من إيضاح وإيماء للمجاهدين في المركز أن يعرفوا بأن هذه المروحية لهم وغنمها المجاهدون، فههنا أتت فكرة عجيبة على ذهن الملايارمحمد الذي ألصق عمامته البيضاء وعلقها من المروحية بحيث كان يُرى من بعيد انه علم المجاهدين … وهكذا استطاع أن ينقلها إلى مركز المجاهدين.

ثم أرادت ميليشيات دوستم في شتاء نفس العام الذي هلك في ربيعه ميليشيات عبدالجبار أن يعبروا من ذلك الطريق، ولكنهم استطاعوا بعد الخسائر الفادحة أن يعبروا من ذلك الطريق، نظراً إلى قلة عدد المجاهدين، ولكن مع ذلك كان الملايارمحمد في اشتباك مع العدو في منطقة كوتيز مديرية شهر صفا.

 

نشاطاته الجهادية في ضواحي قندهار:

وبعد هزيمة ميليشيات عبدالجبار ودوستم، وقعت معظم المناطق في قبضة المجاهدين، ولم يبق للعدو شيء سوى التقوقع في مركز مدينة قندهار، والمساعدات اللوجيستية كانت تأتي لهم بالطائرات ولم تكن عملياتهم تجدي نفعاً ماعدا القصف.

فبناء على ذلك ركز المجاهدون عملهم باستهداف طائرات العدو، ورتبوا لأجل ذلك جماعة خاصة من المجاهدين لإسقاط الطائرات و المروحيات تحت قيادة الملا يارمحمد، فكانوا يهجمون على الطائرات من جانب، ویستهدفون الطائرات بالصواريخ من جانب آخر.

فرتب الشهيد الملا يارمحمد بمساعدة المجاهدين الآخرين مابين 10 إلى 20 موقعاً لاستهداف الطائرات والمروحيات بالصواريخ، وكما يقال بسبب هذه الرمية النازفة تضعضع العدو في المناطق الجنوبية.

 

وسام الكلم في سبيل الله:

عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك”. ( قال ابو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم. قال الشيخ الألباني : صحيح).

يُبَينُ النبي صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد في سبيل الله تعالى وما ينال صاحبه، من حسن المثوبة، بأن الذي يجرح في سبيل اللّه فيقْتَلُ أو يبرأ، يأتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بِوِسَام الجهاد والبلاء فيه، إذ يجيء بجرحه طَريّاً، فيه لون الدم، وتتضوع منه رائحة المسك، فقد أبدله اللّه تعالى بهوان أذى الأعداء شرف الفخر والعزة على أنظار الأولين والآخرين، وبإراقة دمه أن أبدله مسكا، يتأرّج شذاه، وتفوح ريحه الزكية. والله ذو الفضل العظيم.

ما يستفاد من الحديث:

1- فيه فضل الجهاد، وقد كثرت فضائله، وتعدد ثوابه، لما فيه من عز الإسلام.

2- فضل الشهادة في سبيل اللّه، وكيف يجازي صاحبها، وفيه فضل الجراحة في سبيل الله، فهي أثر من طاعته ومجاهدة أعدائه.

3- هذا الفضل والفخر، الذي يتميز به المجروح يوم القيامة.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ كان أ َبَو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ إذا ذكر يَوْمُ أُحُدٍ، قال: ” ذلك يوم كله لطلحة”. وكنت أول من فاء، فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دونه فقلت : كن طلحة. حيث فاتني هذا الموقف. فإذا بطلحة بضع وسبعون، بين طعنة ورمية وضربة. {المغازي للواقدي: 1/246}.

إن الجريح في سبيل الله لايجد من ألم الجرح مايجده غيره، القتيل في سبيل الله لايجد من ألم القتل إلا كمس القرصة. وإذا كان هذا حال القتيل فكيف بمادون القتل، وهي الجراح التي يصاب بها الجريح.

إن هذا أمر مستقر، لايجحده إلا من لم يجرب، وإن العقل لايستبعد ذلك، فإن حالة الغضب والحمية إذا اشتدت عند الإنسان، فإنه يجد في نفسه من الشدة والقوة والاحتمال وقلة المبالاة بالمكروه وعدم الإحساس بالألم مالم يكن يجده من قبل!

فكيف بمن يشتد غضبه لله، ويخرج عن نفسه إلى الله، ويتمنى الشهادة عندالله، ويعد ما أصابه من فضل الله، ويشهد بقوة نور الإيمان ما أعدّ الله للشهداء والجرحى في سبيله من الفضل الجزيل، شهوداً محققاً لا علماً مجرداً؟

ومما يتفق مع هذا ما قاله أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد: واهاً بريح الجنة، إني لأجد ريحها من دون أحد!! ثم انغمس في المشركين حتى قتل.

وشهيدنا الباسل قد جمع كل هذه السمات بحذافيرها – نحسبه كذلك والله حسيبه – فإنه قد جرح كتفه أثناء العمليات في منطقة ” محله جات “، ثم قام المجاهدون سريعاً بعلاجه وبعدما شفاه الله من تلك الجراح عاد مرة أخرى إلى ميادين القتال.

 

مؤامرة الشيوعيين المشتركة في قندهار:

وعندما انتصر المجاهدون في المعركة وهزموا حكومة الشيوعيين التي يرأسها آنذاك نجيب، سعى الشيوعيون مرة أخرى بالمؤامرة والحقد حتى يضعفوا المجاهدين ويضعوا حجر عثرة أمام تقدمهم في هذا الطريق.

وفي هذا الأثناء كان هناك ثلة أخرى من المجاهدين الأبطال الذين كانوا مستعدين للتضحية والفداء وتحملوا المشاق والمصائب في هذا السبيل، يرى فيهم القائد النطاسي الملاعبدالرزاق والملا محمد رباني والملامحمد عمر مجاهد والملامحمد صادق والمعلم فداء محمد والملامحمد شيرين والشهيد الملايارمحمد والشهيد الباسل الفقيد الملابورجان والشهيد الملامحمد وآخرون الذين كانوا بحق من المجاهدين الأفذاذ والواقعيين.

وأمام هؤلاء كان لفيف آخر من السراق الذين كانوا يدّعون الجهاد والمقاومة ويستفيدون من اسم الجهاد لصالحهم ولتولي الأمور والسلطة، منهم جل آغا شيرزي – المرشح الحالي لرئاسة الجمهورية – خان محمد مجاهد و عبدالحليم وأمير لالي وفضل الدين آغا، وحامد آغا وآخرون ساهموا – على الظاهر- في الجهاد ضد الشيوعيين، وقدموا خدمات مرموقوقة في هذا المجال إلا أنهم أفسدتهم الماديات والأسلحة واكتسابها، فأنشأوا جماعات مختلفة لأنفسهم ولصالحهم.

وعندما كانت قندهار في قبضة الشيوعيين، كانت لهؤلاء علاقات خفية مع الحكومة إلى حد أنهم كانوا يزورون رجالات الأمن والاستخبارات ويتبادلون معهم الآراء والأفكار يومياً من وراء الكواليس.

وعندما استيقنت الحكومة الشيوعية أنها ليست بقادرة على الاستمرار في حكمها في قندهار، كلفت نورالحق والي قندهار بأن يفوض زعامة قندهار إلى المجاهدين حتى لاتسقط الولاية بأيدي الذين كان لهم دور مرموق في إسقاط الشيوعيين، وبناء على هذا، اتصل نورالحق من وراء الكواليس بهؤلاء وفجأة غادروا الولاية وسقطت بأيدي هؤلاء البغاة.

وهكذا وزع مولعوا الزعامة والحكومة المناصب فيما بينهم، وأما المجاهدون الصادقون كانوا في الخنادق والجبهات خارج البلاد، وأما الشهيد الباسل الملا يارمحمد – رحمه الله – كان في هذا الوقت قريب من المطار في منطقة غوند دبري، فمكث هنالك وتخندق مع المجاهدين الذين كانوا معه.

ومنذ ذلك اليوم سادت الفوضى في قندهار وضواحيها، والقادات الذين كانوا يحكمون البلد وكانوا يسمون أنفسهم بالمجاهدين بدأت بينهم الحرب المجنونة كلٌ يتنافس على النفوذ والسلطة، فقد تحولت بعض عناصر الميليشيات المسلحة التابعة للأحزاب الأفغانية إلى قطاع الطرق، ومارس الكثير منهم السلب والنهب والظلم والإجحاف في حق الأفغان المساكين، وقد تأثرت ولاية قندهار أكثر من غيرها نتيجة ضعف الأمن وفقدان الشرعية، وجرت حوادث التعرض للنساء واغتصابهن، وهذا الذي أثار شعورالمرارة وسط المجاهدين الصادقين، كي يقوموا أمام هؤلاء المجرمين الظالمين، وينفوهم عن ساحة الدير.

 

في صفوف الإمارة الإسلامية:

وبعدما سطع نجم الطالبان تحت إمرة الإمارة الإسلامية في قندهار، كان الشهيد الباسل الملا يارمحمد – رحمه الله – مع رفاقه في منطقة غوند دبري، ولما وصلت الإمارة إلى مديرية دند، قام الشهيد بزيارة قادة الجهاد كسماحة أميرالمؤمنين حفظه الله، والفقيد الملاعبدالغني رحمه الله كما كان الشيخان الفقيدان الملا محمد رباني والملا عبدالمنان يصحبونهما، فانضم الملا يارمحمد رحمه الله وجميع رفاقه وتجهيزاته العسكرية إلى صفوف الإمارة الإسلامية، وكان قد عمل في سبيل الله قصارى جهوده حتى فارق الدنيا، واستشهد في سبيل الله.

وبعدما فتحت ولاية قندهار تقدم مع المجاهدين الآخرين في جميع الخنادق التي أدت إلى فتح زابول، وغزني، وميدان وردك، ولوجر، ثم ساهم في القتال لفتح كابول ولكنه سقط أسيراً بأيدي الميلشيات المقاتلة هناك، وبعد فترة أطلق سراحه فعاد ثانية إلى خنادق القتال وأضرم الهيجاء. وبعدما فتحت ولاية هرات، عين كوالي لولاية هرات.

وكانت الظروف آنذاك حرجة وعصيبة، وكان لأفراد إسماعيل خان حضور فاعل في داخل البلاد وخارجها، ومن ناحية أخرى كانت وسائل إعلام العدو تنشر الدعايات الهائلة، وكانوا يدندنون صباح مساء بأنهم سيهجمون أو هجموا، وكانوا يكثفون النار على أطراف البلد فسلبوها الأمن والأمان، وكانوا يريدون بهذا الفعل أن يضعفوا معنويات المجاهدين، ولكن أنى تضعف همم المجاهدين وفيهم قائد باسل، وبطل هصور كالملا يارمحمدرحمه الله، فلم يكن يعبأ بدعايات العدو حتى هدأت الأجواء في تلك الولاية.

وعندما كان الملا يارمحمد رحمه الله والياً لهرات، قام بإعادة إعمار الولاية، فقد ساهم في ترميم مسجد هرات التاريخي، وقام بترميم أبنية ذات منفعة عامة، وإعمار مسجد جامع جديد في مقام الولاية.

وبعد الخدمة في ولاية هرات، عيّن والياً على ولاية غزني، وقدم هنالك أيضاً خدمات جليلة، وكانت له علاقة وطيدة بالجامعة التاريخية نورالمدارس الفاروقي، وكان دوماً يلتقي بهذه الجامعة ويسأل عن حال الطلاب ويساعدهم ويحبهم ويحنو بهم.

وعلى الرغم من أن الظروف لم تساعد الملا يارمحمد رحمه الله لإكمال الدراسة، إلا أنه كان دوما على صلة بالعلماء والرجال الكبار وطلاب المدارس. يقول الملا عبدالمنان – صديق درب الفقيد الذي صاحبه مدة من الزمن– كان الشهيد متسما بهذه الصفات الراقية والسمات العالية:

كان جوادا كريماً وينفق على الفقراء والمساكين، ولم يكن فيه أصلاً حظ من العصبية، وإذا ما غضب من شخص لم يكن يحمل في قلبه ضغينة أو حقد؛ بل يبدأ معه بالتكلم بسرعة كأنه لم يحدث أي شيء. وفي الهيجاء كان هصوراً مقداماً، وأسداً شجاعاً لايهاب الموت أصلاً، وكان ورعاً تقياً نقياً، وكان حاكما على نفسه وبعيداً كل البعد عن سوء الأخلاق ومتسما بالخلق الحسن.

 

ونال البطل القائد الشهادة:

وفي يوم 1419/5/18 هـ.ق وبالتحديد في الساعة 12:30 ظهراً كان البطل على موعد طالما انتظرته نفسه واشرأبت إليه روحه وأحبه قلبه، كان على موعد مع الحور الحين وجنات النعيم. ونستطيع تفصيل ما حدث يومها كالتالي: كان البطل والياً لولاية غزني، فهجم أفراد حزب الوحدة على مديرية خواجه عمري شمالي ولاية غزني، فذهب البطل للقتال وساهم بنفسه في القتال فأصابه رصاص بيكا وسقط البطل شهيداً في ميدان القتال وهو في عمر 39 عام، وهكذا انتقل شهيدنا من دار العناء إلى دارالبقاء، وصعد إلى عنان السماء شاكياً ظلم الظالمين وعدوان المعتدين. ورحل كما يرحل الرجال، وترجل كما يترجل الفرسان، يلقون حتفهم صادقين في عهدهم، مكرمين بتحقق أمنياتهم.

ثم نقل جثمانه الطاهر إلى مسقط رأسه بولاية قندهار ودفن في مقبرة الشهداء الشهيرة.

وكان الشهيد رحمه الله متزوجاً وله 6 أولاد. ولا زال رفقاء دربه يسيرون على خطاه يجاهدون في سبيل الله، وقدموا خدمات جليلة في هذا الجهاد المبارك ضد القوات الأميركية المحتلة وحلف النيتو، فلله درهم وعلى الله أجرهم.

رحم الله الفقيد البطل وأسكنه فسيح جناته.