ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه – الحلقة الرابعة

صارم محمود

بقيت كلمات من مقالي السابق تحت عنوان «جهاد شعب مسلم» الذي كان يحتوي على تأثرات بالشعب المجاهد بمعنى الكلمة، والذي كان إشادة على جهود متواصلة وخدمات متتابعة يقدمها الشعب المجاهد في إيمان واحتساب، وفي عزم وثبات للجهاد الجاري في محافظتهم فأترك هذه الكلمات البواقي تتمةً للحلقات الآتية، وأعرّج في هذه الحلقة على خواطر حلوة عشتها مع رفيق دربي المجاهد، المولوي مقداد والأخ القنّاص إلياس رحمهما الله؛ اللذان قضيا نحبهما قبل أيام في حملة جوية جبانة شنتها عليهم الطائرات الأميركية بدون طيار بعد عودتهم من عملية شنّوها على إحدى ثكنات العدو الواقعة في قلب المحافظة.

تعرّفت على البطل إلياس رحمه الله في شهر الشعبان المبارك، ولاقيته لأول مرة في غرفة المولوي خالد حفظه الله فوجدته كبقية الإخوة البشتون جَمَّ الأدب، كثيرَ المزاح، فَكِهَ المجلس، وسريع الألفة، وقليل الكلفة ووجدته شابا قويا يتدفق منه النشاط والطاقة.
لم يكن يخطر ببالي على أن يكون الشهيد إلياس تقبله الله أخ المجاهد “طلحة مبارك” حفظه الله الذي نذر حياته للجهاد وقضى أكثر عمره في ميادينه والذي أصيب غير مرة بجروح نازفة وحتى أصيب أخيرا برصاصات في وجهه وفي ظهره، وفي بطنه ما أدّى إلى تشويه وجهه، وذهاب قواه بكامله، ولزم الفراش، وارتهن سرير التمريض إلى مدة طويلة؛ وما إن برح جرحه بعد هذا المدّ المديد من الزمن إلا وانضم إلا ميادين الجهاد من جديد ليلتحق بأخيه الأكبر الشهيد أنس رحمه الله.

فهؤلاء ثلاث إخوة يجاهدون في ميادين الجهاد من زمانٍ بينما أخوهم الأكبر الشهيد أنس رحمه يختطف منهم قصب السبق ليقضي نحبه في سبيل الله فيرتقي في عملية على قاعدة من قواعد العدو شهيدًا، والأخ طلحة يظلّ من المنتظرين إلا وأخوه الأصغر الشهيد إلياس يسبقه في وادي الشهادة.

كانت هذه الأيام التي جئت إلى بشت رود أيام عصيبة حرجة جدا، وكانت تصادف الأيام التي بلغت المفاوضات السياسية في قطر مع المندوب الأمريكي زلمي خليل زاد ذروتها، فركّزت القوات الأمريكية آنذاك بأن تضيق الخناق بأي طريق ممكن على الفئة المفاوضة ويجبرهم على الرضوخ لمتطلباتهم ومن ثم بدأت عملية قصف وإنزالات غير مسبوقة في محافظة فراه.

فما كانت ليلة إلا وكانت الطائرات الأمريكية تنزل في مكان وتقيم فيه مجزرة، وتستهدف من السماء سيارة من المجاهدين أو من عامة الناس وتتركها جثة محروقة وركابها أشلاء متفحمة؛ بالجملة كانت في هذه الأيام وطيس الحرب حامية جدا ففي نفس الوقت استشهد الحافظ محمد نبي القرباني القائد العسكري المحنّك مع جمعٍ من حفظة كلام الله المجيد في حملة جوية للطائرات دون الطيار وفي هذه الأيام أخذت الطائرات بعد مدة طويلة تقصف في مديرية خاشرود ومديرية بكوا التي لم تكن دأبها القصفُ على هذه المناطق.

ومن ثمّ اضطرّ المجاهدون ولاسيما إخوتنا الجُدد والمهاجرون أن يلجأوا إلى جبالٍ تبعدنا بساعات بالسير على الدراجات النارية ليقيموا في هذه الجبال الناطحات معسكراتٍ يعسكر فيها المجاهدون الجُدد، ويسكن فيها الإخوة المهاجرون ريثما يستتاب الأمن، ويصفو الجوّ، وينسحب الأمريكان.

فأمر الحاج سروري الشهيد الياس ليوصلني بدراجته النارية إلى تلك الجبال، فمن سوء حظي أن الشهيد لم يكن يعرف الطريق إلا عبر إدلالاتٍ همس في أذنه الحاج سروري، فبعد ساعات من السير على الدراجة النارية في طريقٍ طويل المدى، ومترامي الأطراف، وفي فجاج كثيرة الالتواء والتعرج، وكثيرة الوهل والسهل، التي نال منا، وأنهك بنا، وتركنا خماصا عِطاشا، وصلنا إلى جبال سوْد شَمْخ تناطح السماءَ سحابَها طولا؛ سلسة جبال طوال شِماخ متشابكة بعضها في بعض كأنها أصابع يد رجل تشابك بعضها في بعض، وكانت بين هذه الجبال أودية، ومضيقات وطرق مخوفة، وحجرات صغيرة وكبيرة، وعيون عذبة بمياه سلسالة صافية أصفى من المرآة، نابعة من بطون الجبال الشامخة، وكانت تجري هذه المياه العذْب وتجتمع بين الأحجار الكبيرة فتأخذ شكل حوضٍ كأنها رصعت بالمرمر وصنعت بالزجاج، فعندما وقفت على الصخرة لتنظر في الماء لكنت تحسب أنك تنظر في المرآة.
ما رأيت مشهدا في حياتي أروع من هذا قطّ، كما أني لم أمرّ بمكان أخوف، ولا أرعب ولا أهوب ولا أصمت من هذا، صمت مسيطر ووقار يغطي الجبال الحالكة الجلباب، وغدافية الإهاب، وظلام جبالٍ في ظلام جبال أظلمت الطرقَ والأودية.
فإذا صوّت بوم في هذا العالَم الصامت كانت الجبال تردده، وتتجاوب معه، وتنشر رعبا عجيبا بين الجبال، فناهيك عن أزيز الرصاص، وحمحمة الطيران، وجلجلة الإنسان.
فضربنا في هذه الأودية وبين الصخور والعيون والأحجار والأشجار التي كانت في بطن هذه الجبال المتشابكة بغية أن نجد من إخوتنا أثرًا فذهبنا وذهبنا دونما نسمع حسيسًا أو نشعر ركزًا حتى إذا بلغنا على منعطف في هذه الوادية إذ سمعنا أزيز طائرة دون الطيار يقتربُ آن فآن، فلذنا إلى أحضان الأشجار لتأوينا من قصفها الفاتك وانتظرنا أكثر من ساعة نأوي في ظلّ هذه الشجرة، ومضيقة تلك الجبل وجنب ذاك الصخرة؛ حتى صفا الجوّ، وولّت الطائرة على دبرها، واتخذنا سبيلنا بين هذه الصخرات فرأينا في بطون الجبال وعنقها كهوفا نُحتت منها ثكناتٌ، فثكنة تليها بعد متيرات ثكنة أخرى، مرقمة بأرقام منظمة من الواحد إلى العشرين وإلى الثلاثين، ويكأن جيشا منظما، شدادا، غلاظا سكنت هنا، ولانت بأيديهم تلك الأحجار الشداد، فصنعوا منها سكنا، واتخذوا منها مبيتا! فامتلأنا رعبا! وتحركنا ذعرا! ولسان حالنا يقول: لمن عسا أن تكون هذه الثكنات! ومن سكن بين هذه الجبال التي ترتاع الجنّ أن يمرّ بها فما حال الإنسان! فهل من حاجة ليسكنوا هنا وليتخندقوا في هذه الراسيات المخوفات.

فاتخذنا نسترق الخطوات إلى الأمام إذ رأينا ثلة من الرجال وبأيديهم أثوابهم يغسلونها بين جوف هذه الأحجار التي تجتمع فيها مياه العيون، فما كنت أعرفهم فذعرت منهم؛ لأن الشهيد الياس تقبله الله تطرق قبل قليل بأن الداعش لجأؤوا لمدة إلى هذه الجبال فظننت أنهم هم، فتسللت إليهم لواذا حتى رآهم الشهيد الياس فانبسطت أساريره فرحا، وانفتح ثغره بسمة لرؤية إخوتنا المجاهدين.

نعم لم تكن تسكن بين هذه الجبال الشامخة جِنٌ ولا نحت منها الثكناتِ عفريت، ولم تسكنها عادنا الأولى ولا ثمود الأشداء الآخرون، بل سكنها أبائنا الغُيُر؛ أبناء هندوكوش الفاتحون؛ الذين خاضوا مثل هذه الجبال التي يقول عنها العلامة الندوي رحمه الله يخاف الجنّ أن يمرّ بها، فمرّوا من بين هذه الجبال مشيًا على الأقدام حتى فتحوا الهند والسند وجعلوها من حظيرة الإسلام.
نعم سكن هنا آباؤنا ولجأوا إلى أحضان تلك الجبال لتحتضنهم بعدما أحرقت الطيران الإجرام بيوتهم، وجعلتها جحيما لا تطاق، لجأوا هنا عندما اشتدت وطأت الاحتلال السوفييت وأحكمت قبضتهم في البلاد، وبنوا فيها الثكنات ليعدوا فيها إعدادا، وليهأوا أنفسهم روحيا وجسميا وليعودوا إلى خنادق القتال بعزم جديد، وإيمان جديد، وطاقة جديدة وليذيقوا العدو الأجنبي كأس المرارة، ويجازفوهم الصاع بصيعان.

نعم هذه جبال هندوكوش الشامخات كشموخ أبطالها وأشبالها، الناطحات للقوى الاستكبارية التي تحطمت عليها مآمرات البريطانيا العظمى، وانسال منها ماء وجه السوفييت الكبير ذات فخفخة ودبدبة.

وهؤلاء رجال الأفغان الذين أخذوا التاريخَ ولم يتركوه إلا ولسانه يلهج بالثناء العاطر عليهم، هؤلاء هم الذين حينما يتحدث عنهم أمير البيان شكيب أرسلان تأخذه النشوة ويطلق القلم على عوائنه قائلا: والله لو لم يبق في الأرض نبض ينبض للإسلام لتجده بين سكّان جبال هملايا نابضا وعزمهم هناك ناهضا.)
نعم هؤلاء إخوتنا المجاهدون أبناء آباءهم الغيارى الذين يتحدث عنهم شكيب أرسلان بالفخر والفخار، وهؤلاء الرجال؛ أبناء تلك الآباء عزيمتهم لم تخر، وقناتهم لم تنل بعد يا أمير البيان! بل مازالت قلوبهم تنبض حقدا للذين جاؤوا من وراء سبعة أبحر بخيلهم وخيلائهم، وقتلوا الشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والنساء العُجّز، ودمّروا المساجد على المصلين، والمستشفيات على المرضى، والسوق على السوقة، إن عزيمة الثأر أخذت منهم الراحة يا أمير البيان! وساقتهم إلى هذه الجبال لينحطوا منها بيوتا، وليتخذوا منها معسكرات، وليجعلوا منها مدارس، إن دماء الثأر مازالت تغلغل في عروقهم، وتجلجل في شرايينهم، وإن حبّ الشهادة ملكت عليهم قلوبهم، وسلبت منهم لبّهم، وهذا هو مقداد، وذاك زيد، وجعفر، وصلاح الدين، وحنظلة.

ما أجملت هذه الأيام التي قضيناها بين إخوتنا الذين جمعت بيننا أواصر الحبّ في الله، والجهاد في سبيله، وما أروع تلك الساعات التي كنا نتسابق إلى قمم الجبال، وما أحلى هذه الليالي التي كنا نتجرع فيها صر القرّ الذي كان يعمل في الجسد عمل السيف في الجسد محتسبا كلّه في الله، وما أجملت تلك الحفلات الإنشادية التي كنا نعقدها في الظلمات الثلاث؛ ظلمة الليل، وظلمة الجبال، وظلمة الكهف، وفي المضيقتين؛ مضيقة الكهف ومضيقة الغربة! وبين الإخوة الأكارم، والمجاهدين الأطاهر وما أجملت تلك العصور التي كنا نذهب لنتفقد منبع العيون فنصل إلى ذروة الجبل، وننهل من رأس المعين.حينما أتذكر هذه القصص، يخفق القلب، وتنهال المدامع، وتحيى ذكرى إخوتنا الشهداء، ذكرى مقداد والياس، ذكرى زيد وخالد.
أترك تفاصيل هذه القصص الرائعات وبين هذه الجبال الشامخات التي ترك فيها الشهيد المولوي مقداد رحمه الله بطولات، وقصصَ إيثار، واحتساب، وجهودٍ ينبغي للتاريخ أن يسجلها ولا يمرّ من جانبها مرور الكرام لأن المقال قد طال، ولم يبق في هذه الحلقة للمزيد مجال.