ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه (الحلقة 8)

صارم محمود

 

أسلفنا في الحقلة السابقة نبذة عن حياة البطل الشهيد “زيد” تقبله الله واعتمدنا فيها على معلوماتنا القليلة التي سمعنا بعضها ورأينا البعض الآخر. وأنقل هنا كلمات قرأتها بالأمس على حالة واتساب أخ مجاهد قضى معنا بضع أيام في محافظة “فراه” عن بطولة والدة البطل الشهيد “زيد” ووالدة الشهيد الحافظ “محمدنبي” القرباني تقبلهما الله لتكون تتمة لما ذكرت في الحلقة السابقة، ثمّ سأتطرق لخواطر عشتها مع الأخ الشهيد المولوي “مقداد” تقبله الله؛ والدة الحافظ محمد نبي القرباني الشهید تقبله الله کانت تقیة عابدة وقد قالت بعد شهادته: کان دعائي عشرة سنين أن یتقبل الله ابني شهیدا، وأما والدة الشهید “زید” البطل، خاطبت مَن حولها من النساء اللواتي أثرن ضجيجًا بعد استشهاد ابنها: ما بالكم تغتمن ولا تُبدين الفرحة، هل قتل ابني في درب سيءٍ؛ كلا وحاشا إنه استشهد، وقتل في سبيل الله فلتفرحن ولتزغردن.

في الحقيقة أكثر أمهات الأفغان وآبائهم يدعون الله بأن يتقبل من أسرتهم الشهداء، ويفتخرون بالشهادة، بل الشهادة أمنية يتمناها ويدعو بها عقب كل صلاة كل أفغاني مجاهد، وهذا ما شاهدناه بأم أعيننا في المدة التي كنت بين أظهر الإخوة المجاهدين، وترددت مع الأمير النبيل الشهيد المولوي “خالد” تقبله الله إلى أُسر الشهداء لأجل التعزية، ورأيت كيف أنهم يحنون إلى الشهادة، والشهيد هو من يرى مقعده بأول قطرة تراق من دمه، وتغفر ذنوبه، وينال العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة، ويشفع في سبعين من أقربائه.

 

الشهيد المهاجر المولوي “مقداد” تقبله الله

لم يبق من الأخ الشهيد -بإذن الله- المولوي “مقداد” سوى قلنسوة وبضع صور في ذاكرة الهاتف؛ صورة قبل شهادته والبسمة على شفاهه، وصورة بعد شهادته، ولم تزل ملامحه باسمة على وجهه الملطخ بالعبير الأحمر؛ فأنظر إلى هذه الصور التذكارية التي التقطت له قبل أن يبايع فضيلة الشيخ “عبدالرحيم” حفظه الله وبعد استشهاده؛ لأنه كان ينفر من التقاط الصور ومن التصوير نفوراً شديدا، ولذلك لم يبق منه سوى بضع صور وقد التقطت عنه بعد شهادته وقبل مبايعته فضيلة الشيخ، ولقد سعى سعيا لمحو ما بقي له من الصور، ونجى إلى حد أنه لم يستطع منع الإخوة بعد شهادته من الالتقاط ولسان حاله يمنعهم، حيث أن بعض الإخوة رعاهم الله حاولوا منع نشر أي صورة له في مواقع التواصل الاجتماعي وفاءً للعهد، وتطييبا لذكراه، وهكذا امتنعتُ عن نشر صورته في موقع الإمارة الإسلامية حينما كتبت عنه سطورا باللغة الفارسية. وهذه الشدة قلما تجدها بين الناس، وربما تجدهم يحسبون التقاط الصورة هيّنا نظرا إلى الخلاف الموجود بين العلماء، لكن هناك رجال من طراز آخر؛ رجال أفذاذ ذوي عزائم قوية؛ يريدون أن يأخذوا الشريعة بحذافيرها عاملين بالعزيمة، والعزيمة هي الأبرز من صفاتهم وهي التي تميّزهم عن الآخرين، وترفعهم ذكرًا، ولاشك إن هذه الشدة إن دلت على شيء فإنما تدل على التزام الشهيد بالشريعة، وعلى غاية إخلاصه وحبّه “خمولَ الذكر”، و”المجهولية” وهذه الأخيرة هي الأخرى من صفات الأفذاذ من المخلصين، فكم من المجاهدين الصادقين قدّموا للأمة الإسلامية خدمات باهرة، غير أنه لم يبق منهم ذكر في الناس؛ سقطوا من قلم التاريخ ولفّهم النسيان، لكن الله عزوجل لم ينساهم، ولن ينساهم أبدا، ولن ينسى تضحياتهم، ولا ما قدّموا للذود عن دينه “وما كان ربك نسيا”. وقد عدّد المجاهد الأديب، والداعية الكبير، الدكتور مصطفى السباعي أخلاق المجاهد وذكر منها: ٣- أن يحب خمول الذكر على الشهرة.

وأنظر إلى القلنسوة التي كان يلبسها دائمًا على العمامة السوداء، والتي وصلتني من قبل أحد زملائنا – فتجدد ذكراه في الخاطر، ويأتيني طيفه الباسم على تلال من الخيال ويناديني بنبرته الحلوة “صارم برادر” كما كان ديدنه إضافة كلمة “برادر” -يعني: الأخ- بلهجة حلوة ملؤها الرأفة والكرم عند ذكر الاسم في النداء والمخاطبة.

وما بقي لنا بعد شهادته قنطرة للصلة به إلا جناح الخيال فنطير بهذا الجناح في سمائه ونخفف عنا الأحزان والأشجان.

أتخيل الأحباب حولي كلما          طال الغياب على فؤاد الواله

وأظل أرسم بالخيال عوالم          ما حيلة المضطر غير خياله

الأخ الشهيد المولوي “مقداد” تقبله الله رغم أنه كان يكبرنا في السنّ، وأكثرنا في العبادة وفي الجهد، غير أنه كان أخفض منّا جناحا، وأكثر منّا خدمة، وأحسن منّا خلقا، وأحرص منّا للخير عملا، وبالتالي كان صورة صادقة عن شهداء الله في الأرض صورة واضحة المعالم، في الخلق والورع، وفي السعي والخدمة، وفي التواضع وخفض الجناح وفي الشدة على الأعداء، وفي الرحمة والرأفة بالمجاهدين. حقا إنه كان شهيدا حيّا يمشي على الأرض وآية من آيات الله، ومنارا للمدلجين من أبناء الأمة الإسلامية في ظلام الكفر والشرك والخرافات.

الأخ “مقداد” تزوّج قُبيل الإجازة الصيفية بَيد أنهم لم يقيموا له حفلة العرس رسميا كما هي عادة بين الإخوة البلوش والبشتون، ونسمّي العقد الأول بـ “شیرینی‌خوری” الذي يتمّ فيه عقد النكاح وقراءة الخطبة وتوزع الحلويات إعلانا للنكاح، ثمّ يتمّ العقد الثاني بحفلة العرس وهذا الأخير هو حفلة العرس الرسمية، ولا أخال أن تكون هذه العادة بين إخوتنا العرب، فقسّم الأخ حلوياتٍ بين زملائه بمناسبة زواجه، وكان فرحا جدّا.

ولمّا آنت الإجازة الصيفية عزم الأخ على الذهاب إلى ميادين الجهاد -كما كان ديدنه قضاء العطلات في الجهاد- وقضاء العطلة وأيام العيد فأيام التسجيل إلى أن يعود إلى دار الهجرة -إيران- ويتزوج. وكان أهل بيته يقيمون في إيران مهاجرين، وهكذا أسرة زوجته، والعجيب أنه لم يتمتع برؤية زوجته لا قبل زواجه ولا بعده حتى لقي الله وهو شهيد.

فبقي أكثر من ثلاثة أشهر ولم يفارق ميادين الجهاد وكان يقول: أبقى هنا ريثما يبدأ التسجيل ثم أذهب إلى إيران وأواصل دراستي حيث أريد أن أدرس سنة “دورة الحديث” هناك ثم أتزوج؛ لكن مضت أيام التسجيل، ومقداد لم يعد؛ كأنما جاذبته أرض الجهاد، وأتته بشرى الشهادة السارّة، وكبّلت يديه ورجليه لأنه بدأ دراسة بعض الكتب لدى الشيخ المولوي “خالد” حفظه الله، وكلما اتصلت به هاتفيا لم يكن مصمما على أمر واحد، فأُخبرت بعد شهادته أنه أتته بشرى الشهادة. يحكي أخ أنه قال له في مراسلة واتساب ذات مرة: أخي لقد رأيت في المنام أني في جوف طير خضر تطير بي في الجنة، ثم تسكن بي عند عرش الله عزوجل، وواصل: أخي لقد كثرت الرؤيا في هذه الأيام وأحتاج إلى دعواتكم”. ولم يمض شهر بعد أيام التسجيل إلا وفاجأنا نعي شهادته، فقبل أيام من شهادته اتصلت به وحكى عن نشاطاته الدعوية والتعليمية وقال طفقت أدرّس إخوتي المجاهدين القرآن الكريم وعدة كتب أخرى. وواصل: أخي أريد أن أبدأ الكتابة، وأمارسها، وطلب مني أن أضيفه في عدة مجموعات لممارسة الكتابة فأضفته وكتب انطباعاته عن شهيدٍ، وعزم على أن يواصل غير أنه الشهادة سبقته.