رمضان شهر عظيم يذكرنا بتاريخنا المجيد ويبشرنا بالمستقبل المشرق المُشَرِّف

إكرام ميوندي

إن شهرا عظيما مباركا -يدعو لكل خير وينهى عن كل شر- جاءنا ليذكرنا بعظمة الإسلام وتاريخنا المجيد،  وليبشرنا بالمستقبل المشرق المشرِّف إن أخذنا خطوات جادة وسديدة وسريعة نحو الأمام، وليعيد لنا مجد الآباء المفقود إن تراجعنا إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليقيم لنا الأمور المعوجة إن عدنا إلى شريعة الله الغراء التي نزلت من الله خالق الناس على عبده ورسوله محمد الرحمة للعالمين لهداية الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.رمضان كريم
نعم إن شهر رمضان المبارك شهر عظيم يذكرنا بالرعيل الأول والسابقين الأولين الذين حملوا رسالة الإسلام وبلغوها بالصدق والأمانة إلى العالمين، وأشرقت الأرض بنور إيمانهم وعدالتهم، فالشهر يعيد لأذهاننا نزول كتاب الله تعالى، وبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا يذكرنا بعهد النبوة الخالدة، وعصر الخلافة الراشدة، وعصر المجد والعزة والجهاد والشهادة في سبيل الله، كما يحثنا على المكارم ويعطينا الأمل في المستقبل المشرق، فإن صيامه نهارا وقيامه ليلا يورث في النفس معنى الإيثار والأخوة والصبر والتحمل، ويدرك به الإنسان مشاعر الفقراء والمساكين، ويبلغ به إلى درجة العظماء المهتمين بشؤون الآخرين من التكافل الاجتماعي والتضامن الإسلامي والتعاطف الأخوي.
نعم إن شهر رمضان المبارك موسم فَذٌّ ومناسبة عظيمة للعبادات من الصيام، والقيام، والمحافظة على الصلوات المكتوبة، وكثرة الخطى إلى المساجد، والرباط في الثغور، والجهاد في سبيل الله، والذكر، والتلاوة، والاستغفار، والتوبة، والإنابة، وبر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب، ووصل الأرحام، والصدقة، والمواساة، ومحاسبة النفس، وترك المعاصي من الشرك، والرياء، والكذب، والغيبة، والتدابر، والتباغض؛ ومن إصلاح ذات البين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والزهد في الدنيا، والرغبة في النعيم المقيم، والإعداد ليوم الرحيل.
فالصوم عبادة خالصة لله تبارك وتعالى، وسر بين العبد وربه، فلا يعلم صدق الصائم إلا مولاه العليم بذات الصدور، وما له من الأجر العظيم والثواب الجزيل لا يعلمه إلا الله العظيم ، وقد قال الرسول المعظم صلى الله عليه وآله وسلم: ( قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له ، إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به.) متفق عليه. فالصوم لله تعالى، لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه، والله عز وجل يحيط بنية العبد وإخلاصه، ويمكن للإنسان أن يفطر أو يصوم مستترا ولا يعلمه إلا الله تعالى، ولأنه لم يعبد بالصوم أحد غير الله تعالى، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. على ما قال النووي رحمه الله تعالى. وقوله تعالى في الحديث القدسي: (وأنا أجزي به) بيان عظم فضل الصوم وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم قدر الجزاء، وسعة العطاء.
إن هذا الشهر يهذب النفوس ويربيها على الصبر والصدق والإخلاص، ويعودها على التعبد والعفة والتجنب عن المعاصي والآثام، فالصوم هو الصدق في القول والعمل، وهو الاجتناب عن المعاصي والجرائم التي تفضي إلى الضغينة والشحناء، وإن شهر رمضان المبارك يحمل لأهل الإيمان معان سامية ومفاهيم عالية، فيحيي في الأنفس الذكية معنى الإيثار والأخوة والمواساة، ويعلمها حقيقة الصبر والتحمل وطريق فهم مشاعر الآخرين، ويوحي إليها أهمية الاهتمام بشؤون المسلمين من التكافل والتضامن والتعاطف والتقارب والتناصر وما إلى ذلك. فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فطر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رمضان أعطى الله تعالى هذه الأمة خمس خصال؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي: أما واحدة فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله عز وجل إليهم، ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدا. وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك. وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة. وأما الرابعة فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول لها استعدي وتزيني لعبادي أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي. وأما الخامسة فإنه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعا، فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر؟ فقال: لا، ألم تر إلى العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم.) رواه البيهقي.
ولا ريب أن هذا الشهر المبارك شهر يتقرب فيه المؤمنون إلى الله الكبير المتعال، وهو شهر الفضائل والحسنات، وهو شهر انتصار المؤمن على النفس والشيطان، وهو شهر انتصار المسلمين على أعدائهم من اليهود والنصارى والمشركين، وهو شهر جليل يربي النفس على تحمل الشدائد، والصبر على المكاره، فهو في الحقيقة تدريب للمؤمنين على الجهاد المقدس، ولذلك شبه الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم المجاهد في سبيل الله بالصائم القائم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يارسول الله : ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ( لا تستطيعونه ) فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول: ( لا تستطيعونه) ثم قال: ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام ، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله.) متفق عليه واللفظ لمسلم.
وفي رمضان انتصر الحق وغلب على الباطل، وفيه انتصر الإسلام وارتفعت راية “لا إله إلا الله محمد رسول الله”؛ وفيه اندحر الكفر في غزوة بدر الكبرى، ففي صبيحة يوم الجمعة 17 رمضان عام 2هـ التقى المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم  بجيش الكفار بقيادة أبي جهل، فالتقى الجمعان في “بدر” (موضع بين مكة والمدينة) فانتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، فقتل من المشركين سبعين، وأسر منهم سبعين،
وفي رمضان كان فتح مكة المكرمة “الفتح العظيم” الذي غير وجه التاريخ، فسار الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم في اليوم العاشر من رمضان بالجيش العظيم قوامه عشرة آلاف مجاهد، وفي صبيحة يوم الجمعة 20 من رمضان- السنة الثامنة 8هـ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحا، ونادى مناديه: من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وكبر في نواحيها … .
وفي رمضان المبارك أنزل الله تبارك وتعالى كتابه القرآن العظيم والذكر الحكيم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، حيث يقول الله تعالى:  شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ… (البقرة-185) فالصيام تزكي الباطن وتُصَفِّيْ القلب وتقرب العبد إلى الله تبارك وتعالى، فيستعد المؤمن للانتفاع بذكر الله عز وجل، ويرغب في تلاوة القرآن العظيم، فإن الصيام والقرآن يحاجان عن المؤمن يوم القيامة؛ كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام: أَيْ رَبِّ منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ؛ ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، قال: فيشفعان.) رواه أحمد والطبراني والحاكم ، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وفي رمضان يقبل الله تعالى دعاء عبده المؤمن؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لاترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.) رواه أحمد في حديث، والترمذي وحسنه، واللفظ له.
وفي رمضان ليلة خير من ألف شهر وهي ليلة القدر؛ يقول الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ . سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. (القدر/1-5). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم.) رواه ابن ماجة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان.) متفق عليه.
والحقيقة أن خصال هذا الشهر المبارك ومزاياه وما يحمله للمسلمين من الفضائل والكرامات والخيرات والبركات كثيرة وكثيرة لايمكن أن تطوى في مقال أو تجمع في كتيب، فنكتفي بما رواه لنا سلمان الفارسي رضي الله عنه من مشكاة النبوة على صاحبها ألف ألف صلاة وتحية؛ حيث قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: ( يا أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعا.)
فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر من فضائل الشهر العظيم قائلا: ( من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه؛ من فَطَّرَ فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء؛ قالوا يارسول الله: ليس كلنا يجد ما يُفَطِّرُ الصائمَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُعطي اللهُ هذا الثوابَ من فَطَّرَ صائما على تمرة، أو على شَرْبَةِ ماء، أو مَذْقَةِ لَبَنٍ.)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعدد محاسن شهر رمضان المبارك بكلماته الجامعة ويقول: ( وهو شهر أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار ، من خفف عن مملوكه غفر الله له ، وأعتقه من النار.)
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته الحكيمة يرشد أمته ويحضها على خصال الخير والسعادة ويقول: (واستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين تُرْضُوْنَ بهما ربكم ، وخصلتين لا غناء بكم عنهما ؛ فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله ، وتستغفرونه ؛ وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة ، وتعوذون به من النار؛ ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شَرْبَةً لا يَظْمَأُ حتى يدخلَ الجنةَ). رواه ابن خزيمة رحمه الله تعالى في صحيحه، ثم قال: صح الخبر. (الترغيب والترهيب – للحافظ المنذري/ ج-2/ ص-94).
اللهم اغفر لنا ولآباءنا وأمهاتنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين؛ اللهم الْعَنْ اليهود والنصارى والمشركين الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك؛ اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم انصرنا على من عادانا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم انصر المجاهدين ونج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان وزمان. اللهم يارب العالمين نج المؤمنين من سجون الظالمين. اللهم اهد المؤمنين ووفقهم لما تحب وترضى، ووحد صفوفهم، وسدد خطاهم، واجمع شملهم وكلمتهم على الحق. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وذريته وأزواجه أمهات المؤمنين ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه. آمين يا رب العالمين.