عقوبة التخلّف عن الجهاد في سبيل الله

صفي الله

 

لا يوجد مسلمٌ على وجه البسيطة إلا ويقرأ في كتاب ربه ما أوقع المنافقين في ورطة سخط الرب سبحانه وتعالى، حيث أنزل -عز وجل- عدّة آيات في زجرهم وتوبيخهم بعدما تخلّفوا عن الجهاد في سبيل الله، وألقوا معاذيرهم الواهية ظانّين بأنهم يخدعون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت يستطعيون بأن ينقذوا أنفسهم من الموت ووخزات المعارك.

فلمّا نزل قول الله سبحانه وتعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29)، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتأهب والاستعداد لقتال الرّوم ولكنّ المنافقين قاموا في هذه الظروف الحرجة والقاسية، ليكشفوا عن خفايا نفوسهم ويفضحوا عن حقيقة نفاقهم، فجعلوا يصدّون المسلمين عن الجهاد، ويثبّطون هممهم عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: لا تنفروا في الحرّ، زهادةً في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً برسول الله، فلقيت محاولاتهم الخبيثة قبولاً من بعض ضعاف الإيمان والبسطاء من النّاس، ففرحوا بذلك، واعتقدوا أنهم سوف يستطيعون الوصول إلى ما يريدون من تثبيط أكبر عددٍ من المسلمين عن الخروج، فأنزل الله عزوجلّ فيهم قوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81).

لم ينحصر فعل المنافقين في عدم خروجهم في سبيل الله بل كانوا يثبطون الآخرين، ويتآمرون بالليل والنّهار على الإسلام وأهله، فهم ما فتئوا يصدّون الناس عن سبيل الله ويمنعونهم من الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي مسجد الضرار مثال واضح على ما نقول، يقول الله تعالى:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110).

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: إنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له: “أبو عامر الراهب”، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش فألبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله، وكانت العاقبة للمتقين. وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيب ذلك اليوم، فجرح في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشج رأسه، صلوات الله وسلامه عليه .

وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه. فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا، فنالته هذه الدعوة .

وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول، صلوات الله وسلامه عليه في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل، ملك الروم، يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم، فوعده ومناه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته، عليه السلام، فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: “إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله” .

فلما قفل، عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء، الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا [وكفرا وتفريقا بين المؤمنين]) وهم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجدا، فقال لهم أبو عامر، ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم وأخرج محمدا وأصحابه. فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة. فأنزل الله، عز وجل: (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) إلى (والله لا يهدي القوم الظالمين).

وقد وبّخ الله سبحانه وتعالى المنافقين بعدما رفع الحرج عن الضعفاء والمرضى والعاجزين عن حمل السلاح ومقارعة الأعداء، وعن الفقراء المعدمين الذين لا يملكون السلاح والرواحل فقال: (نَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ۚ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (التوبة: 93) أي: إنّما الحرج والإثم على الذين يستأذنونك وهم أغنياء يستخدمون الأكاذيب، ويلتمسون المعاذير لعلهم يجدون سبيلاً يحول بينهم وبين الخروج مع المقاتلين. لقد آثروا الراحة عن الخروج في ساعة العسرة، وتخلفوا عن الركب المؤمن في أول مرة، وفضّلوا السلامة الذليلة على الخطر العزيز، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون.

عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: (لا تحسبن الذين يفرحون…) (آل عمران/ 188).

قال الإمام ابن حجر رحمه الله: من الكبائر ترك الجهاد عند تعينه بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلما وأمكن تخليصه منهم وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين.

 

من مضار التخلّف عن الجهاد في سبيل الله:

1 – أن السعي في إبطال الجهاد والتخلف عنه سبب لشمول اللعنة من الله- عز وجل- وفي التقاعس عنه تفويت لكثير من الخير.

2 – القعود عن الجهاد يسبب كثيرا من المفاسد العاجلة والآجلة: فأما العاجلة فإنه يستعدي الكفار على المسلمين ويطمعهم في بلادهم، وأما الآجلة فإنه سبب لتراكم الذنوب والمعاصي.

3 – إذا تخلف المسلمون عن الجهاد كثر الفساد في الأرض وضاعت فرص السلم والسلام.

4 – يورث الذل في الدنيا والهوان على الله في الآخرة.

5 – مظهر من مظاهر النفاق وسوء الأخلاق.

6 – به تنتهك الحرم وتنهزم الأمم.

7 – دليل الجبن والخنوع والانهزامية.