مع نبي الرحمة: بناء الكعبة ودرء فتنة عظيمة

مختصراً من (اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون)

 

الكعبة (١) هي أول بيت بني لعبادة الله عز وجل في الأرض، قال تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين}.

روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: “المسجد الحرام”.

وقد تعرضت الكعبة للعوادي التي زعزعت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بخمس سنين (2) جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، وكان قد أصابها من قبل حريق بسبب امرأة كانت تجمرها، وكانت الكعبة رضما (3) فوق القامة، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصا على مكانتها، وحفاظا على حرمتها، وقد اتفقت قريش على أن لا يدخلوا في بناء الكعبة من كسبهم إلا طيبا، فلا يدخلوا فيها مهر بغي (4) ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس (5).

فلما أرادت قريش هدمها تهيبوا، وخافوا من أن يصيبهم أذى، لأن أكثرهم شاهد ما الذي حدث لأبرهة الحبشي عندما أراد أن يهدم الكعبة، فقال لهم الوليد بن المغيرة المخزومي: أتريدون بهدمها الإصلاح، أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، فقال: إن الله لا يهلك المصلحين، وأخذ المعول، وشرع يهدم، فقال الوليد: قوموا ساعدوني، فقالوا: لا، ننتظر إلى الغد، فإن أصيب الوليد لن نهدم منها شيئا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله صنعنا فهدمنا.

فأصبح الوليد من ليلته لم يصبه شيء، فهدموا معه، وهم يقولون: اللهم إنا لا نريد إلا خيرا، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كأسنمة الإبل (6) آخذ بعضها ببعض.

فقام رجل من قريش ممن كان يهدمها، وأدخل عتلة (7) بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقصت (8) مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.

وقد اشترك سادة مكة، ورجالاتها في أعمال الهدم والبناء، فقسموا الكعبة وجعلوا لكل قبيلة جزءا منها، فكان شق الباب (9) لبني عبد مناف، وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود، والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح، وسهم ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي، ولبني أسد بن العزى بن قصى، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحطيم (10).

وقد شارك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه في البناء، ونقل الحجارة، وكان عمره -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك خمسا وثلاثين سنة.

فلما بلغت القبائل في البنيان موضع الحجر الأسود (11) تنازعوا فيمن يضعه، فكل قبيلة تريد أن تحظى بهذا الشرف، حتى كادت الحرب أن تشتعل بينهم في أرض الحرم، فهنا قامت بنو عبد الدار، وقربوا جفنة مملوءة بالدم وتعاقدت هي وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة فسموا (لعقة الدم).

فمكثت قريش على ذلك أربع ليال، أو خمسا، حتى ألهم الله تعالى أحد عقلائهم وهو (أبو أمية بن المغيرة المخزومي)، والد أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وكان عامئذ أسن رجل في قريش، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب بني شيبة (12) فرضوا وقبلوا هذا الرأي جميعا.

 

صاحب العقل الكبير

فأشخصوا أبصارهم إلى باب المسجد، واشرأبت (13) الأعناق إلى من يا ترى يكون هذا الداخل، فإذا به الصادق الأمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كأن الله سبحانه وتعالى أرسله ليخلص قريشا من هذا الشر المستطير، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد.

فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، فلم يلبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أعطاهم الحل العظيم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “هلم إلي ثوبا”، فأتي به فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيده الشريفة -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: “لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا”، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو بيده الشريفة ثم بني عليه.

وهكذا درأ (14) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحرب عن قريش، بحكمة ليست فوقها حكمة، وكانت مقدمة درئه للحروب، والشرور عن الشعوب، والأمم بعد النبوة، بحكمته وتعاليمه ورفقه، وتلطفه في الأمور، والإصلاح بين الناس، فيكون رحمة للعالمين، كما كان رحمة للمتخاصمين، والمتحاربين في قوم بسطاء أميين.

 

ضيق النفقة الحلال

ومع جهد قريش في بناء الكعبة، فقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمام البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام، فاضطروا إلى أن يقتطعوا منه قطعة من جهته الشمالية، وبنوا على هذا الجزء الذي احتجزوه جدارا قصيرا للإعلام أنه من البيت، وهو ما يعرف بالحجر (15).

وكان ارتفاع الكعبة تسعة أذرع على عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكان لها بابان: باب شرقي، وباب غربي ليدخل الناس من باب ويخرجوا من الباب الآخر، فلما بنتها قريش زادوا في ارتفاعها تسعة أذرع أخرى، واقتصروا على باب واحد، ورفعوا بابها عن الأرض، فصار لا يصعد إليها إلا على سلم ليدخلوا من يشاؤون، ويمنعوا من يشاؤون.

روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها: “يا عائشة! لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم”.

وروى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الجدر (16) أمن البيت هو؟ قال: “نعم”، قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: “إن قومك قصرت بهم النفقة”، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: “فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض”.

 

____________

(١) كل شيء علا وارتفع فهو كعب، ومنه سميت الكعبة، للبيت الحرام، وقيل: سميت به لتكعبها أي تربيعها. انظر النهاية (٤/ ١٥٥).

(2) اختلف في وقت بناء الكعبة، فروى عبد الرزاق في “مصنفه” رقم الحديث (٩١٠٣) عن ابن جريج عن مجاهد قال: . . حتى إذا كان قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بخمسة عشر سنة، بنته قريش. . وبه جزم موسى بن عقبة في مغازيه، والذي جزم به ابن إسحاق أن بنيان الكعبة كان قبل المبعث بخمس سنين.

قال الحافظ في الفتح (٤/ ٢٣٣): وقول ابن إسحاق أشهر، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء.

(3) الرضم: أن تنضد الحجارة بعضها علي بعض من غير ملاط. انظر الروض الأنف (١/ ٣٣٦).

(4) البغي: هي المستعملة بالزنا. انظر النهاية (١/ ١٤٣).

(5) قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السيرة النبوية (١/ ٢٢٧): هذا يدل علي أن العرب كان الكثيرون منهم يتحرون المكاسب الحلال، وأن الربا كان طارئا عليهم من اليهود.

(6) الأسنمة: جمع سنام وهو أعلى الظهر، وأراد أن الحجارة دخل بعضها في بعض كما تدخل عظام السنام بعضها في بعض، فشبهها بها. انظر النهاية (٢/ ٣٦٧).

(7) العتلة: حديدة كبيرة يقلع بها الشجر والحجر. النهاية (٣/ ١٦٣).

(8) تنقصت: اهتزت.

(9) الشق: الناحية والجانب. انظر لسان العرب (٧/ ١٦٦).

(10) الحطيم: على خلاف فيه، لكن أشهرها أنه حجر إسماعيل عليه السلام، وسمي الحطيم لازدحام الناس فيه حتى يحطم بعضهم بعضا، وقيل: لأن العرب كانت تطرح فيه ثيابها التي تطوف فيها، وتتركها حتى تتحطم وتفسد بطول الزمان. انظر النهاية (١/ ٣٨٨).

(11) الحجر الأسود: هو أفضل وأطهر الأحجار على وجه الأرض، وقد ورد في فضل تقبيله أحاديث كثيرة منها:

ما رواه ابن حبان في صحيحه بسند صحيح – رقم الحديث (٣٧١١) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق”.

وروى ابن حبان في صحيحه بسند قوي – رقم الحديث (٣٦٩٨) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “مسح الحجر والركن اليماني يحط الخطايا حطا”.

(12) المعروف اليوم بباب السلام.

(13) اشرأبت: أي ارتفعت. انظر النهاية (٢/ ٤٠٨).

(14) درأ: دفع. انظر لسان العرب (٤/ ٣١٤).

(15) قال الإمام النووي في شرح مسلم (٩/ ٧٨): وهو من البيت، ولذلك لا يصح الطواف إلا من ورائه، وسمي بذلك لأنه حجر، أي اقتطع من الكعبة.

(16) الجدر: بفتح الجيم وسكون الدال، هو الحجر لما فيه من أصول حائط البيت، وهو اسم الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي. انظر النهاية (١/ ٢٣٩) – فتح الباري (٤/ ٢٣٥).