من أخلاق المجاهد: الشجاعة.. أساس الخصال وعماد الفضائل

أبو محمد

 

لله درّ علماء السلف فإنهم كانوا بحق فوارس السيف والقلم، فما كانوا يكتسبونه من تجربة أو حنكة ميدانية كانوا يُدبّجونه على الورق كي تستفيد من تجاربهم الأجيال اللاحقة من المجاهدين والمناضلين.

فلو تصفّحنا أوراق التاريخ نجد كثيراً من هؤلاء الأبطال كابن المبارك وابن نحاس وابن سالم الكلاعي والطرطوشي وغيرهم من الأفذاذ لا يحصون عدّاً.

وللإمام الزاهد أبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي (451-520 هـ) كتابٌ سمّاه (سراج الملوك) في مجلّدين، وعقد في المجلّد الثاني باباً في بيان الخصلة التي هي أساس الخصال وعماد الفضائل ومن فقدها لم تكمل فيه خصلة ألا وهي الشجاعة. ونقتطف فيما يلي بعض الفقرات منها كي يستمتع أبطالنا المجاهدون بجمالها:

قالت الحكماء: أصل الخيرات كلها في ثبات القلب، ومنها تستمد جميع الفضائل وهي الثبات والقوة على ما يوجبه العدل والعلم. والجبن غريزة يجمعها سوء الظن بالله تعالى، والشجاعة حالة متوسطة بين الجبن والتهور. وسئل الأحنف بن قيس عن الشجاعة فقال: صبر ساعة. وسئل أبو جهل عن الشجاعة فقال: تصبرون على حد السيوف فواق ناقة وهو ما بين الحلبتين. واعلم أن الفر من القتل طريدة من طرائد الموت، واستقبال الموت خير من استدباره. وقد قال الأول: رب حياة سببها التعرض للوفاة ووفاة سببها طلب الحياة. ومن حرص على الموت في الجهاد وهبت له الحياة. وقالوا: الهزيمة شفرة من شفار الموت والفار يمكن من نفسه والمقاتل يدفع عن نفسه. وقالوا: ثمرة الشجاعة الأمن من العدو. واعلم أن من قتل في الحرب مدبراً أكثر ممن قتل مقبلاً.

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الشجاعة والجبن غرائز يضعها الله تعالى فيمن يشاء من عباده، فالجبان يفر من أبيه وأمه، والشجاع يقاتل عمن لا يؤب به إلى رحله، فبقوة القلب يصابر امتثال الأوامر والانتهاء عن الرواجز، وبقوة القلب يصابر اكتساب الفضائل وبقوة القلب ينتهي عن اتباع الهوى والتضمخ بالرذائل، وقال الشاعر:

 

جمع الشجاعة والخضوع لربه                 ما أحسن المحراب في المحراب!

 

واعلم أن الشجاعة عند اللقاء على ثلاثة أوجه: رجل إذا التقى الجمعان وتزاحف العسكران وتكالحت الأحداق بالأحداق، برز من الصف إلى وسط المعترك يحمل ويكر وينادي هل من مبارز؟ والثاني إذا تناشب القوم واختلطوا ولم يدر أحد من أين يأتيه الموت، يكون رابط الجأش ساكن القلب حاضر اللب، لم يخامره ولا خالطته الحيرة فيتقلب تقلب المالك لأمره القائم على نفسه. والثالث إذا انهزم أصحابه يلزم الساقة ويضرب في وجوه القوم، ويحول بينهم وبين عدوهم فيقوي قلوب أصحابه ويرجي الضعف، ويمدهم بالكلام الجميل ويشجع نفوسهم، فمن وقع أقامه ومن وقف حمله ومن كردس عن فرسه كشف عنه حتى ييئس العدو منهم، وهذا أحمدهم شجاعة.

وعن هذا قالوا: المقاتل من قاتل وراء الفارين كالمستغفر من وراء الغافلين. ومن أكرم الكرم الدفاع عن الحريم.

وعقد الإمام الطرطوشي باباً آخر بعنوان ذكر الحروب وتدبيرها وحيلها وأحكامها، ذكر فيه من الفوائد ما ليس المجاهد في غنىً عنه.

قال رحمه الله: والشان كل الشان في استجادة القواد وانتخاب الأمراء وأصحاب الألوية. فقد قالت حكماء العجم: أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد. فلا ينبغي أن يقدم على الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة والشجاعة والجراءة ثبت الجنان صارم القلب جريئه، رابط الجأش صادق اليأس، ممن قد توسط الحروب ومارس الرجال ومارسوه، ونازل الأقران وقارع الأبطال، عارفاً بمواضع الفرص خبيراً بمواقع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، وما الذي يجب سده بالحماة والأبطال من ذلك، بصيراً بصفوف العدو ومواقع الغرة منه، ومواضع الشدة منه، فإذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كان جميعهم كأنهم مثله، فإن رأى لقراع الكتائب وجهاً وإلا رد الغنم إلى الزريبة.

واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء، وآخر ما يجب ركوبه قرع الكتائب وحمل الجيوش بعضها على بعض فليبدأ بصرف الحيلة في نيل الظفر. قال نصر بن سيار: كنت أمير خراسان من قبل مروان الجعدي، آخر ملوك بني أمية، قال: كان عظماء الترك يقولون ينبغي للقائد العظيم القياد أن تكون فيه عشرة أخلاق من أخلاق البهائم: شجاعة الديك وبحث الدجاجة وقلب الأسد وحملة الخنزير وروغان الثعلب وصبر الكلب على الجراح وحراسة الكركي وغارة الذئب وسمن نغير، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والشقاء. وكان يقال أشد خلق الله تعالى عشرة الجبال، والحديد ينحت الجبال والنار تأكل الحديد والماء يطفئ النار والسحاب يحمل الماء، والريح تصرف السحاب والإنسان يتقي الريح بجناحيه، والسكر يصرع الإنسان والنوم يذهب السكر، والهم يمنع النوم فأشد خلق ربكم الهم.

ويقول: ومن الحزم المألوف عند سواس الحروب أن تكون حماة الرجال وكماة الأبطال في القلب فإنه مهما انكسر الجناحان فالعيون ناظرة إلى القلب، فإذا كانت راياته تخفق وطبوله تضرب، كانت حصناً للجناحين يأوي إليه كل منهزم، وإذا انكسر القلب تمزق الجناحان.

مثال ذلك أن الطائر إذا انكسر أحد جناحيه ترجى عودته، ولو بعد حين وإذا انكسر الرأس ذهب الجناحان، ولا تحصى كثرة انكسار جناح العسكر وثبات القلب، ثم يرجع الفارون إلى القلب ويكون الظفر لهم. وقل عسكر انكسر قلبه فأفلح اللهم إلا أن تكون مكيدة من صاحب الجيش، فيخلي القلب قصداً وتعمداً ولا يغادر به كبير أمر حتى إذا توسطه العدو واشتغل بنهبه انطبق عليه الجناحان.

ومن أعظم المكائد في الحروب الكمين، ولا يحصى كثرة كم من عسكر استبيحت بيضته وقل عربه بالكمناء، وذلك أن الفارس لا يزال على حمية في الدفاع وحمي الذمار، حتى يلتفت فيرى وراءه بنداً منشوراً ويسمع صوت الطبل، فحينئذ يكون همه خلاص نفسه ولتكن همتك وراء ذلك وعليه مدار الحروب، وعليك بانتخاب الشجعان واختيار الأبطال فاصطنع ذوي البسالة والإقدام والجراءة، ولا عليك أن لا يكثروا وبعيد عليك أن يكسروا، فهم في الجيش وإن كالإنفحة في اللبن. ولا تنس بيت الشاعر:

 

والناس ألف منهم كواحد                              وواحد كالألف إن أمر عنا

بل قد جرب ذلك فوجد الواحد خيراً من عشرة آلاف.